في السويداء نساءٌ ورجال واظبوا طوال سنة على الاعتصام والتظاهر، وحافظوا على إيمانهم بثورتهم على الرغم من كل الظروف المحبطة حولهم. يستحق هذا الدأب كلّ إشادة وتقدير. إلا أن احترام حراك السويداء يوجب أيضاً ألا يتوقف التفاعل معه عند حدود التشجيع، وهو مع الأسف ما بقي سائداً في السنة الفائتة من عمره. فالسوريون من خارج السويداء لم يكونوا جزءاً من نقاش يتعلق به، وأصحاب البيت لم يفتحوا الباب والنوافذ لسواهم.
قبل سنة لم تكن الظروف واعدةً، لكن كان ثمة تعويل على أن تشجّع ثورة السويداء على حراك أوسع، وكان بعض الأصوات في الساحل تحديداً يغذّي تلك الآمال. بعض اليائسين من ثورة داخلية عارمة، كان لديه أمل بأن تشجّع الثورة على مقاربة دولية مختلفة لما يحدث في سوريا، عندما تبيّن أن الثورة الجديدة مقتصرة على السويداء، ثم انحسرت موجة الآمال مع السابع من أكتوبر، إذ انصرف الاهتمام الدولي إلى أهوال الحرب على غزة. إلا أن الظروف المحبطة بمجملها يجب ألا تمنع التساؤل حول مصير الوعود التي قدّمتها ثورة السويداء بشعاراتها التي ألحّت على البعد الوطني السوري لها، بل استرجعت إرث الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش للدلالة على أحقية السويداء بقيادة مشروع وطني سوري جديد.
على هذا الصعيد، لم يكن مطَمئناً إطلاقاً ذلك الصمت في السوشيال ميديا، يوم التاسع من الشهر الجاري، إذ أُعلِن تسليم آل الجرماني، ابنةَ مرهج الجرماني، دلع، المتهمة بقتل أبيها بناء على تحقيقات رفاقه في فصيل “لواء الجبل” الذي كان يقوده. وقد سبق لآل الجرماني، في الخامس من الشهر الجاري، أن سلّموا المدعو صادق الجرماني إلى الجهات الأمنية، بعد ساعات من قتله أرملة شقيقه مرهج، متهماً إياها بالضلوع في اغتياله الذي حدث قبل شهر من الآن. وقد صار معلوماً، بموجب التحقيقات التي أعلنها “لواء الجبل”، أن أرملة مرهج الجرماني وابنته وصديقها قاموا بقتله.
أيّ متابع لنشاط السوريين في وسائل التواصل، سيُفاجئه ألا تحظى التفاصيل السابقة بالاهتمام المستحق. فنحن إزاء جريمة من المؤكّد أن يضجّ بها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في أي بلد في العالم، ولو كانت محض جريمة عائلية. وليس من طبائع السوريين في وسائل التواصل، التغافل عن حدث مثير، هم الذين لا يوفّرون ما هو أقلّ شأناً بكثير من جريمة مقتل الجرماني.
لم تحظَ أيضاً قضية الجرماني بنقاش في وسائل التواصل من أبناء السويداء تحديداً، ومن المرجّح أن يكون هذا ما دفع غيرهم إلى التجاهل. والحق أن التجاهل غير مُطَمئن، فهناك الكثير من “الشياطين” التي يجدر التوقف عندها في التفاصيل. من ذلك أن مقتل الزوجة يخفي ما إذا كانت متواطئة مع السلطة لاغتيال زوجها، وحتى إذا كان يُراد طيّ هذا الجانب واعتبارها محض جريمة عائلية، فإن إخراج الأمر على هذا النحو يمكن أن يخضع لنقاش عام.
جدير بالذكر أن كشف مجريات التحقيق من قبَل “لواء الجبل”، وتسليم المتهمة “ابنة القتيل” لآل الجرماني، كانا في مضافة أحد مشايخ عقل الطائفة الثلاثة، يوسف الجربوع، في مدينة السويداء. اختيار مضافة الجربوع يرسم بدوره علامات استفهام إضافية، فهو مقرَّب من السلطة، وكان قد أكّد دعمه قوات الأسد عندما اشتبك المنتفضون مع حاجز “العنقود” الذي أقامته تلك القوات حينها، ثم ظهر في تسجيل مرئي معقِّباً على مقتل أطفال مجدل شمس، لتظهر صورة بشار الأسد وراءه وكأنها الغاية الأساسية من بثّ كلمته.
وإذا بات يُنظر إلى الشيخ الجربوع كصمّام أمان بين المنتفضين والسلطة، فهذا شأن جدير بأن يكون موضع نقاش عام، بما ينطوي عليه من قبول علني بانقسام السويداء بين ما يمثّله هو، وما يمثّله شيخا عقل الطائفة الآخران، حكمت الهجري وحمود الحناوي. في هذه الحالة، وفي السياق ذاته، من المستحسن عدم التقليل من شأن ما حدث قبل عشرة أيام في بلدة مفعلة، إذ أُعلن تشكيل فصيل مسلّح يقف خلف “قائد الوطن”. وعندما حاول النشطاء دخول البلدة لإحياء مظاهرة مسائية فيها، رداً على إعلان تشكيل الفصيل، مُنعوا من دخول البلدة، وأطلق الفصيل الموالي أعيرة نارية في الهواء، وفجّر قنبلتين، ما أدى إلى ترهيبهم وانسحابهم.
أتى اغتيال مرهج الجرماني في أعقاب تطورات عديدة، أهمها بروز فصيله مع فصائل أخرى باتت تُطلق عليها تسمية الفصائل المحلية. وبرزت الفصائل مع عمليات اختطاف رهائن من قوات الأسد ومخابراته، بهدف المقايضة على معتقلين من بنات وأبناء السويداء. وما يلفت النظر أن تلك الفصائل نالت الشكر والتحيات من نشطاء يعلنون أنهم ضد العسكرة، أيضاً من دون نقاش يفنّد التناقض بين دعاوى السلمية والاستقواء عملياً بالسلاح.
في الواقع، كثيرة هي التطورات التي كان من الممكن الخوض فيها بنقاش عام، وهي مناسبة ليفتح أصحاب البيت بابه ونوافذه أمام سوريين آخرين كي يشاركوا فيه. هذا ما لم يحدث، بل حدث قبل أربعة شهور أن امتعض نشطاء لأن قلّة من أبناء السويداء تداولوا مقالاً عنها لكاتب ليس منها، وفعلوا ذلك بألفاظ توبّخ الذين تداولوا المقال بوصفهم يفضّلون الخارج على الداخل، أي أنهم ليسوا منتمين إلى مَحلّيتهم بما يكفي!
النشطاء الممتعضون لم يجدوا “مثلاً” غضاضة في نص بيان آل الجرماني وآل خليل، إثر قيام صادق الجرماني بقتل أرملة شقيقه، وفي النص تأكيد من آل الجرماني “على الدور البارز لعائلة أبو فخر في توطيد القيم المعروفية الكريمة منذ قدومهم إلى الجبل”. والعبارة الأخيرة تحيل إلى تراتبية اجتماعية واضحة بين من يرى نفسه أصيلاً، ويرى الآخر أقل أصالة بحكم أقدمية الأول في المكان، وهي تراتبية لا ينسجم التمسك بها وإعلانها مع ثورة تتطلع إلى أفق وطني، مع التأكيد على وجود ما يماثلها أو يزيد عليها في العديد من أنحاء سوريا.
كانت دعاوى الخصوصية قد ظهرت منذ بدء الانتفاضة، وكان تفهمها واجباً بسبب عدم معرفة معظم السوريين بأحوال سوريين آخرين. ويجوز القول هنا أن الثورة اكتشاف وانكشاف، وهو ما حدث حقاً بانكشاف السوريين الكبير العام 2011، وما كان منتظراً حدوثه مع ثورة السويداء التي طُرحت بأفق سوري، بل كرائدة للوطنية السورية المأمولة. وإذا كان الانفتاح الفعلي، على قوى سورية أخرى خارج سيطرة الأسد، متعذّراً مع المآخذ الموجودة على تلك القوى، فلعل الانفتاح على النقاش العام يعوّض ذلك الانسداد السياسي.
نفترض أن لخصوصية أية مجموعة، اعتباراً لا يتعارض إطلاقاً مع انفتاح حقيقي على الآخرين. والإفراط في زعم الخصوصية “صراحةً أو مواربةً” هو نوع من احتكار مشروعية الكلام عن التجربة، ونفيٌ لمشروعية كلام الآخرين إذا تكلموا، وليس ضرورياً كلَّ مرة أن يُبدي نشطاء امتعاضهم من كتابات الآخرين، إذ يكفي تجاهل ما يصدر عمّن هم خارج المجموعة لينقطع التفاعل، وتلقى الأحداث الخاصة بها تجاهلاً شبه مطلق على نحو ما رأينا في أحداث السويداء مؤخراً. مرة أخرى، لا يقتصر هذا على السويداء، وغياب الوطنية السورية “خارج الشعارات” هو ابنٌ للانغلاق وتغليب الخصوصيات على ما هو مشترك.
من السهل جداً الاكتفاء بتدبيج عبارات احتفالية بالذكرى الأولى لثورة السويداء، وأهلها يستحقون كل إشادة وثناء. ولقد تحاشينا ذلك الاستسهال احتراماً لمثابرة النساء والرجال الذين جعلوا من استمرار ثورتهم همَّهم اليومي. الثورة التي تستحق حقاً وفعلاً، لا قولاً وشعاراً فقط، أن تكون ثورة للسوريين.
عذراً التعليقات مغلقة