تسببت الحروب والنزاعات المسلحة سواء منها الدولية أو غير ذات الطابع الدولي، بفقدان آلاف الأشخاص الذين تركوا خلفهم أسراً تنتظرهم، حيث إن المأساة الناتجة عن هذا الفقد لا تؤثر على المفقودين فحسب، بل تطال أسرهم أيضاً.
وإثر تزايد أعداد المفقودين نتيجة النزاعات المسلحة، ومع وجود تقصير عالمي فاضح إزاء قضيتهم، إضافةً الى تنامي الاهتمام بحقوق الإنسان وتطور المركز القانوني الدولي للفرد، كان لابد من إيلاء هذه القضية اهتماما خاصا وطرحها عالميا بصورة دائمة والسعي جديا لمعالجتها، عن طريق البحث عن ضحايا هذه الجريمة وتحديد مركزهم القانوني ومنح الحق لأسرهم بمعرفة مصيرهم.
تعريف المفقود، والتفريق بينه وبين المختفي قسراً:
عرفت القوانين الوطنية المفقود بأنه الشخص الذي يغيب عن أهله وبلده، وانقطعت أخباره واختفى أثره، ولا يعلم مكانه، ولا تعرف حياته أو مماته.
فيما عرفه القانون الدولي بأنه الشخص الذي صار مصيره مجهولاً، أي لا تعرف أسرته أي معلومات عنه، أو اعتبر مفقوداً على أساس معلومات موثوقة نتيجة لنزاع مسلح، أو عنف، أو اضطرابات داخلية، أو غيرها.
أما المختفي قسراً فهو الشخص الذي تقوم إحدى الجهات التابعة للدولة أو أحد مسؤوليها او أي شخص يعمل بموافقتها بالقبض عليه وسجنه بطريقة غير قانونية، مع إنكار ذلك أو رفض الاعتراف بمصيره، وقد يقوم بعملية الإخفاء عناصر مسلحة غير تابعة للدولة، ولا يتم إطلاق سراحه في كثير من الأحيان، حيث يتعرض المختفي قسراً للتعذيب خلال التحقيق ويحرم من جميع الحقوق في المحاكمة العادلة وفق الأصول.
الفرق بين الاعتقال القانوني والاعتقال التعسفي:
يختلف الاعتقال القانوني عن الاعتقال التعسفي بأن الاعتقال القانوني يتم وفق إجراءات القانون، حيث يتم القبض على الشخص عند ارتكابه فعلاً يستحق الاعتقال، ولتنفيذ ذلك يجب إصدار مذكرة اعتقال، وتصدر عن الجهة التي تحددها كل دولة، ويستثنى من ذلك حالة الجرم المشهود، حيث يحق للشخص المخول بالاعتقال أن يقبض على الفاعل في حال تحقق شروط الجرم المشهود.
أما الاعتقال التعسفي، فهو اعتقال لا يتم وفق الإجراءات والأصول القانونية أو لا يكون هناك دليل او اشتباه على ارتكاب المعتقل لأي عمل يخالف القانون.
وقد اعتبرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن “اعتقال الشخص بسبب آراءه السياسية أو بسبب ممارسته الحقوق المدنية ولسياسية يعتبر اعتقالاً تعسفياً”.
المفقودين والمختفين قسرياً في الثورة السورية:
إن قضية المفقودين والمختفين قسريا في سورية، ليست جديدة أو وليدة النزاع الحالي، بل تمتد إلى تاريخ بعيد، حافل بحالات الفقد والإخفاء لأسباب كثيرة، حيث كان الاعتقال والإخفاء القسري السلاح الأول الذي يستخدمه نظام الأسد لإسكات معارضيه السياسيين، وطيلة فترة حكم حافظ الأسد كان الاخفاء القسري يستخدم بشكل واسع لتخويف المجتمع السوري والسيطرة عليه.
فمنذ استلام حافظ الأسد السلطة سنة 1970 بدأ باعتقال خصومه وإخفائهم وحتى تصفيتهم، ولم يحتج الى محاكم لممارسة ذلك، بل قام بتأسيس محاكم صورية استثنائية مدعومة بقانون الطوارئ الذي بدأ في سوريا اعتباراً من تاريخ استيلاء حزب البعث العرب الاشتراكي على السلطة يوم 8 آذار 1963، ويتيح القانون المذكور للحاكم أو نائبه اتخاذ الكثير من التدابير التعسفية من بينها وضع قيود على حرية الأشخاص في التنقل والإقامة، وتوقيف المشتبه بهم، ممن يعتبرون خطيرين على الأمن والنظام العام.
وشهدت سوريا في الثمانينات أكبر عدد من حالات الاعتقال والإخفاء والقتل في فترة حكم حافظ الأسد، حيث قام بتصفية معظم معارضيه السياسيين من كافة الأطياف المعارضة، وخاصة المنتمين الى “حركة الإخوان المسلمين” ، حيث تم تشريع قانون خاص يتضمن الحكم بإعدام المنتمين الى الحركة المذكورة وتم تصفية الآلاف منهم في مختلف السجون السورية، وخاصة سجن تدمر، وسجن المزة، كما قام بإعدام عدد من ضباط الجيش في سجن المزة العسكري بحجة التعاطف مع حركة الإخوان المسلمين، ولا توجد إحصائيات محددة لأعداد الضحايا نظراً للتكتم على معلوماتهم من قبل النظام.
وقالت منظمة human right watch بأن وحدات خاصة تنتمي الى سرايا الدفاع التي يقودها رفعت الأسد قامت بقتل حوالي 1000 سجين أعزل في سجن تدمر، انتقاماً لمحاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد، مؤكدةً بأنه لم يتم الإعلان عن أسماء الضحايا.
وعندما خلف بشار الأسد والده في السلطة في العام 2000، امتلأت السجون من جديد بالمعتقلين السياسيين والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان، حيث بقيت حالة الطوارئ مطبقة في البلاد، وواصلت الأجهزة الأمنية والمخابرات اعتقال المدنيين دون مذكرات اعتقال، وغالباً ما كانت ترفض الكشف عن مكان وجودهم وتستخدم التعذيب ضدهم لإجبارهم على الاعتراف بما تريده.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات ضد النظام السوري في آذار 2011، عادت مشكلة المعتقلين والمختفين إلى الظهور، حيث قامت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري والقوات المسلحة والشرطة باعتقال وإخفاء عشرات آلاف السوريين على نحو ممنهج وواسع، شمل كافة المدن والبلدات التي كانت تتظاهر بشكل سلمي ضد النظام، وذلك بهدف ترهيب الشعب السوري، ولايزال مصير عشرات آلاف المعتقلين والمفقودين مجهولاً حتى اليوم.
ومع تحول الحراك من السلمي الى المسلح وتشكل الفصائل المسلحة فقد ازدادت قضية المعتقلين تعقيدا حيث مارست بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة عمليات خطف وإخفاء، ولحقتها التنظيمات الإسلامية المتشددة والمليشيات الرديفة للنظام السوري، لكنها لا تصل إلى مستوى الإجرام الذي مارسه النظام السوري، لا كماً ولا كيفاً.
وفي تقرير لها صدر في 21 تشرين الأول 2019 قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن “نحو 1.2 مليون سوري قد مر بتجربة الاعتقال منذ آذار 2011، وبحسب آخر تقرير للشبكة نفسها صدر في 30 كانون الأول 2021 فإن حوالي 150 ألف سوري لا يزالون معتقلين أو مختفين قسراً في سوريا منذ آذار 2011 وحتى آب 2021، منهم أكثر من 131 ألف شخص لدى النظام السوري، وحسب نفس التقرير فقد بلغت حصيلة المختفين قسراً أكثر من 102 ألف شخص، منهم أكثر من 86 ألف شخص مختف لدى النظام السوري.
علماً بأن معظم عمليات الاعتقال تتم دون مذكرة توقيف وذلك عند مرور الشخص على نقطة تفتيش عسكرية أو خلال عمليات المداهمة التي ينفذها الأمن.
يتعرض المعتقل للتعذيب منذ اللحظة الأولى لاعتقاله ويحرم من التواصل مع عائلته أو توكيل محام يمثله، كما تنكر سلطات النظام قيامها باعتقاله أصلاً، وبذلك يتحول معظم المعتقلين إلى مختفين قسراً.
ويذكر بأن النظام السوري مسؤول عن قرابة 88% من حالات الاعتقال التعسفية المسجلة حتى الآن، وهو أول وأكثر أطراف النزاع ممارسة لهذا الانتهاك، وغالباً فإن عائلات الضحايا لا تتمكن من معرفة الجهة التي قامت باعتقال ذويها، لأنه عدا عن الفروع الأمنية الأربعة الأساسية بكل محافظة فإن جميع المليشيات التي تقاتل إلى جانب النظام من حزب الله اللبناني والمليشيات المدعومة من إيران، وغيرها، تمتلك صلاحية الاعتقال والتعذيب والاخفاء القسري، وتقوم بقية أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا (مثل ميلشيا قسد والتنظيمات الإسلامية المتطرفة وفصائل المعارضة السورية المسلحة) بأفعال مشابهة لما يقوم به النظام السوري، ولكن بوتيرة أقل، ولا يقوم أي من أطراف النزاع بإظهار أي سجل يبين أماكن وجود المعتقلين او أسباب اعتقالهم ولا تعلم الغالبية العظمى من الأهالي مصير أبنائها.
في أيار 2018 زود النظام السوري إدارات الأحوال المدنية ببلاغات تتعلق بوفاة آلاف الأشخاص المعتقلين لديه، وتم بعد ذلك تسجيل تلك البلاغات واعتمادها فأصبح المعتقلين أمواتاً بتلك الطريقة.
ووفقاً لتقرير صادر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا في 3 تشرين أول 2018، فإن “هذه البلاغات تكشف وفيات بعض الأفراد المحتجزين تعسفياً من قبل الحكومة السورية بين عامي 2011 و 2014 والتي حدثت في مراكز الاحتجاز التي تديرها المخابرات والأجهزة العسكرية السورية، وعند فحص هذه البلاغات وجدت لجنة التحقيق أن السجلات بينت أن سبب الوفاة هو النوبة القلبية أو السكتة الدماغية، وأن أفراد من المنطقة الجغرافية نفسها يتشاركون تواريخ الوفاة وهو ما يدلل ربما على عمليات الإعدام الجماعية”، وطبقاً للجنة المذكورة يتضح بأن الحكومة السورية تقر من خلال إصدار بلاغات الوفاة المذكورة بأنها تحوز معلومات عن مصائر المعتقلين وتواريخ وفاتهم ومعرفة أماكن تواجدهم وقت الوفاة، فضلاً عن مسؤوليتها عن الوفاة، ولم تنشر سلطات النظام أي معلومات عن مواقع رفاة هؤلاء القتلى، كما لم تقم بإعادة أي متعلقات شخصية إلى عائلاتهم.
وأشارت لجنة التحقيق الى احتفاظ سلطات النظام السوري بدقة بسجلات للمعتقلين كما تنص المعايير الدولية لكنها لم تقم بإبلاغ الأسر بمصير المحتجزين كما يقتضي القانون الدولي، هذا ويظهر توفر السجلات قدرة سلطات النظام السوري على تقديم معلومات حول مصير المفقودين والمحتجزين، وإن حجب المعلومات عن مصير المختفين قسراً من جانبها يطيل أمد معاناة عشرات آلاف عائلات المختفين قسراً الأمر الذي كان له آثار مدمرة على العائلات.
وفي بعض مناطق سوريا التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش، لا يزال مصير آلاف الأفراد الذين قام التنظيم باعتقالهم أو اختطافهم مجهولاً رغم تبخر التنظيم من سوريا، ومع ذلك لم تتمكن العائلات من تحديد أماكن ذويها نتيجة غياب أي سلطة مركزية أو جهة يمكنهم الاتصال بها بشأن المفقودين.
القانون الدولي يعتبر عائلات المفقودين والمختفين ضحايا أيضاً، فالاختفاء القسري موجه ليس ضد الضحية فحسب، بل ضد عائلته أيضاً، فالعائلة التي تجهل مكان ابنها ومصيره تتخوف من العقاب في حال سألت عنه أو فتحت تحقيقاً بالحالة، كما أن هنالك حالات إخفاء قسري لعائلات بأكملها، كما تعاني عائلات وأصدقاء المختفين من اضطرابات نفسية بطيئة لعدم معرفة ما إذا كان المفقود لا يزال على قيد الحياة أو معرفة مكان احتجازه أو كيفية معاملته.
وتعاني العائلات ظروفا اجتماعية واقتصادية وقانونية صعبة، فنتيجة لجرائم الاعتقال والاختفاء القسري لم تتمكن العائلات من اتخاذ أي إجراء قانوني بهدف التصرف بأموال المفقود نفسه من بيع ورهن وإيجار أو قبض المستحقات المالية أو التعويضات الوظيفية لعدم معرفة مصيره حياً كان أم ميتاً، وبذلك تبقى الأصول ملكاً للمفقود طوال فترة غيابه، حتى صدور حكم قضائي بموته.
إضافة إلى ذلك ومنذ عام 2011 فقد أقرت سلطات النظام السوري الكثير من القوانين التي تجرد المفقودين وأسرهم من حقوقهم، ومنها القانون رقم 19 لعام 2012 وهو قانون ” مكافحة الإرهاب” والذي يعرف فيه الإرهاب على نطاق واسع بحيث يشمل أنشطة الدفاع عن حقوق الإنسان والمعارضة السياسية، كما يسمح القانون رقم 35 لعام 2017 لوزارة المالية بإصدار قرار بالحجز على الممتلكات المنقولة وغير المنقولة للأشخاص الذين يخضعون لقانون مكافحة الإرهاب، وحسب اللجنة الدولية لشؤون المفقودين في تقرير صادر في 25 آذار 2020، “تتجنب الأسر التي حاولت الحصول على حكم قضائي يقضي بالموت، ذكر أن ذويها احتجزوا أو فقدوا في السجون الحكومية، علاوةً على ذلك كثيراً ما يمتنع موظفو المحاكم عن قبول الطلبات المتعلقة بالمفقودين الذين تحتجزهم السلطات والتي تعتبرها مسألة أمنية وليست مسألة قانونية، وبالتالي تترك الأسر من دون سبيل قانوني لتعيين ممثل قانوني أو التماس حكم قضائي للوصول إلى الموارد المالية أو الممتلكات الأسرية”، “كما لاحظت الأسر والمحامين الذين تحدثوا إلى اللجنة صعوبة الحصول على محضر الشرطة الذي يثبت بأن الشخص مفقود، فغالباً ما ترفض الشرطة تقديم مثل هذه الوثيقة”.
أما النساء المتزوجات، بالإضافة إلى الأثر النفسي والفراغ العاطفي الذي يسببه الفقد فهناك الأثر الاقتصادي، فغالباً ما يكون الشخص المفقود هو المعيل، فتفقد النساء في هذه الحالة المعيل ولا يملكن أي إثبات على ذلك، فلا يعاملن معاملة الأرامل من حيث تلقي الرعاية والدعم والمساعدة واللاتي تكون لهن الأفضلية عند أغلب المنظمات، كما أن الزوجة لا تستطيع إنهاء العلاقة الزوجية، ولذلك فهي غير قادرة على المطالبة بالميراث أو الزواج مرة ثانية، فلكي تطلب الزوجة إنهاء العلاقة الزوجية بعد سنة كاملة على اختفاء زوجها فيجب أن تحصل على محضر رسمي من الشرطة ينص على أنه مفقود، وبسبب النزوح والتهجير واسع النطاق والذي أبعد ملايين السوريين عن منازلهم ومناطق إقامتهم (أحياناً خارج البلاد) فقد أصبحت إمكانية الوصول الى المؤسسات الحكومية محدودة جداً، بالإضافة إلى رفض القضاة في الكثير من الأحيان تعيين ممثل قانوني أو تقديم تسهيلات إلى الأسر إذا كان الشخص المفقود محتجزاً لدى سلطات النظام السوري.
الأطفال كذلك، يمكن أن يكونوا ضحايا الإخفاء القسري بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حيث إن فقدان أحد الوالدين عن طريق الاختفاء يشكل انتهاكاً خطيراً لحقوق الطفل، علاوةً على الآثار النفسية والاقتصادية، حيث إن غياب المعيل يجبر الطفل غالباً على ترك المدرسة والعمل وتحمل المسؤولية في سن مبكر، وقد يجبر الأم أو الأهل على تزويج بناتهم في سن مبكرة بسبب الظرف الاقتصادي القاسي.
ومن أشكال المعاناة التي لابد من ذكرها، حالة الانتظار وأمل اللقاء أو معرفة مصير المفقودين، حيث شكلت الصور المسربة من داخل المعتقلات “صور قيصر” صدمة كبيرة للعائلات وأكدت ما يعانيه المعتقل من تعذيب شديد وسوء الأوضاع الصحية والطبية وسوء التغذية، كما ساهمت جائحة كورونا بازدياد تخوف الأهالي من قيام النظام السوري بتصفية المحتجزين لديه بذريعة تفشي الوباء، حيث لا يصرح بأي معلومات حول أعداد المصابين، خاصة أن احتمال تفشي الوباء بينهم كبير نظرا للظروف المزرية التي تعانيها مراكز احتجازهم كونها أماكن مكتظة غير صحية، تفتقر للتهوية المناسبة.
وتجدر الإشارة الى أن مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان دعا في بداية الجائحة إلى الإفراج عن السجناء السياسيين والمعتقلين تعسفياً والفئات الضعيفة – الأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الطبية – لكن النظام السوري لم يخرج سوى 60 محتجزاً.
ابتزاز عائلات المعتقلين:
تتعرض العائلات التي تسعى للحصول على معلومات حول المحتجزين أو المختفين للاستغلال والابتزاز المالي من قبل المسؤولين والوسطاء والسماسرة الذين يتقاضون مبالغ ورسوما باهظة مقابل المعلومات أو المساعدة في تأمين الزيارة أو إطلاق سراح المعتقل وفي معظم الأحيان لا يتم تقديم المعلومات والمساعدات المطلوبة، ما جعل العائلات تفقد الثقة في أي جهة يمكن أن توصلهم إلى معلومات حول مصير أبنائهم.
كما إن الوضع الاقتصادي المزري يزيد معاناة معظم السوريين وخاصة عائلات الضحايا التي تعرضت للتهجير تاركةً كل ما تملك، وللقصف والتهجير فاقدةً كل ما تملك فأصبحت لقمة العيش همهم الأول والأصعب، وهذا ما كان سبباً في إهمال الكثير من العائلات لإثارة قضية المفقود أو توكيل محام له.
إضافة إلى عامل الخوف، فكثير من العائلات لا تجرؤ على المطالبة بالمفقود أو إثارة قضيته سواء قانونياً أو على الإعلان عن اسمه، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو عن طريق المنظمات المحلية والدولية لأنهم يعتقدون بأن ذلك سوف يعرضهم للانتقام من قبل الجهة التي قامت بالاعتقال، كما يعرض المعتقلين للمزيد من التعذيب أو الاضطهاد أو يقطع الأمل بخروجهم من السجن بشكل نهائي، ما يدعو إلى توعيتهم بحقوقهم القانونية وحقوق المفقودين ودعمهم وتمكينهم للمطالبة بالمفقودين والمختفين قسراً.
وحسب القانون الدولي فإن الإخفاء القسري جريمة ضد الإنسانية خاصة عند ارتكابه ضمن هجوم منهجي واسع النطاق ضد أي مجموعة من السكان المدنيين ولا تسقط هذه الجريمة بالتقادم وهو ما نص عليه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري لعام 2006، التي أكدت في مادتها الأولى على أنه لا يجوز تعرض أي شخص للاختفاء القسري، ولا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي آخر، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي أو بأي حالة أخرى لتبرير الاختفاء القسري، فضلاً عن ذلك فإن لأسر الضحايا الحق في معرفة الحقيقة فيما يتعلق باختفاء أبنائهم، والحق في طلب التعويض وجبر الضرر عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم ورد الاعتبار.
ووفقاً للمادة 2 من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري تصنف الشبكة السورية لحقوق الإنسان 70 % من عدد المعتقلين الإجمالي في سوريا بناءً على ظروف اعتقالهم على أنهم مختفين قسراً.
وصحيح أن سوريا ليست طرفا في الاتفاقية المذكورة وبالتالي ليس عليها التزام تعاقدي، لكن عليها التزام عرفي وذلك بموجب الإعلان الدولي الخاص بحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري لعام 1992، الذي يوضح جريمة الإختفاء القسري والتزامات الدول بالتفصيل، ويعتبر هذا الإعلان ملزما لجميع الدول، كما أن هذا الإعلان يقرر( حظر الإختفاء القسري والإلتزام المقابل بالتحقيق مع الجناة و معاقبتهم) كقاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي التي لايجوز لأي دولة مخالفتها بأي حال من الأحوال، بالإضافة الى أن الاختفاء القسري ينتهك سلسلة من القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني، ويتضمن انتهاكات لحقوق الإنسان الأساسية كالحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية والحق في عدم التعرض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو التي تحط من الكرامة والحق في عدم إلقاء القبض أو الاحتجاز بشكل تعسفي، والحق في محاكمة عادلة وعلنية، كما أن هذه الجريمة تتعارض مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي صادقت عليه الجمهورية العربية السورية.
على الرغم من الأدلة المؤكدة التي تظهر الانتهاكات واستمرارها في سوريا، لم يتم تحقيق أي تقديم في إطلاق سراح المحتجزين بشكل تعسفي أو تقديم معلومات عنهم ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، وعلى العكس من ذلك تستمر سلطات النظام السوري وبقية أطراف النزاع باعتقال الأفراد وإخفائهم بينما لا تحصل العائلات على أي نتائج عملية بسبب عدم تعاون أطراف النزاع مع المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، فلم نشهد حتى الآن أي نتائج عملية خارج إطار عمليات تبادل الأسرى المحدود الذي لا يستوعب حجم المشكلة.
أخيراً يمكن القول بأن الاختفاء القسري يشكل أحد الجرائم الجسيمة التي ارتكبها النظام السوري خاصة بعد انطلاق الثورة في العام 2011، وهو جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها بالتكتم على مصير الضحايا ومكان إخفائهم، لذا كان لابد من إثارتها بجميع المحافل الدولية والدفع بها باستمرار لتكون ضمن أي مفاوضات لأي تسوية سياسية مستقبلية، حفاظاً على حقوق الضحايا وعائلاتهم ولإنهاء هذه الظاهرة التي دفع الكثير من السوريين أثماناً باهظة لها ووصولاً إلى تحقيق العدالة.
Sorry Comments are closed