المقارنة بين من انحازوا إلى هتلر من العرب ومن ينحازون اليوم إلى بوتين ليست في صالح الأخيرين. فعدا أن المعروفين والمؤثرين ممن انحازوا إلى النازية قلة، فقد كانت المعلومات عما يجري في أوروبا محدودة، ولا يكاد يعرف أحد شيئاً مهماً عن النازية وإيديولوجيتها العنصرية ومشروعها التوسعي واستعداداتها الإبادية. حال عموم العرب في هذا الشأن مثل حال اليهود العرب الذين لم يعرف معظمهم عن الهولوكوست بالذات حتى صاروا في إسرائيل، حسب توم سيغيف، مؤلف The Seventh Million: The Israelis and the Holocaust.
وأهم من ذلك كانت البلدان العربية وقتها تحت الاستعمار الأوروبي، البريطاني والفرنسي بخاصة، بما يضبب الفرق بين التعاطف مع ألمانيا نكاية بالمستعمرين وبين انحياز فكري وسياسي واعٍ للنازية. يمكن المراهنة على أن مثل هذه الموقف الأخير كان نادراً جداً.
من شأن تسويغ عدوان بلد كبير قوي، نووي، على بلد مجاور وضم أراض منه، أن يضفي شرعية راجعة على ما تمارسه إسرائيل في فلسطين وسوريا وعلى الغزو الأمريكي للعراق وغيرهما من حملات السيطرة الامبريالية.
ليس الأمر كذلك اليوم. المعلومات وفيرة لمن يريد أن يعرف، وأكثر بلداننا غير مستعمرة من قبل القوى الغربية التي تناهض روسيا في أوكرانيا. هناك بالطبع قضية فلسطين حيث تقف القوى الغربية بثبات إلى جانب المحتلين الإسرائيليين، ما ينال من فرص ظهور مواقف أكثر توازناً من طرفنا حيال القضايا الدولية حين يكون الغرب من أطرافها (ولا يكاد يكون ثمة شؤون دولية ليست كذلك)، بل ينزلق كثيرون إلى اعتماد منطق عدو عدوي صديقي، مما يبدو أنه الحال فعلاً.
لكن هذا منطق قصير النظر لأسباب عديدة، أولها أن إسرائيل لم تقف إلى جانب حكومة كييف رغم طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لذلك مراراً، وتبدو إلى الآن أقرب إلى روسيا منها إلى أوكرانيا. روسيا ليست عدو عدونا الإسرائيلي كي يستقيم اعتبارها صديقاً.
في المقام الثاني، من شأن تسويغ عدوان بلد كبير قوي، نووي، على بلد مجاور وضم أراض منه، أن يضفي شرعية راجعة على ما تمارسه إسرائيل في فلسطين وسوريا وعلى الغزو الأمريكي للعراق وغيرهما من حملات السيطرة الامبريالية، وأن يكون برهاناً على معايير مزدوجة من طرفنا لا تختلف في شيء عما نأخذه بحق على القوى الغربية. إن كنا نسوغ التوسع الامبريالي الروسي، فمن منا يستطيع الاعتراض على جمجمة وزير الخارجية الأمريكي قبل أسابيع وهو يتكلم على «حاجات إسرائيل الأمنية» عند سؤاله عن إلحاق مرتفعات الجولان السورية بالكيان المحتل، بينما كان هو ينكر على روسيا فعل الشيء نفسه بخصوص مقاطعات أوكرانية؟
وفي المقام الثالث والأهم، يبدو الوقوف إلى جانب المعتدين الروس مسلكاً كيدياً، تبطنه ثقة بعدم الثقة بالنفس، أو يقين بأننا لا يمكن أن نكون طرفاً يخطط لنفسه ويقرر لنفسه ويطور تصوراً لمصلحته ويتصرف على ضوئه. بالعكس، يبدو أنه يميز البوتينيين العرب التكوين المكيود الذي يسعد أصحابه بالإساءة لخصومهم المفترضين بدل القيام بما قد يعود عليهم هم بالنفع. يبدو القوم بالفعل دون مستوى الذات المستقلة، يتفاعلون مع ما يجري في العالم وفقاً لما إذا كان «يروي الغليل» و«يشفي الصدور» و«يفش القلب» و«يعبّي الراس»، أي لما هو على مستوى الانفعال السلبي ورد الفعل. هذا لا يؤسس لفاعل سياسي عقلاني، يفكر ويخطط ويحسب، ويعمل على أن يصير طرفاً فاعلاً.
يبدو الوقوف إلى جانب المعتدين الروس مسلكاً كيدياً، تبطنه ثقة بعدم الثقة بالنفس، أو يقين بأننا لا يمكن أن نكون طرفاً يخطط لنفسه ويقرر لنفسه..
وليس في كل ما تقدم ما يدعو إلى الوقوف إلى جانب الأمريكيين في الصراع الجاري في أوكرانيا. الصحيح هو الوقوف إلى جانب الأوكرانيين المدافعين عن بلدهم، والذين لم يؤذونا يوماً. الصحيح هو إدانة الامبريالية الروسية التي لا تحترم العدالة لمواطنيها ولا لغيرهم، ولها مع الأوكرانيين «تاريخ من الجينوسايد والاضطهاد الثقافي والإنكار المستمر لحقهم في تقرير المصير»، على ما ورد في رسالة مفتوحة لأربعة اقتصاديين أوكرانيين إلى نوام تشومسكي (المثابر من جهته على مركزية أمريكية، لا ترى شيئاً في العالم غير ما يفعله الإله الأمريكي الشرير). كلام بوتين عن «المليار الذهبي» من أصحاب الامتيازات (مواطني أوربا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وربما اليابان)، وتصوير حربه العدوانية كعمل من أجل نظام عالمي جديد أكثر عدالة، هو دعاية رخيصة لا سند لها في سلوك روسيا في مجالها، وحيال الروس بالذات، فضلاً عن الشعوب الأخرى الواقعة تحت حكمهم. نظام بوتين محافظ اجتماعياً، حليف لليمين في أوروبا وأمريكا، يقوم على أوليغاركية ضارية، وهو مزيج من الستالينية والقيصرية وشوفينية روسيا الكبرى، حسب مقالة مطولة لإدفي بلينل، رئيس تحرير ميديابارت الفرنسية. بالوقوف إلى جانب بوتين نسيء للأوكرانيين دون ذنب منهم، ونسيء بالقدر نفسه لأنفسنا ولقضايانا.
في المحصلة، يبدو الموقف المؤيد للبوتينية دلالة على إفلاس أخلاقي خطير في مجالنا، قد يجد أصوله في توالي النكبات وانسداد الآفاق، وما تؤدي إليه من تبلد الأحاسيس، لكنه يبقى خطيراً ومؤسفاً جداً. الضعيف الذي يخسر حسه بالعدالة والكرامة يخسر التعاطف الذي يناله ضعيف عادل، وهو الذي لم يكسب هيبة القوي القادر.
إن لم يخسر بوتين حربه العدوانية فليس هناك احتمال لأن يخرج منها منتصراً. وهو ما يضع في الحالين من أيدوه في وضع سياسي أضعف، فوق كونهم في مواقع أخلاقية غير مشرفة. وبالتالي تتضافر الاعتبارات الأخلاقية والسياسية، المبدئية والبراغماتية، على الحث على إدانة البوتينية وحربها العدوانية.
كل هذا ولم نقل شيئاً عن أن روسيا بوتين هي قوة احتلال في سوريا، قتلت 6943 من المدنيين السوريين، بينهم 2044 طفلاً و977 امرأة، وفقاً لتقرير مفصل للشبكة السورية لحقوق الإنسان صدر في أيلول/سبتمبر الماضي. خلال سبع سنوات من تدخلها لمصلحة نظام فاشي يقوم على التعذيب والمجازر، ارتكبت روسيا بوتين 360 مجزرة، وشنت ما «لا يقل عن 237 هجوماً بذخائر عنقودية، إضافةً إلى ما لا يقل عن 125 هجوماً بأسلحة حارقة» حسب التقرير. و«ساهمت هجماتها بالتوازي مع الهجمات التي شنَّها الحلف السوري [الصحيح: الأسدي] الإيراني في تشريد قرابة 4.8 مليون نسمة، معظم هؤلاء المدنيين تعرضوا للنزوح غير مرة»، وهذا مع الاستهداف المنهجي للمنشآت الطبية والأسواق، ومع إنكار دائم لجرائم النظام، بل وتصنيع شهود الزور لنفي المجزرة الكيميائية في الغوطة عام 2013. معلوم كذلك أن روسيا بوتين استخدمت الفيتو 17 مرة في مجلس الأمن لحماية الحكم الأسدي من اللوم الدولي. وهي في ذلك تشغل موقعاً مماثلاً لموقع الولايات المتحدة حيال إسرائيل في تسهيل انتهاك القانون الدولي. في سوريا، بالمناسبة، أمريكا هي روسيا أخرى خلافاً لما هو الحال في أوكرانيا، وهما معاً تفكران في الصراع السوري بمنطق الحرب ضد الإرهاب، مما هو مبعث سعادة لنظام التعذيب الأسدي.
ربما ما كان لمواقف معادية للنازية في سنوات حكمها أن تغير شيئاً أساسياً في المصائر العربية والفلسطينية، لكن كان من شأنها أن تكون أساساً أخلاقياً صلباً لإدانة الصهيونية.
ربما ما كان لمواقف جهيرة معادية للنازية في سنوات حكمها أن تغير شيئاً أساسياً في المصائر العربية والفلسطينية، لكن كان من شأنها أن تكون أساساً أخلاقياً صلباً لإدانة الصهيونية وجرائمها، والسياسات الاستعمارية في عمومها. مثل ذلك بخصوص البوتينية التي تعتمد سياسة القوة في الداخل والخارج، وفي سجلها جرائم كثيرة في الشيشان وسوريا وأوكرانيا.
فإذا كنا ضد الامبريالية الأمريكية لأنها امبريالية لا لأنها أمريكية، فليس هناك ما يسوغ الوقوف إلى جانب امبريالية أخرى، روسية أو غيرها.
عذراً التعليقات مغلقة