سارع الرئيس التركي أردوغان إلى الاتصال بترامب، غداة الإعلان عن فوزه بانتخابات الرئاسة الأميركية. ونقلت الصحافة التركية عن الأول دعوته الرئيس المنتخب لزيارة بلده، وقوله إن ترامب تحدّث بإيجابية شديدة عن تركيا. ونقلت وسائل الإعلام عن أردوغان تفاؤله بالتعاون مع واشنطن في ظل رئاسة ترامب لحل الأزمات الإقليمية، وقيل إنه سيطلب منه سحب قواته من سوريا.
أما محمد جواد ظريف، نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، فاعتبر على حسابه على X أن فوز ترامب هو تصويت عقابي للديموقراطيين، احتجاجاً على “التواطؤ الأميركي على الإبادة في غزة والمجازر في لبنان”. ظريف وضع على منشوره إشارة لحسابَيْ ترامب ونائبه، والعبارة الأهم فيما دوّنه هي: “إيران، التي أظهرت عزيمتها وقدرتها على الوقوف في وجه أي عدوان، لن تتأثر بالتهديدات، لكنها ستقدّر الاحترام”.
بالطبع هناك العشرات من قادة العالم الذين اتصلوا بترامب، أو أبرقوا له، مهنّئين بفوزه، حتى إذا لم يكن خيارهم المفضّل في سباق الرئاسة. أي أن مثالَيْ أردوغان وظريف، على اختلافهما، يندرجان ضمن التودد المألوف للساكن الجديد في البيت الأبيض. ومما يبتعد عن المجاز ذلك القول إن أوساط الرئيس المنتخب تحوّلت بعد احتفالات الفوز إلى خلية نحل، فهذه الأوساط منشغلة بشدة بإعداد طواقم عمل الولاية الرئاسية الجديدة، وأيضاً بتقييم الاتصالات الخارجية التي يسعى أصحابها في وقت مبكر إلى حجز حيّز ضمن اهتمامات الرئيس العتيد، أو اهتمامات مستشاريه.
ولا يُستبعد أن نصادف لاحقاً معلومات تُنشر عن اتصالات بين مستشاري ترامب وجهات خارجية، ومن ضمنها لا يُستبعد أن يكون وسطاء لبشار الأسد قد باشروا الاتصال بأحد من هؤلاء، أو يسعون إلى حجز موعد قريب. الأمر لا يتعلق بمهارة الأسد ومن حوله، فمن المعلوم أنه منذ سنوات تعاقد مع مؤسسة ترويج عالمية، ومن وظائف مؤسسات الترويج تقديم الاستشارات للمتعاقد معها، والسعي لصالحه في أروقة صنع القرارات الدولية كالبيت الأبيض والوزارات ومجلسي الكونغرس.
في المحصّلة، ما يُحاك في دوائر صنع القرار هو بمعظمه بعيد فقط عن الإعلام، إلا أنه بات من تقاليد العمل السياسي، خصوصاً في بلد كالولايات المتحدة التي ينشط فيها عدد كبير من اللوبيات على مدار الوقت. أي أن نظرية المؤامرة، إذا صحّت أحياناً وفي جانب ما، لا تنطبق على هذا النشاط المتعارف عليه. ويُفترض، بناء عليه، أن تكون المعارضة السورية قد بادرت للاتصال بأحد ما من دائرة ترامب، أو أنها ستفعل ذلك أسوة بالمتعارف عليه، أو لتنافس الأسد الساعي في الاتجاه نفسه، أو على الأقل كي لا تترك له الاستفراد بتقديم روايته عما يحدث في سوريا.
ثمة ميل في أوساط سورية معارضة يدعم التوجه المشار إليه، خصوصاً لدى الذين في الأصل كانوا يفضّلون فوز ترامب على كامالا هاريس، ولو تحت يافطة انعدام الأمل من أن تُقدِم هاريس على خطوات دراماتيكية ضد الأسد، أو أن تضغط عليه بموجب العقوبات المفروضة من قبل. أما فيما يخص ترامب، بموجب وجهة النظر ذاتها، فالاحتمالات متساوية. إذ لا يُستبعد مثلاً أن يوجّه ضربة عسكرية كبير للأسد، مثلما لا يُستبعد أن يسحب قواته من سوريا في سياق الموافقة على إعادة تدويره. وإذا صحّ هذا التصور فهو يفتح على ضرورة سعي الأسد والمعارضة لدى ترامب، كلٌّ منهما لترجيح الكفة التي تناسبه.
شخص، مثل ترامب، يطرح نفسه نموذجاً للواقعية الفظة يُفترض أن يدفع فوراً إلى استبعاد المراهنة على المثُل والقيَم، وإذا كان الديموقراطيون يتلطّون وراءها أحياناً، فهو لا يمانع بالسخرية منها ومنهم، وقد سبق له مناداة رئيس عربي بالقول: “أين ديكتاتوري المفضّل؟”. ولقد تكررت إشارات ترامب الودودة إلى زعيم كوريا الشمالية وإلى بوتين، أي أن وصف بشار الأسد بالديكتاتور لن ينفع المعارضة السورية لنيل تعاطف ترامب، وكذلك لن ينال تعاطفه تذكيرُه بمجازر الأسد أو استخدامه السلاح الكيماوي، وربما هو لم ينسَ أنه وصفه بالحيوان بسبب ذلك، لكنه لاحقاً كان على وشك سحب قواته من سوريا بما يخدم الكيماوي.
فعلياً، لا مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية، على غرار قوات الأسد أو قسد، أو الجولاني. والهيئات السياسية التي تتولى تمثيل المعارضة لا تشرف إطلاقاً على الفصائل المسيطرة على أجزاء من الشمال السوري، الفصائل التي تخضع مباشرة لإشراف تركي، ما يجعل أنقرة في موقع المفاوض؛ نيابةً عنها وبالأصالة عن المصالح التركية. في الواقع لا تملك المعارضة ولو قليلاً من القوة التي تجعل شخصاً مثل ترامب ينظر إليها بتقدير، وحتى إذا كان عازماً على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، ويبحث عمّن يضبط الحدود من جهتي العراق ولبنان، فالمعارضة لا تستطيع تقديم هذه الخدمة عربوناً للتحالف معه.
من نافل القول أن الطرف المحلي الوحيد المرشّح لضبط الممر الإيراني في سوريا هو الأسد، وهناك أقاويل رائجة عن وساطات خليجية بينه وبين واشنطن، مبنية على استعداده للتخلي عن الحليف الإيراني وعن حزب الله. أما عن الحدود مع إسرائيل، فقد قدّم الأسد خلال ثلاثة عشر شهراً ما يزيد عن إبداء حسن النية، ولا يبدو مضطراً لتقديم المزيد بالمقارنة مع خطاب معارض يزايد عليه في الشعارات التي تخلّى عنها. ويمكن للأسد أن يقدّم إجابة أخرى أفضل لواشنطن من المعارضة فيما يتعلق بالإدارة الذاتية الكردية المدعومة أميركياً. فالمعارضة على قطيعة تامة معها وتواظب على اتهامها بالإرهاب، بينما يستطيع الأسد تقديم نفسه لترامب كوجه معتدل إزاء الأكراد، بما أن الحوار لم ينقطع بينه وبين قسد، فضلاً عن التنسيق الأمني “ولو الاضطراري” بينهما.
لمتابعي الشأن السوري أن يتخيّلوا سيناريو تفصيلياً، تجيب فيه هيئات المعارضة على أسئلة أميركية تتعلق باليوم التالي، وكيفية الوصول إليه، وأوراق القوة التي تملكها الآن، أو تتوقع امتلاكها عندما تتم إزاحة الأسد. ولا شكّ في أن أفضل السيناريوهات وأكثرها تنميقاً لن يكون عرضاً مغرياً لترامب كي يتدخل في سوريا أكثر مما تفعل الإدارة الحالية، خصوصاً وأنه صرّح برغبته في إنهاء الحروب، وقبل ذلك كان قد أبدى أسفه أثناء حملته الانتخابية عام 2016 لأنه أيّد يوماً التدخل الأميركي لإسقاط صدام حسين.
تحاشينا فيما سبق السيناريوهات الوردية، أي تلك التي يُفترض أن تخدم السوريين من دون أن يبذلوا أدنى جهد، ومبعث التفاؤل فيها أن يضحك القدر لهم أخيراً فتتلاءم مصالح الأقوى مع مصالحهم. وسيكون من القسوة تفنيدها بمعطيات باردة على النحو الذي ذهبنا إليه. إذ طالما ذلك كله يتعلّق بما يشبه المقامرة، فمن الرأفة أن تُترك مساحة للأحلام متى عُثِر على ورقة يانصيب!