تَطرح أدبيّات رائجةٌ في علوم السياسة و«حلّ النزاعات» آلياتٍ وديناميّات مختلفة لوقف الحروب أو الصراعات المسلّحة، وتقترح مساراتٍ ومصالحاتٍ أو تسويات أو إعادة إعمار أو إدارة انتقالية للمناطق التي حلّت بها نكبات أو كوارث إنسانية بسبب القتال والتدمير والخراب.
ويزعم المدافعون عن هذه الجوانب والمروّجون لها أن التعامل مع تحدّيات «اليوم التالي» للصراع هو المنطلق السليم الوحيد لتجنّب تكرار الظروف التي تُفضي إلى تجدّده أو إلى صراعات أُخرى قد تتناسل منه.
غير أن مسائل «اليوم التالي» وسبل حلّ النزاعات ومساراتها تفترض بالضرورة أموراً ليست أطرافُ كثرةٍ من الصراعات في عالم اليوم معنيّة بها.
فهي تفترض مثلاً أن مؤدّى كل صراع هو إقرار أحد أطرافه باحتمال هزيمته، وسعيه بالتالي للتفاوض قبل الانكسار أو الاضطرار لاحقاً للقبول بشروط تزداد مع مرور الوقت سوءا.
وهي تفترض أيضاً «عقلانية» في سلوك الأطراف المتصارعة وداعميها يجعلها تقبل في لحظة معينة بوقفَ القتال والنيران حمايةً لمقدّرات اقتصادية وحربية وبشرية.
وهي تفترض كذلك قناعة لدى المتصارعين مفادها أن الكيانات بجغرافياتها أو المشاريع السياسية أو المجموعات الإثنية التي يدافعون عنها أو يسعون «لتحسين ظروفها» غير مهدّدة بالزوال أو بالقضم إن ساوموا أو قبلوا بتسويات تُنهي الصراعات المسلّحة المرتبطة بها.
وهي تفترض أخيراً إلماماً بأسباب الصراع وأوجهه وبأهداف المتصارعين القصوى وتلك التي يمكن القبول بها، كي تُطرح المبادرات على أساسها، وينطلق العمل التسووي والتفاوضي لإيجاد الحلول وتسويقها.
وكل هذا يدعونا للتدقيق بمشروعية الطرح الذي يُروّج له راهناً حول «اليوم التالي» في غزة، أو حول ما بعد حرب غزة، ويدعونا للبحث كذلك في أهدافه.
فالحرب في غزة وعليها تمثّل كحالة صراعية نقيض ما ورد آنفاً لجهة افتراضات حل النزاعات والتسويات والاتفاق على الخطوات والمسارات التي يمكن أن تلي الصراع المسلّح بين الأطراف المعنية.
ذلك أنها أولاً حرب إبادة إسرائيلية تهدف إلى القضاء على «العدو» وليس إضعافه أو إنهاكه لفرض شروط الحل عليه. ولا يعني الأمر قتل جميع الغزاويين، بل قتل أعداد مهولة منهم والتسبب بإعاقات دائمة وبأمراض عقلية ونفسية لأعداد ضخمة أُخرى، وتدمير مقوّمات حياتهم بأكملها، من بنى تحتية ومساكن ومصادر مياه ومستشفيات ومدارس وجامعات ومعامل وحقول زراعية، وجعل الحياة في جغرافيّتهم شديدة الصعوبة على مدى عقود مقبلة، بما يدفع من يستطيع منهم المغادرة على فعل ذلك تغييراً أيضاً لديموغرافيّتهم ككلّ.
والحرب في غزة هي ثانياً حرب ترتبط بمشروع إسرائيلي أوسع هدفه بموازاة الإبادة فيها ضمّ الضفة الغربية أو أجزاء منها وترحيل ما أمكن من سكّانها أو إخضاعهم لشروط حياتية تدفعهم مع الوقت إلى الاستسلام للأمر الواقع، والاكتفاء بالعمل لتحسين ظروف معيشتهم في مناطق لا تواصل بين أوصالها.
والحرب في غزة هي ثالثاً حرب اجتثاث للأطراف الفلسطينية المقاتلة، أي حماس والجهاد وغيرهما، ممّن لا قبول إسرائيلياً بأدوار لها في «اليوم التالي» أو في ما يفترضه هكذا يوم وِفق الأدبيات النظرية المشار إليها.
لهذه الأسباب، يهدف الحديث المروَّج له في بعض العواصم الغربية والعربية عمّا بعد الحرب في غزة إلى تكريس العديد من مفاعيل هذه الحرب، والاكتفاء بالبحث في عملية إعادة إعمار مجرّدة من أبعاد سياسية وإنسانية وقانونية. فلا ربط يبدو قائماً في ما يُراد التسويق له بين القرارات الأممية وحق تقرير المصير وإعادة الإعمار المزعومة، ولا طرح لمسألة الدولة الفلسطينية المستقلة ولا لإنهاء الحصار على «القطاع» وسيادة سلطةٍ فلسطينية ما على حدوده وأجوائه ومياهه الإقليمية؛ والأهم والأخطر، لا ذكر لقانون دولي ولمسؤوليات عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة. وهذا كلّه يدلّل على أن «اليوم التالي» المقصود هو يوم إعادة إعمار لبنى تحتية ومساكن قد لا تتوفّر لمعظم سكّان قطاع غزة القدرة على التملّك أو الاستئجار فيها، وهو يوم تنافس بين شركات ومقاولين لا شأن لهم بنسيج اجتماعي محطّم ينبغي ترميمه، ولا بحقوق اجتماعية وثقافية لبشر يجب استعادتها.
ويمكن الافتراض أن اليوم التالي في غزة، غير المقبِل في أي حال بعد، يهدف وفق المنطق السياسي الإسرائيلي الذي يُرجّح أن تتبنّاه إدارة دونالد ترامب في واشنطن إلى الإعلان عن سماح بإدخال مساعدات وانطلاق إعادة بناء قد تستغرق حياة جيل ستصمّ آذانه بعد القذائف والصواريخ أصواتُ آليات رفع الأنقاض والحفر، بموازاة هجوم سياسي وميداني محموم في الضفة بذريعة القضاء على حماس وشركائها هناك، وبهدف توسيع المستوطنات والضمّ أو القضم…
هل يعني ما ورد أن لا إمكانية أو لا ضرورة للبحث في ما سيلي وقف إطلاق النار أو انتهاء الحملات العسكرية الإسرائيلية وعمليات التدمير الممنهج التي تنفّذها في غزة؟ بالطبع لا. فالواجب هو التفكير بالأمر وإعادة تعريف معاني الكفاح الفلسطيني وفهم ظروفه المتبدّلة وابتكار وسائل جديدة لتأمين استمراريته أو بالأحرى لدعمه من الخارج، في الأوساط التي تسيّست اليوم على وقع الحرب ورفضها، أو تلك التي نما وعيها الحقوقي والسياسي خلال العام الماضي وهي تتابع المقتلة وتكتشف حجم المظالم المسلّطة على الفلسطينيين. والواجب أيضاً هو العمل في كل مكان للتركيز على رفض حصانة القتَلة وعلى ضرورة المحاسبة ورفع الدعاوى على مجرمي الحرب الإسرائيليين حيث تتيح التشريعات المقاضاة الدولية، لربط المسارات القانونية والحقوقية باستحقاقات «اليوم التالي».
على أن هذا يفترض أيضاً التفكير بمرحلة انتقالية داخل قطاع غزة نفسه، توضَع خلالها موازنات دولية لعمليات إعادة الإعمار، بدءاً بالبنى التحتية ومحطات الطاقة والمياه والمستشفيات والمدارس والجامعات، مروراً بالمساكن وتأمين حقوق الغزاويين في تملّكها أو استئجارها، وصولاً إلى إعادة تأهيل المناطق الزراعية والصناعية. وهذا يعني الحاجة لإدارة مشتركة أممية-فلسطينية، تتطلّب بدورها خريطة طريق فلسطينية للمصالحات وتوزيع الأدوار وإعادة تشكيل السلطة الوطنية، وبلورة سياسات مواجهة لخطط إسرائيل في الضفة، ودعاوى لطلب تعويضات نتيجة التدمير في غزة، وغير ذلك من مهام خطيرة لا تبدو السلطة الحالية قادرة على الخوض بها أو راغبة بالأمر.
«اليوم التالي» في غزة إذاً ليس ذلك الذي اعتادت بعض أدبيات «حل النزاعات» التعريف به لاستثنائية ما جرى ولما يُخطّط له. وهو بالتأكيد ليس ذلك الذي يريده الإسرائيليون ومن خلفهم بعض الغربيين والأنظمة العربية. هو يوم ينبغي استعجاله لكونه دليلاً على وقف حرب الإبادة. لكنه يوم عسير يجب التحضير له لما في مساراته من حاجة لإعادة بناء سياسي ولعمل حقوقي ستفعل إسرائيل كلّ ما في وسعها لمنعهما أو لعرقلتهما.
هل يمكن الحديث اليوم عمّا بعد حرب غزة؟
Source
القدس العربي