يثير تمرد عشائر عربية على سلطة قسد في دير الزور ثلاث مسائل مختلفة، من شأن أخذها معاً بعين الاعتبار أن يساعد في بناء صورة أوضح لما جرى وتوجه أصوب بشأنه. تتصل أولى المسائل بشكاوى وجيهة لسكان المنطقة من متولي السلطة الفعلية فيها؛ والثانية بما تواتر من معلومات عن ضلوع أسدي إيراني في الدفع نحو المواجهة؛ والثالثة بالعنوان الذي اختير لهذا التمرد من المنخرطين فيه: انتفاضة العشائر.
قسد هي اختصار لعبارة «قوات سورية الديمقراطية» التي ظهرت بعد تحطيم سلطة داعش في مناطق من حلب والرقة ودير الزور والحسكة بقيادة أمريكية وقوات برية عمادها «وحدات حماية الشعب» الكردية، الذراع العسكري لتنظيم «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني» الفرع السوري لـ«حزب العمال الكردستاني» في تركيا. تستجيب التسمية للتحول المتمثل في وقوع مناطق واسعة سكانها من العرب تحت سيطرة هذه القوات، ويحتمل كذلك أن التسمية تريد إعطاء بعدٍ سوري، يحجب المتن الأساسي لهذه القوات، ومركز ارتباطها بالحامي الأمريكي. لكن هناك بالفعل مقاتلين عربا ضمن قسد، وإن في مواقع غير مؤثرة. نظام الحكم في مناطق سيطرة قسد يسمى الإدارة الذاتية، ويفترض وفقا لما تقول التسمية إن السكان المحليين يديرون شؤونهم بأنفسهم. لكن الذات الفعلية في نظام الإدارة الذاتية هي تنظيم «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني». قياديو التنظيم السوري والإرادة الذاتية، مثل مظلوم عبدي وإلهام أحمد وألدار خليل كانوا قياديين في الحزب الأم في تركيا، وكان من أول ما فعلوه بعد طرد داعش من الرقة رفع صور زعيم التنظيم المعتقل في تركيا، عبدالله أوجلان. هذا المنشأ الأوثق صلة بصراع كرد تركيا وتاريخهم وذاكرتهم طوال عقود، وليس إلا ثانوياً بتاريخ سوريا وصراعاتها، بما في ذلك تطلعات الكرد السوريين، هو نفسه ما زود هذا التنظيم ببنية حديثة متماسكة، وقيادات متمرسة، منهم المذكورون. وهو ما سيظهر كنقطة قوة بالمقارنة مع أي تشكيلات سورية أخرى ظهرت بعد الثورة.
شكاوى السكان المحليين تتصل بالضبط في أنهم غير ممثلين في السلطة التي تحكمهم ويفترض أنها سلطتهم، فليس هناك ما هو ذاتي في نظام الإدارة الذاتية. صحيح أن هناك عربا في أجهزة الإدارة الذاتية، لكن هنا أيضاً في مواقع واجهية وغير فاعلة. وقد يكون النموذج الأقرب لهذه السلطة هو في الواقع النظام الأسدي من حيث البنية المزدوجة للحكم: ظاهرة عامة وباطنة خاصة، ومن حيث النرجسية والثناء المستمر على النفس، من حيث المزايدة على الجميع، ومن حيث اللعب على حبال كثيرة في الوقت نفسه، ثم من حيث أن التذرع بداعش يحاكي تماماً تذرع النظام الأسدي بإسرائيل طوال عقود.
شكاوى السكان المحليين تتصل بالضبط في أنهم غير ممثلين في السلطة التي تحكمهم ويفترض أنها سلطتهم، فليس هناك ما هو ذاتي في نظام الإدارة الذاتية. صحيح أن هناك عربا في أجهزة الإدارة الذاتية، لكن هنا أيضاً في مواقع غير فاعلة
وفيما يتصل بالمسألة الثانية، الدعم المحتمل للنظام وإيران للتحركات العشائرية المضادة، لا يبدو أن ذلك رواية مختلقة، جزئياً على الأقل، حسب متابعين جادين مثل علي العبدالله في «العربي الجديد» (6 أيلول) وكل من حسن حسن وعمر أبو ليلى في «نيولاينز ماغازين» (اليوم نفسه). فرغم الأقنية المفتوحة لعلاقة الحليفين بتنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي، إلا أنه يرجح أن يفضلا مشاغلة الأمريكيين وإرباك ميلهم المحتمل لضبط الحدود السورية العراقية، وهي ما يتعارض مع مصلحة النظام الإيراني وأتباعه أولاً وأساساً. وفي إعلامه دعم الحكم الأسدي تحركات العشائر بسخاء، وإن يكن فعل مثله معارضون كذلك، دفعوا الأمور في اتجاه صراع عربي كردي، لا تساهم بنية سلطة الإدارة الذاتية في تقوية قلب من يتحفظ عليه أو يرفضه. يلتبس الأمر على صنف من المعارضين بين التمثيل الفعلي للسكان وإسماع صوتهم، وهو مطلب مستمر وتحرري، وبين منازعة إثنية يتعذر أن يكون لها محتوى تحرري.
على أن الوضع في مناطق سلطة الإدارة الذاتية أكثر تعقيداً من أن يختزل التفجر العنيف إلى مخطط خفي من إيران وتابعها الأسدي. فروسيا، الحامي الآخر للنظام، هي التي قصفت قوات عشائرية في مناطق منبج. ولما تتقادم عروض سلطة الإدارة الذاتية لأن تكون جزءاً من جيش النظام، يحوز قدراً من استقلال ذاتي ضمنه. هذا على الأقل مصدر تشويش للواقعين تحت سلطة الاتحاد الديمقراطي من العرب، وهو يثير التساؤل عما نسبه مسؤولو الإدارة الذاتية إلى تمرد العشائر من استجابة لتحريض من طرف النظام. من لا يزال يرعى مربعات أمنية للنظام في الحسكة والقامشلي إلى اليوم؟ ومن يغدر بقضيته المفترضة حين يتهم من يرفعون صوتهم في وجهه بأنهم مدفوعون من قبل النظام (هذا حين لا يتهمون بأنهم دواعش) وهو بين حين وآخر ينسق بعض أموره مع النظام؟ من وجهة نظر كاتب هذه السطور، وهو من مدينة يحكمها التنظيم الكردي، لا يجوز التساهل مع عودة النظام إلى المنطقة بأي حال، ولكن هل يضمن المرء ألا تفعل سلطة الإدارة الذاتية ذلك بالذات؟ الأكيد أن قواسمها المشتركة مع النظام أكبر منها مع أي معارضين له، وليس مع التابعين لتركيا وحدهم.
في المسألة الثالثة، يستغرب المرء هذا الإلحاح على العشائر وانتفاضة العشائر، من قبل متكلمين باسمها. ما هو الجيد في ذلك؟ لماذا ليس السكان المحليين؟ لماذا ليس أهل الأرض؟ لماذا ليس مهضومي الحقوق؟ لم تكن العشيرة يوماً سندا لعدالة أو تحرر: كانت مع النظام، ثم مع داعش، ثم مع قسد ذاتها، ويعمل زعيم عشائري في المنطقة ذاتها، نواف البشير، لحساب إيران. العشائر توالي أي سلطة ما دامت تعزز السلطة الداخلية فيها. ومثل الطوائف، العشائر لا تدوم من تلقاء ذاتها، ولا تستمر بفضل غريزة استمرار ذاتية فيضطر الفاعلون السياسيون لأخذها بالاعتبار، بل هي تستمر عبر تمفصلها مع السلطة القائمة، وعبر إرادة هذه السلطة الاستتباع الجماعي للمنسوبين إلى العشيرة. العشائر كيانات واهنة، تنسب لها قوة ودوام ممن لا يعرفون أنها تتبع كل صاحب سلطة ممكن، أو من يفضلون ذلك. ومما لا يغتفر لتنظيم الاتحاد الديمقراطي أنه من أجل إعطاء انطباع بعدم استبعاد العرب، حرص على تمثيل عشائري حصري للعرب في مناطق سيطرتها، وهو ما يذكر في واقع الأمر بمسلك السلطات الاستعمارية التقليدية، كما بالحكم الأسدي ذاته.
تسييس العشائر خطر لأنها تقوم على نزع الصفة السياسية للمنسوبين لها، ولأن بنيتها تعتمد على علاقة التبعية الشخصية وروابط الدم الحقيقية أو المتخيلة، لكن دون السياسية في كل حال. والتسمية فوق ذلك تفصل هذا التمرد عن أي سياق عام أو وجهة عامة، بما في ذلك سياق الثورة السورية، ولا تستحضر شيئا من ذاكرة السوريين القريبة أو البعيدة، ولا تخاطب أي سوريين ليسوا عشائريين (وهذا خلافاً لانتفاضة السويداء المزامنة).
ولا يتحتم أن يجري الاعتراض على العشيرة انطلاقاً من منطق تحديثي فوقي، أو بالاستناد إلى فردانية ليبرالية. يحفزه بالأحرى منطق الحقوق وتمثيل الناس لأنفسهم، واستقرارهم في أرضهم. ليس أن الدولة وفاعليتها التحديثية (التعليمية والقانونية والمؤسسية وغيرها) غير لازمة، لكن هذه الفاعلية تبقى سطحية إن لم ترتكز على أسس يجدها عموم المحكومين عادلة وموافقة لـ«حقهم في الحقوق».
منطقة الجزيرة السورية التي يسميها «تنابل» من كل نوع «شرق الفرات» كأن سكانها وتسمياتهم طارئون على جغرافيا منطقتهم وتاريخها، قد تكون من أهم بؤر الصراع إقليمياً وليس في سوريا وحدها، بالنظر إلى وجود الأمريكيين والنظام والإيرانيين والروس، واحتلال الأتراك مناطق في شمالها، ثم جوارها للعراق، وكونها الممر بين إيران والعراق والأسدية ولبنان. ما يحول دون تلاعب هذه القوى الغريبة بأي قطاعات من السكان هو أن يكونوا ممثلين في هياكل السلطة التي تقوم باسمهم وفي أرضهم، لا شيء غير ذلك ولا شيء أقل منه.
Sorry Comments are closed