بعد 12 عاما من الثورة على نظام الظلم والفساد، يبدو أن السوريين وصلوا، أو يتجهون، بخطى حثيثة، إلى الوصول إلى إجماع وطني على أن لا أفق لانتهاء أزمتهم ولا عودة للحياة الطبيعية في بلدهم من دون تغيير سياسي حقيقي، يتم بمقتضاه تجاوز تداعيات الكارثة التي حلّت بهم، وفي مقدمتها إطلاق المعتقلين، أو الكشف عن مصيرهم، وعودة اللاجئين، واسترجاع ما يمكن استرجاعه من كفاءات علمية، ويد عاملة ماهرة، مهاجرة/ مهجّرة، وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وبناء مؤسّسات الدولة وأجهزتها، وإخراج القوات والمليشيات الأجنبية من البلاد، وإنشاء لجنة للحقيقة والعدالة، وإنجاز المصالحة الوطنية.
ورغم أن هذه المطالب رفعها جزء كبير من السوريين منذ سنوات، إلا أن إجماعًا حولها، أو حول أكثرها، بدأ يتبلور، أخيرا، فقط، مع انتهاء مرحلة المواجهات العسكرية الكبرى، وصدمة الكثيرين بعسر العودة إلى الحياة الطبيعية التي منّوا النفس بها مع اتضاح هول الثمن الذي دفعته البلاد نتيجة الطريقة التي أديرت بها أزمتها، وبيان حجم الدمار الذي طاول الانسان، والمجتمع، والاقتصاد، والبنية التحتية، والقطاعات الإنتاجية الرئيسة (الصناعة والزراعة والسياحة) وانهيار قطاعات التعليم والصحة والأمن المجتمعي، وهيمنة زعماء المليشيات وأثرياء الحرب على ما تبقى من مقدّرات في كل مناطق السيطرة والنفوذ التي تقسّم البلاد.
بدأ الوعي بهذه المسألة (الحاجة إلى التغيير والإجماع عليه) يتشكّل مع توصل فئات اجتماعية سورية، من مذاهب مختلفة (سنة، وعلويين ودروز وإسماعيليين وغيرهم) كانت إما محايدة، متوجّسة من التغيير، نظرا إلى عدم اتضاح معالمه، وربما كان لدى جزء منها بقية أمل في إصلاحاتٍ يُقدم عليها النظام، أو حتى كانت داعمة له مقتنعة بالسردية التي أنشأها عن الثورة باعتبارها مؤامرة أجنبية، أو موجة تكفيرية، سلفية … إلخ، وكانت، من ثم، تمنّي النفس بقطف ثمار التضحيات التي قدّمتها في الدفاع عن الوضع القائم، لاعتقادها أنه يخدم مصالحها، هذه الفئات توصلت إلى نتيجةٍ مفادها أن الحال الراهنة غير قابلة للاستمرار، وأن طي صفحة العقد الماضي، واستئناف الحياة الطبيعية، وكأن شيئا لم يكن، ما هي إلا أوهام وتمنّيات تحطّمت سريعا على صخرة الواقع.
برهنت التطوّرات التي جاءت بعد كارثة الزلزال الذي ضرب أجزاء من مناطق سورية في مطلع العام الجاري، وموجة التطبيع العربي والإقليمي مع النظام، والتي بلغت ذروتها باستعادته عضوية جامعة الدول العربية، خطأ الرهان على إمكانية تجاوز الأزمة من دون دفع الثمن المستحق للحل، فالدول ليست جمعيات خيرية، وهي غير مهتمة بحل مشكلات الآخرين، إلا إذا كان في ذلك مصلحة ما لها. من هنا التأكيد على مركزية الحل السياسي باعتباره المخرج الوحيد من الأزمة الراهنة، لأنه يساهم في حل مشكلة اللاجئين، والإرهاب، والمخدّرات التي تقلق دول الجوار. كما أن مسألة رفع العقوبات، التي نرفضها في المبدأ ومعها كل الادّعاءات التي تشهد “بذكائها”، وبأنها مُصمّمة لتجنب التأثير في حياة عامة الناس، باتت هي الأخرى، إلى جانب تمويل عملية إعادة الاعمار، مرتبطة بالحلّ السياسي بالنسبة لدول الغرب.
سوف يزداد الوضع في سورية قتامة خلال المرحلة المقبلة على الأرجح، وسوف تزداد الضغوط على السوريين، خصوصا مع اقتراب الشتاء، ونفاذ الموارد، وإفلاس الدولة، وعدم القدرة على توفير أبسط متطلبات الحياة، والمقصود بذلك متطلبات البقاء على قيد الحياة (الغذاء والدواء)، وتبدّد الأوهام حول إمكانية تحسّن الأحوال من دون تغيير في النهج والسياسات. يحصل هذا فيما يواجه حلفاء النظام مشكلاتهم الخاصة التي تُقعدهم عن دعمه، كالعادة، إذ بدأت تظهر تداعيات حرب أوكرانيا والعقوبات في الاقتصاد الروسي. أما الصين فهي غارقة في ديونها. وتواجه إيران وضعا اقتصاديا واجتماعيا قد يكون الأصعب. نحن ندخل إذا في مرحلة جديدة، وغير مسبوقة، من الأزمة إذا ظلّ النظام على عناده في مقاومة التغيير، والاستخفاف برغبة الناس فيه وإرادتهم في صنعه.
من المفيد لسورية والسوريين حصول تغيير سياسي سلس متفق عليه في ظل إجماع وطني يتشكّل أول مرة حول حتمية حصوله، ويُحيي الأمل بإمكانية رأب الصدوع التي دمّرت نسيج المجتمع، وكادت تقضي على فرص العيش المشترك المستمرّ منذ قرون. وهذا أفضل من حصول انهيار كامل إذا استمر النهج الراهن.
Sorry Comments are closed