على الرغم من أنها تعتبر من أخطر الجرائم وأشدها جسامة، نظراً لما تنطوي عليه من تهديد للأمن والسلم الدوليين، إلا أن تأطير مفهوم الجريمة الدولية في تعريف محدد لايزال غائباً، وذلك لعدم وجود تشريعات مكتوبة متفق عليها عالمياً تحدد ماهية الجريمة الدولية، وبذلك تأخذ الجريمة الدولية نفس طبيعة القانون الجنائي الدولي الذي يتولى تحديدها وتنظيمها في كونها ذات طابع عرفي، فليس هناك نصوص قانونية مكتوبة تحدد ما هي الأفعال التي تعتبر جرائم دولية أو تبين مفهوم هذه الجرائم، حتى الاتفافيات والمعاهدات الدولية التي حاولت الدول من خلالها تقنين الجرائم الدولية لا تعتبر منشئة لهذه الجرائم بل كاشفة ومقررة لها وذلك استنادا لما تواتر عليه العرف الدولي في هذا الخصوص، ما فتح باب الاجتهاد أمام الفقه ليقول الفقهاء فيه الكثير.
أركان الجريمة الدولية
على غرار القانون الداخلي الذي يتطلب توافر ثلاث أركان لاعتبار الواقعة جريمة داخلية وهي الركن القانوني و المادي و المعنوي، كذلك القانون الجنائي الدولي يتطلب توافر هذه الأركان في الفعل ليعتبر جريمة الدولية، إضافة الى الركن الدولي.
الركن القانوني
وهوي ما يعبر عنه بمبدأ الشرعية (لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني)، ويتطلب هذا الركن وجود نص قانوني مكتوب يجرم الفعل ويحدد عقوبته وأن يكون هذا النص موجودا قبل ارتكاب الفعل.
وبإسقاط هذا الركن على الجريمة الدولية ونظراً لعدم وجود مشرع للقانون الدولي نجد أن ذلك انعكس على فكرة الجريمة الدولية فلا يمكن الاهتداء إلى هذه الجرائم إلا من خلال الاستقراء الدقيق للعرف الدولي وهو أمر ليس سهلاً، فليست جميع المجتمعات على موقف واحد من العرف، فما تعتبره بعض المجتمعات جريمة قد يكون مباحاً عند غيرها، فالصفة العرفية لمبدأ الشرعية في نطاق القانون الجنائي الدولي تترتب عليها صعوبة حصر الجرائم الدولية، كما أن ما يمكن تحديده على أنه جرائم دولية لن يكون موضع اتفاق بين الدول جميعا، باستثناء تلك الأفعال التي لا تختلف المجتمعات حول طبيعتها الإجرامية أو الأفعال التي تشكل انتهاكا صارخا لما يسمى القواعد الدولية الآمرة.
وبذلك يمكن القول بأن الطبيعة العرفية للقانون الجنائي الدولي لا تسمح بمحاكمة الشخص على عمل لا يعتبر في العرف الدولي جريمة عند ارتكابها، وإلى جانب العرف الدولي توجد المعاهدات والاتفاقيات الدولية وتحتل المرتبة الثانية من مصادر القانون الدولي بعد العرف الدولي، لكن هذه الاتفاقيات لا تعتبر منشئة للجرائم بل كاشفة لها ومقررة لما تواتر عليه العرف كما أسلفنا سابقا.
الركن المادي
وهو النشاط أو الفعل الناتج عن إرادة إجرامية حرة ويتعداها إلى سلوك خارجي ملموس سواء كان هذا السلوك إيجابيا ( القيام بفعل) أو سلبيا ( الامتناع عن القيام بفعل) و يؤدي هذا السلوك إلى نتيجة إجرامية.
ومن الأمثلة على ذلك، أن تقوم دولة باستخدام القوة ضد سيادة دولة أخرى أو سلامة أراضيها او استقلالها السياسي و هو ما يسمى بجريمة العدوان والتي تعتبر من أكثر الأمثلة وضوحا على الجرائم الدولية التي تتم بسلوك إيجابي.
وكذلك، يعتبر جريمة دولية امتناع الدولة عن القيام بعمل كان يجب عليها القيام به قانونا، كأن تمتنع دولة ما عن اتخاذ تدبير يحول دون ارتكاب من يخضعون لسلطانها جرائم دولية متل الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب، فيسأل الرئيس الأعلى للدولة في هذه الحالة، وهي مسؤولية مستمدة من واجب الرقابة المفروضة عليه في منع الخاضعين لسلطته من ارتكاب جرائم دولية.
وسواء كانت بسلوك إيجابي أو سلبي، فلا يعتبر الفعل جريمة دولية ما لم تؤدي إلى حدوث نتيجة إجرامية، فالقانون لا يجرم سلوكا إلا إذا كان هذا السلوك قد سبّب ضرراً فعلياً أو كان ينطوي على خطر إحداث مثل هذا الضرر.
الركن المعنوي
وهذا الركن يعني توفر القصد الجنائي، أي أن تتجه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة سواء كان ذلك عمدا أو بغير عمد، و من النادر ارتكاب جرائم دولية غير متعمدة وهذا ما يبرهنه الواقع.
لكن هذه الجرائم قد تستند أحيانا إلى بواعث من نوع خاص، حيث ترتكب بتوجيه وتكليف من الغير، فيرتكبها الجاني لتحقيق مصلحة شخصية ما يصعب معه الجزم بوجود القصد المباشر انما تكون بتوجيه من سلطات الدولة مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية
الركن الدولي
ويقصد به توفر الركن الذي يجعل من الجريمة “جريمة دولية”، ويكون ذلك عندما يمس السلوك الإجرامي (الفعل أو الامتناع عن الفعل) مصلحةً يحميها القانون الدولي، أو عندما يكون الفعل الجرمي صادرا عن دولة ضد دولة أخرى، أو ضد أحد شخوصها المتمتع بالحماية الدولية، أو ضد الهيئات والمنظمات الدولية، أو يكون السلوك صادرا عن أفراد يعملون باسم الدولة أو بتوجيه منها وبحمياتها، أو عندما يرتكب السلوك ضد سلم وأمن المجتمع الدولي، وهذه الصفة تشكل دون شك أهم ما يميز هذا النوع من الجرائم وتضفي عليها صفة الدولية.
أنواع الجرائم الدولية
حاول المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية تقنين الجرائم الدولية حيث كان للانتهاكات التي خلفتها الحرب أثرها البالغ على السلم والأمن الدوليين وحقوق الانسان والعلاقات بين الدول، ما دفع الأمم المتحدة للتحرك وتجسيد المبادئ التي قامت من أجلها واقعا، فكلفت لجانها القانونية بحصر مختلف صور الجرائم الدولية وعقوباتها بعد ضبط مفهوم الجريمة الدولية، مستلهمة في جهودها كل المحاكمات الجنائية الدولية التي أعقبت الحرب وكذلك الرصيد الهائل من الآراء الفقهية في هذا المجال وأعدت لهذا الغرض عدة مشروعات علمية من طرف الفقه والمؤسسات الدولية أدت في النهاية الى اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي قنن أكثر الجرائم الدولية شيوعا وأشدها جسامة مع بيان العقوبات المقررة لها وهذا ما تناولته المواد 6 و 7 و 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم أبرز الجرائم الدولية إلى ما يلي،
1- الجرائم التي تهدد سلم وأمن المجتمع الدولي (وهي الجرائم التي تقوم بها دولة ضد سيادة دولة أخرى كاستخدام القوة في (جريمة العدوان) على إقليم دولة أخرى أو دعم نشاطات إرهابية على إقليم تلك الدولة أو التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لها أو القيام بأفعال للضرر باقتصادها غير ذلك).
2- جرائم الحرب: وهي الجرائم التي ترتكب خلافاً لقواعد وقوانين الحرب وتقع أثناء الحرب كقتل الاسرى وتدمير القرى والمدن واستخدام أسلحة محرمة دوليا.
3- الجرائم ضد الإنسانية: وهي الجرائم التي تشكل انتهاكا لقوانين وحقوق الانسان كالاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية، ومن أشكالها الإبادة الجماعية والتهجير القسري و لقتل العمد والاعتقال والاغتصاب، قد ترتكب هذه الجرائم التي تعتبر من أكثر الجرائم الدولية جسامة وأكثرها انتشارا من قبل دولة ضد دولة أخرى، وغالبا ما ترتكب من قبل السلطة الحاكمة ضد جماعة بشرية تحمل نفس جنسيتها وتقع تحت سلطانها بسبب توجهها السياسي أو انتماءها الديني أو العرقي.
عندما ترتكب جريمة على المستوى الدولي أو فعل يعتقد أنه يرقى لأن يكون جريمة دولية في جميع أنحاء العالم، أول ما يتبادر إلى الذهن هو من سيتعامل معها، بالتحقيق والمحاكمة وإيقاع الجزاء على الجناة..
وهذا ما سنتناوله في تدوينة لاحقة
عذراً التعليقات مغلقة