ليس محتّماً أن تندلع حرب إقليمية واسعة النطاق، إلا أن التهديد بها قائم، وبشدّة بين الحين والآخر. على ذلك، لن يكون من المؤكد أن يحمل كلام بوتين عن التصعيد في المنطقة، إشارة إلى دنوّ المعركة المقبلة، مثلما لا يجوز إهمال حديثه. فالعبارة المعنيّة هي الجملة الوحيدة “المفيدة” التي أعلنتها موسكو إثر لقاء بوتين-الأسد، الأربعاء الماضي، اللقاء الذي أُعلن عنه في اليوم التالي وغابت عنه المظاهر البروتوكولية المعتادة لاستقبال رؤساء الدول.
في لقائه مع الأسد قال بوتين: “إن الوضع في الشرق الأوسط متجه نحو التصعيد، وهذا يمسّ سوريا مباشرةً:. العبارة، بحد ذاتها، لا تتجاوز كونها توصيفاً لحالٍ يعرفه الجميع، إلا أنها في السياق الذي وردت فيه تحمل دلالة التحذير من تصعيد كبير مقبل، وتشير إلى أن ملف التصعيد المحتمل كان مهيمناً على اللقاء. ولا بأس بالتذكير، رغم انتفاء الحاجة، بأن اللقاء لا ينطوي على مباحثات بين بوتين والأسد الذي يُستدعى من وقت لآخر إلى موسكو. وكانت أوساط الكرملين نفسها قد نفت احتمال حدوث لقاء قريب بين أردوغان والأسد، برعاية روسية، مستبعدة بذلك أن يكون بحث العلاقة مع أنقرة دافعاً لإحضار الأسد إلى موسكو، بخلاف الوضع الإقليمي المتصل بالحرب على غزة.
استُقبل الأسد من الباب الخلفي، بينما كان نتنياهو “في اليوم نفسه” يُستقبل في الكونغرس الأميركي استقبال الأبطال. وبعيداً ممّا قد توحي به هذه المقارنة الشكلية من مفارقات هزلية، من المعلوم أن التكريم الاستعراضي الذي ناله نتنياهو أثناء خطابه في الكونغرس لا قيمة مباشرة له سوى بقدر ما يدعم موقفه في المفاوضات مع البيت الأبيض. وجانب مهم جداً من مباحثاته مع بايدن، ومن المباحثات التي لا تنقطع بين الطرفين، لم يعد يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة من حيث المبدأ، وإنما هو مرتبط بتفاصيل وقف إطلاق النار وبمدته، وبما يلي الأسابيعَ الستة المُدرجة في المرحلة الأولى لتبادل الأسرى والرهائن وعودة اللاجئين إلى شمال غزة.
لقد كانت تصريحات بايدن، ونائبته ومرشحة الديموقراطيين للرئاسة كامالا هاريس، واضحةً في الإصرار على وقف إطلاق النار، وفي المقابل عاد نتنياهو إلى التشدد في شروطه ردّاً على ذلك، ما يوحي بأنه لم يحصل بعدُ على الثمن المطلوب من واشنطن. الثمن الذي يطلبه نتنياهو يمكن تلخيصه بمستويين. الأول، هو عودة تدفق أنواع محددة من الذخائر الأميركية الثقيلة، والثاني موافقة الإدارة الأميركية على الفصل بين الساحات، وعلى أن وقف إطلاق النار في غزة لا ينصّ تلقائياً على وقف إطلاق النار في الجبهة الشمالية، فوق أنه غير نهائي في ما يخص غزة.
الكلام لا يدور اليوم عن حرب إسرائيلية شاملة على لبنان، وإنما تأتي الخشية من انفلاتها لتصبح شاملة. المطروح إسرائيلياً ينصّ على تصعيد نوعي محدَّد باستهداف مفاتيح القوة لدى حزب الله، ومحدود من حيث التوغل البري الذي لن يتعدى كيلومترات قليلة، ولن ترافقه تحصينات بقصد جعله مستداماً. التوقيت الأفضل إسرائيلياً للمعركة هو الذي يستبق الشتاء، ويعيد النازحين الإسرائيليين إلى الشمال قبل حلوله. وموضوع عودة هؤلاء إلى مساكنهم لا يقل ضغطاً على نتنياهو عن ضغط عائلات الرهائن الإسرائيليين في غزة. وفي حين يهدف الثاني منهما إلى وقف إطلاق النار، فإن الأول داعم للحرب.
لا ثقل يخص بشار الأسد وسلطته في المعركة الحالية، ولا في المعركة الآتية إذا وقعت. ما يهم تل أبيب، وموسكو أيضاً، أن الأراضي الواقعة تحت سيطرته تُستخدم ممراً لتهريب الأسلحة أو تهريب قطع منها إلى حزب الله. هذه النقطة تبدو كملتقى وكمفترق طرق بين العديد من اللاعبين. فموسكو تربطها مع طهران علاقة تحالف، إنما ليس على حساب دفء علاقتها بتل أبيب. وحكّام طهران قبِلوا بهذا الواقع المتضمن حرية الطيران الإسرائيلي إلى الحد الذي يكفي لاستهداف الميليشيات الإيرانية وقواعدها في كافة الأراضي السورية. وإذا كان من المؤكد أن الأسد لا يريد استفزاز إسرائيل، ما جعله ينأى عن الحرب في غزة إلى حد الاقتصاد اللفظي في ما يتعلق بها، فإن طهران لم تشأ توريطه، وفضّلت حمايته من الغضب الإسرائيلي.
ومن المتوقع أن يكون بوتين قد وضع أمام الأسد ما هو مطلوب منه في المرحلة المقبلة، حيث ستستهدف إسرائيل المصالح الإيرانية في أماكن سيطرته بشدة تتناسب مع التصعيد على جبهة حزب الله. في هذه الحالة لا يُنتظر من طهران أن تحافظ بدقة على التوازن القائم منذ السابع من أكتوبر، بل قد تتخلى عن حذرها في استخدام “حصتها” من الأسد، فتعرّضه لنقمة إسرائيل. على الأرجح، هذا هو مغزى قول بوتين: لسوء الحظ، تميل الأمور إلى التفاقم كما نرى، وهذا ينطبق أيضاً على سوريا. يبدو أن التواصل الروسي مع طهران غير مطمئن بما يكفي إلى النوايا الإيرانية، لذا عمد بوتين إلى لقاء الأسد، وربما إبلاغه برسالة تحذير إسرائيلية.
ليست المسألة أن الأسد يريد أو لا يريد اعتزال الحرب، كما فعل حتى الآن، فمن المفروغ منه أنه نأى بنفسه عنها. المسألة هي لاحقاً في قدرته على اعتزال الحرب إذا توسعت، وإذا اقتضت مصالح طهران استخدام الميليشيات الإيرانية ضد إسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية، أي من الأراضي التي يُفترض أنها تحت سيطرة قوات الأسد بموجب اتفاقية الهدنة المستمرة بين الجانبين منذ أكثر من نصف قرن. والمطلوب قد لا يكون سهلاً، إذا تضمّن عدم سماحه للميليشيات الإيرانية باستخدام مناطق تنتشر في بعضها فعلاً، مثل بعض المناطق القريبة من الجولان التي تنشط فيها ميليشيات إيرانية وأخرى تابعة للحزب.
قد يصبح سيناريو الحرب محتماً في غضون أيام، أو أسابيع قليلة، إذا زاد منسوب التصعيد بين إسرائيل والحزب. نتنياهو، الذي يبذل جهده للتهرب من استحقاق التغيير داخلياً، ربما يجدها فرصةً مناسبة في الانتخابات الأميركية لشن الحرب التي يريدها، على أمل ابتزاز الحزب الديموقراطي في توقيت حرج سابق عليها. أي أن الفترة الحرجة هي كلما اقتربنا من الخريف، وصولاً إلى موعد انتخابات الرئاسة الأميركية والتجديد النصفي للكونغرس في الخامس من نوفمبر المقبل. لقد قيل الكثير من قبل عن علاقة بشار الأسد بإيران، وعن محاولات إقليمية أو دولية لإبعاده عن طهران، ولعل كل ما قيل من قبل ليس له جدية الامتحان الذي سيضعه فيه توسع الحرب، فهو يدرك جيداً عواقب الانحياز إلى واحد من طرفيها، ويدرك جيداً أن المراوغة لا تنطلي على أيٍّ منهما.
عذراً التعليقات مغلقة