مرّت خطوة البنك المركزي التركي تخفيض سعر الفائدة مئة نقطة أساس من دون أن تحدث زلازل اقتصادية أو تزيد من تراجع سعر صرف الليرة التركية، المتهاوية أصلاً منذ نحو عامين، ما أحدث مفاجأة للمراقبين، ربما فاقت مفاجأة تخفيض سعر الفائدة، بعد تثبيت لجنة السياسات المالية السعر عند 14% ولسبع جلسات متتالية.
سؤالان توثبا على شفاه المراقبين، إثر الخطوة المجازفة التي اتخذتها تركيا أخيراً، على عكس السياق الدولي برفع سعر الفائدة بهدف امتصاص ولو جزءا من نسب التضخم المرتفعة، والتي لم يشهد العالم مثيلها، ربما منذ عقود.
الأول، لماذا خفضت تركيا سعر الفائدة، رغم أن نسبة التضخم السنوي وصلت إلى 80%، بل وتبوأت أنقرة المركز السادس عالمياً، على قائمة أعلى نسب التضخم؟
كما أن ارتفاع الأسعار، بعد تراجع العملة التركية إلى 18 ليرة مقابل الدولار، أنهك المستهلكين إثر ارتفاع مؤشر الأسعار لدى المنتجين بنحو 5.17% على أساس شهري وبلوغه 144.61% على أساس سنوي، ما يعني فيما يعني أكل الزيادتين على الحد الأدنى للأجور، اللتين قررتهما تركيا هذا العام لتحصين مواطنيها من عتبة الفقر.
فالمنطق وقوانين الاقتصاد يقولان، لابد من رفع سعر الفائدة لامتصاص جزء من فائض السيولة بالأسواق، بعد توجهها للمصارف طمعاً بسعر الفائدة المرتفع، فيتحسن سعر الصرف جراء التوازن بالمعروض النقدي وتتحسن القدرة الشرائية للمستهلكين.
وليس باستخدام الأداة النقدية، تحريك سعر الفائدة، الأسرع والأكثر نجاعة بامتصاص فائض التضخم، إعادة اختراع للعجلة، بل حل لجأت إليه كبرى المصارف المركزية حول العالم، بما فيها مجلس الاحتياطي الفيدرالي “المركزي الأميركي” مرتين متتاليتين هذا العام، آخرهما بنحو 75 نقطة أساس الشهر الماضي، في أعلى رفع تشهده الولايات المتحدة على سعر الفائدة، منذ ثلاثين عاماً.
وأما السؤال الثاني، الذي زاد طرحه بعد قرار المركزي التركي، نهاية الأسبوع الماضي، لماذا لم يتراجع سعر صرف الليرة، إثر قرار تخفيض سعر الفائدة غير المتوقع، بل والمخالف لتوقعات الاقتصاديين الذين روّجوا أن تركيا ستحافظ على الرساميل من الهجرة وتكسر نسب التضخم، عبر رفع سعر الفائدة؟
إذ لم تهتز العملة التركية إلا بنسبة ضئيلة هبوطاً، ما يمكن اعتباره تراجع ضمن سياق تشهده العملة التركية منذ العام الماضي، وقت فقدت نحو نصف قيمتها، بعد أن افتتحت عام 2021 على 7.4 ليرات مقابل الدولار، وأقفلته عند 13.5، واستمرت خسائرها لتبلغ 18 ليرة مقابل الدولار اليوم.
ربما الإجابة عن السؤالين معاً تأتي من أن قرار الفائدة المنخفضة غدا سياسة حكومية متخذة بصرف النظر عن التضخم والتعاطي الدولي لمكافحته، وسبق أن أودى رفع سعر الفائدة بمحافظين سابقين للمركزي التركي، مراد تشتين قايا عام 2019، وشهاب قافجي أوغلو عام 2021، قبل أن يعيّن شهاب قوجي أوغلو، المتفق بالمطلق مع سياسة الحكومة والرئيس رجب طيب أردوغان، بسياسة الفائدة المنخفضة.
بيد أن تلك السياسة التي أعلنها الرئيس التركي وباتت عرفاً يودي بمن يخترقه من منصبه، تتكئ على أسس اقتصادية أجدت نفعاً، وإن على مراحل، بصرف النظر أكانت مستغربة أم مخالفة لقوانين الاقتصاد.
فهدف إخراج الأموال من خزائن المصارف إلى القطاعات الإنتاجية، صناعة وزراعة، يفوق من منظور أصحاب السياسة الاقتصادية بأنقرة مخاطر التضخم، الذي يستخدمون لكبحه أدوات نقدية غير سعر الفائدة، ويبتدعون حلولاً وإن كبدت خزينة الدولة الخسائر، كما رأينا بإيداعات الليرة المحمية.
كما أن هدف الابتعاد عن شبح الركود والاستمرار بنسب نمو مرتفعة، وفق ما هو مخطط له، خلال الاحتفال بمئوية تأسيس الجمهورية العام المقبل، يتفوّق على مخاطر هجرة الرساميل أو جذب الأموال الساخنة، والتي تنظر أنقرة لمعظمها، من بوابة التوريط أو التهديد وقت يتغيّر اتجاه رياح السياسة.
قصارى القول: تتكئ تركيا، وضمن فلسفتها بتخفيض سعر الصرف وخططها الاقتصادية التنموية، على الصادرات والسياحة كقائمتين، ليس بتسريع الخطى نحو النمو ودخول نادي العشرة الكبار، بل وبتوازن العرض والطلب على النقد بالأسواق، وبالتالي تحسّن سعر صرف الليرة وتخفيض نسبة التضخم، وإن ببطء.
فبلوغ عتبة 300 مليار دولار قيمة صادرات للعام الجاري لم يعد حلماً صعب المنال، بعد تخطي صادرات النصف الأول عتبة 125 ملياراً، كما أن التهافت على السياحة بتركيا رفع من توقعات عدد السياح إلى 42 مليونا وعائدات بقيمة 35 مليارا، بعد زيادة إيرادات السياحة في الربع الثاني من العام الحالي بنسبة 190.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
نهاية القول: سبقت تركيا محافظي المصارف المركزية، الذين سيناقشون الخميس المقبل، خلال الاجتماع السنوي الكبير في مدينة، جاكسون هول الأميركية، واختارت الانتعاش واستمرار النمو، على تخفيض نسبة التضخم، لتبقي شبح “العدو المشترك” للمجتمعين بعد أن حسمت خيارها وسبحت عكس التيار، عبر تخفيض سعر الفائدة بزمن الرفع العالمي لها.
بيد أنه، وبغض النظر عمّا يمكن أن يحدثه الرئيس التركي من مفاجآت حول الطاقة والاكتشافات الجديدة، أو ما يمكن أن تعكسه عودة سياسة “صفر مشاكل” مع الجوار،
تبقى تحديات التضخم وارتفاع أسعار المستهلكين من المخاطر المتعاظمة أمام تركيا، بعد تراجع مستوى المعيشة وارتفاع نسبة الفقر، وربما من أهم الأسلحة التي ستشهرها المعارضة، بوجه الحزب الحاكم، خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية العام المقبل.
فإلى ذلك الحين، تبقى الأسواق هي الفيصل بالحكم على السياسات الاقتصادية التركية، وتبقى معدة الأتراك هي الموجه نحو صناديق الانتخاب، حيث لن يعترف الناخبون بغير استعادة رفاهيتهم من محرّض على اختيار الرئيس.
Sorry Comments are closed