سيراً على قدميه، وعلى مدار خمسين يوماً، قطع مأمون مسافة 200 كلم بين ريف دمشق الغربي ومحافظة القنيطرة مروراً بدرعا، متنقلاً بين قرية وأخرى حيث تُقيم المجموعات المعارضة المسؤولة عن طرق نقل الجرحى في الجنوب السوري، باحثاً عن صديقه عمران الذي كان نُقل قبلها بأربعة أشهر، لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية بعد إصابته في ريف دمشق الغربي مطلع عام 2014 وانقطعت جميع الأخبار عنه.
سوريون كثر باتوا في عداد المفقودين بعد دخولهم المناطق الإسرائيلية لتلقي العلاج خلال سيطرة فصائل المعارضة على محافظتي درعا والقنيطرة الحدوديتين، وانضموا إلى آلاف السوريين الذين اختفوا قسراً خلال السنوات العشر الماضية، إذ دخلوا تلك الحدود للعلاج وقُطعت أخبارهم. وعلى رغم عدم جدوى البحث عن المختفين في سجون النظام في معظم الحالات، إلا أن عملية البحث متاحة للبعض، على خلاف المختفين داخل إسرائيل الذين باتت عملية البحث عنهم شبه مستحيلة، نظراً إلى حساسية قضية دخولهم حدود “العدو” الأبرز لمعظم المجتمعات العربية.
علاج خارج الحدود
على الطريق بين منطقتي خان الشيح وبيت جن رفي يف دمشق الغربي، وقعت المجموعة المقاتلة تحت إمرة مأمون (اسم مستعار) وهو قيادي سابق في فصيل يتبع للمجلس العسكري للجيش السوري الحر، في كمين أعدّته مجموعة مبايعة لتنظيم “داعش” في منطقة جبلية في 13 كانون الثاني/ يناير 2014، وتمكن ومجموعته من الفرار منهم سالمين، باستثناء عمران الذي أُصيب بطلق ناري أدى إلى تفتت عظم الفخذ.
لم تكن الإمكانات الطبية المتوفرة في المستشفيات الميدانية مُتاحة لإجراء عمل جراحي لقدم الشاب العشريني الذي ينحدر من ريف دمشق والذي انشق عن جيش النظام وانضم إلى صفوف المعارضة، فيما بقيت عائلته مقيمة في مناطق النظام.
كان السبيل الوحيد لإنقاذ عمران هو بتر القدم من أعلى الإصابة، وهو ما رفضه مأمون، مقرّراً إرساله إلى المستشفيات الإسرائيلية لإخضاعه لعمل جراحي، عبر مجموعة مسؤولة عن نقل الجرحى عبر طرق التهريب الجبلية والصخرية.
نُقل المصاب من قرية بيت جن إلى بلدة دير ماكر أقصى جنوب ريف دمشق الغربي، ومنها إلى قرية في ريف درعا (جنوب سوريا) تُسمى “الدناجة”، ليُسلّم من مجموعة لأخرى لحين وصوله نقطة العبور إلى الأراضي الإسرائيلية، حيث كان التواصل الأخير.
“سنقطع الحدود الليلة، وافق أحد المستشفيات على استقبال حالتي، وقالوا إن الرحلة لن تدوم طويلاً”. تلك كانت “الكلمات الأخيرة التي سمعتها من عمران في اتصال هاتفي من مقر مسؤول تنسيق المعبر مع الجانب الإسرائيلي، قبل ساعات من اجتيازه الحدود في 16 كانون الثاني 2014، يقول مأمون.
كانت وزارة الخارجية الإسرائيلية أعلنت عن استقبال سبعة جرحى سوريين كانوا بالقرب من الشريط الحدودي في 16 شباط/ فبراير 2013، مبيّنة على لسان نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك موشيه يعالون أن “استقبالهم حادث معزول تم لأسباب إنسانية، وأنّ ذلك لا يعكس أي تغيير في الموقف الإسرائيلي بعدم الرغبة في التدخل بالنزاع السوري، ولا يعني ترحيباً بأي تدفق محتمل للاجئين”، إلا أنها كشفت في الرابع من أيلول/ سبتمبر 2013 عن أعداد المصابين الذين تمّ استقبالهم في المستشفيات الإسرائيلية والذين تجاوزت أعدادهم 300 شخص منذ استقبال الحالات الأولى، معلنة عن تجهيز مستشفى عسكري ميداني في هضبة الجولان تضمّن غرفة عمليات وغرفة إنعاش وأخرى لتصوير الأشعة، إضافة إلى صيدلية وغرف للمصابين لاستقبال الحالات المماثلة، على أن يتلقوا العلاج فيها لمدة أقصاها أسبوع واحد، لنقلهم لاحقاً إلى مستشفيات مدنية لمواصلة علاجهم داخل اسرائيل.
فور إعلانها عزمها على استقبال الجرحى السوريين، أقامت السلطات الإسرائيلية نقاطاً “شبه رسمية” للعبور داخل الأراضي السورية، اعتمدت خمس منها كنقاط رئيسة، إحداها في منطقة المعلّقة جنوب القنيطرة، وأخرى في منطقة مسحرة أشرف عليهما شخص يُدعى “أبو نضال الصفوري”، وثالثة في منطقة جباتا الخشب، سُميت نقطة “الشحار” بإشراف المدعو “أبو حذيفة”، وأخرى في منطقة “البريقة” بإشراف “أبو جعفر”، إضافة إلى نقطة “بيت جن” في جبل الشيخ، والتي أشرف عليها المدعو عماد مورو، قائد “تجمع قوات الحرمون” المعارض سابقاً، وتولى كل منهم مهمة إرسال الملفات والتقارير الطبية للمصابين إلى الجانب الإسرائيلي.
وعلى رغم تبرير بعض قيادات الفصائل المعارضة جنوب سوريا بأن نقل الجرحى إلى إسرائيل كان بسبب إغلاق الحدود الأردنية واللبنانية في وجههم، إلا أن وزير الدفاع في “الحكومة السورية الموقتة”، وقائد هيئة الأركان في “الجيش الوطني” اللواء سليم إدريس الذي تواصلنا معه هاتفياً، رفض اعتبار المنسقين مع الجانب الإسرائيلي ممثلين للمعارضة السورية، مؤكّداً: “هؤلاء الأشخاص لا يمثلون سوى أنفسهم، وليس لهم أي تمثيل للمعارضة”.
منير (اسم مستعار- 42 سنة) أحد أبناء جبل الشيخ، أُصيب بشظية بالرأس، خلال الحملة العسكرية التي شنّها النظام السوري على منطقة “تل بردعيا” في جبل الشيخ أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، ونُقل إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية لتلقي العلاج، بقرار من مسؤول المستشفى الميداني في المنطقة، الذي أكّد عجز الإمكانات الطبية المتوفرة عن استيعاب حالته الصحية.
يقول منير، “فقدت الوعي فور سماع صوت انفجار القذيفة، واستعدته على صوت المسعفين الذين كانوا يعملون على نقلنا إلى المشفى الميداني التابع للمعارضة في المنطقة، ثم وُضعت في سيارة إسعاف سارت قرابة ثلاثة كيلومترات لحين وصولنا المشفى، وهنا كنت قد استعدت وعيي بشكل شبه كامل، وأدركت أنني أُصبت بشظية بالرأس”.
ويتابع منير: “الطبيب المسؤول عن مستشفى بيت جن كان من جنسية أجنبية، وكان تابعاً لمنظمة أطباء بلا حدود، أرسلته إسرائيل برفقة مترجم لعلاج المصابين في المنطقة، منحني تصريح عبور مرفق بتقرير طبي لتقديمه لنقطة العبور الحدودية والدخول لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية”.
ويضيف منير: “نُقلت إلى النقطة الطبية الحدودية داخل الشريط الحدودي على ظهر بغل سار لنحو الساعتين ونصف الساعة لحين وصولنا، وهناك نُقلت بواسطة سيارة إسعاف إسرائيلية إلى المستشفى الميداني في هضبة الجولان، حيث تلقيت حقنة مهدئة، ونُقلت بعدها إلى مستشفى إسرائيلي في مدينة أخرى”.
“حسن الجوار” والعبور المنظّم
استمرت عملية نقل الجرحى إلى المستشفيات الإسرائيلية بتنسيق سري، لحين تأسيس برنامج “حسن الجوار” عام 2016، والذي تولى فريقه مهمة تنظيم ملفات نقل الجرحى، وأطلق برامج طبية لعلاج المرضى السوريين في مناطق المعارضة جنوب سوريا ومتضرري المعارك من السيدات والأطفال في المستشفيات الإسرائيلية، استقبل بموجبه مئات الأطفال من المصابين بأمراض السكري والعيون، وآخرين يحتاجون إلى مراجعة المستشفيات، إضافة إلى عشرات السيدات اللواتي أجرين عمليات قيصرية هناك، بسبب ضعف الإمكانات الطبية في الجنوب السوري.
معدّ التحقيق تواصل مع الناشط الحقوقي بسام (مستعار- 31 سنة) الذي عمل خلال السنوات السابقة على البحث عن عدد من السوريين المفقودين داخل الأراضي الإسرائيلية، التي دخلوها لتلقي العلاج.
بسام قال إنه تواصل خلال عملية البحث، مع مؤسس برنامج حسن الجوار إيال درور، وهو ضابط سابق في جيش الدفاع الإسرائيلي برتبة لواء، الذي أوضح أن البرنامج أقام وحدة طبية تضمّنت عيادات للمعاينات وتقييم الحالات الطبية، ضمن خط قوات حفظ السلام “يونيفيل”، بالقرب من قرية المعلقة في ريف القنيطرة، ونُقل إليها كادر طبي ضم أطباء وممرضات الإسرائيليين، وآخر للتوليد تم افتتاحه في منطقة “الدويكة”، زوّد بأجهزة طبية متطورة وحاضنات للأطفال.
ونقل الناشط الحقوقي عن درور الذي أطلق عليه سوريون اسم “أبو يعقوب” قوله إن عملية نقل الجرحى والمرضى إلى المستشفيات الإسرائيلية تكون بداية إلى المستشفى الميداني العسكري في هضبة الجولان، ومنه يتم توزيعهم على مستشفيات “زيف” في مدينة “صفد”، و”بوريا” في مدينة طبريا، و”الجليل الغربي” في مدينة نهاريا، القريبة من الحدود السورية، والتي عالجت قرابة 85 في المئة من الحالات، فيما نُقلت حالات أخرى أكثر خطورة إلى مستشفى حيفا وتل أبيب، وأربعة أطفال إلى مستشفى “شعاري تسيدك” في القدس، كانوا بحاجة إلى مستشفيات قلبية، وهو ما أكّده منير الذي خضع لعمل جراحي في مستشفى نهاريا.
يقول منير: “استعرض الكادر الطبي مخاطر العمل الجراحي الذي سأخضع له، التي قد تسبب الشلل النصفي أو الجانبي، أو فقدان حاستي السمع والبصر، ووقعت على بعض الأوراق أخليت بموجبها مسؤولية المستشفى عن نتائج العملية، بعدما أبلغني الطبيب المشرف الذي عرفني إلى نفسه باسم البروفيسور سامي طرابلسي، وهو طبيب يهودي من أصول عربية، بأن نسبة نجاح العملية تتجاوز الـ90 في المئة”.
وأضاف منير أن الطبيب طرابلسي أبلغه صباح اليوم التالي بمجريات العمل الجراحي، وبيّن له أن الشظية كسرت عظم الجمجمة، ومزقت غشاء المياه الموجود بالرأس، من دون تسرب المياه بسبب استقرارها.
وأشار منير إلى أنه بقي قرابة الشهر ونصف الشهر في المستشفى لحين استقرار حالته الصحية، قبل نقله إلى بلدة “مجدل شمس” بواسطة حافلة كانت تقل الكثير من المصابين والمرضى، ومنها إلى سيارة عسكرية نقلته إلى الشريط الحدودي، حيث تم تسليمه لـ”مورو” مسؤول نقطة العبور التي دخل منها أثناء إصابته.
مؤسس برنامج “حسن الجوار” قال إن المستشفيات الإسرائيلية عالجت نحو أربعة آلاف و500 سوري، بينهم 1400 سيدة وطفلاً، أي ما يُعادل ثلاثين في بالمئة من النساء والأطفال، على خلاف إعلان الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي “أفيخاي أدرعي” عن علاج أربعة آلاف و800 شخص، بينهم 33 في المئة من الرجال، و17 في المئة من السيدات، و50 في المئة من الأطفال، إضافة إلى نحو 6 آلاف مريض تلقوا العلاج في عيادة حملت اسماً عبرياً بمعنى “ملجأ للمنسحق”، أُقيمت بالتعاون مع منظمة إغاثية دولية جنوب هضبة الجولان الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية عالجت حوالى 6000 مريض منذ بداية عملها في آب/ أغسطس 2017، وفقاً لما نقله بسام.
منظمة إنسانية أم شبكة استخباراتية؟
ادعى مؤسس “حسن الجوار” أن البرنامج تأسس بـ “دافع ديني” وإنساني فقط، وأن بلاده تهدف إلى كسب قلوب وعقول أبناء المنطقة والنازحين إليها، وليس لها أي هدف سياسي أو استخباراتي، نافياً الاتهامات التي وُجّهت للبرنامج سابقاً بتمويل الفصائل المسلحة، لا سيما تقرير نشرته صحافية “وول ستريت جورنال” الأميركية في حزيران/ يونيو 2017، موضحاً أن الجيش الإسرائيلي لم يكن يدقق في هويات المصابين لمعرفة ما إذا كانوا مسلحين أم لا.
بينما اعتبر السياسي والكاتب الراحل ميشيل كيلو في تصريح كان أدلى به لـ”درج” قبل وفاته، أن إسرائيل استقبلت السوريين في مستشفياتها ليكون لها دور أساسي في مجريات الصراع، ثم التحكم بالنظام السياسي الذي سيقوم في سوريا بعد انتهائه، مستخدمة في ذلك المؤسسة الطبية عبر المنظمة العسكرية التابعة لها.
وتابع كيلو الذي تواصل معه معد التحقيق هاتفياً: “لا شك في أن حسن الجوار هدف لتغيير صورة إسرائيل في نظر السوريين، لكنه هدف ثانوي، لأن النظام هو الذي غير صورتها في نظرهم بالطريقة التي فتك فيها بالمدنيين، وجعل المقارنة بين ما فعله النظام بهم من قتل وتنكيل، وبين ما قدمته إسرائيل من علاج، فكان قولهم إن إسرائيل أرحم بالشعب السوري من النظام”، مضيفاً: “إسرائيل قدمت العلاج لمصابي المعارضة لرغبتها في استمرار القتال في سوريا، عبر منح الثقة للمقاتلين المتمركزين على الشريط الحدودي بأنهم سيتلقون العلاج، لأنهم لو لم يتلقوا العلاج لكان القتال توقف حينها على الأرجح”.
ورأى كيلو أن إسرائيل قامت بعمل استخباراتي لا يستهان به على الإطلاق في جميع القطاعات السورية عبر برنامج حسن الجوار، مبيّناً أنها قامت بأعمال استخباراتية خلال سنوات ما قبل الثورة السورية، إلا أنّ مخابرات النظام لم تأبه لمكافحة الشبكة الاستخباراتية الإسرائيلية بشكل جدي، وقال: “مهما كانت المبالغ التي أُنفقت على البرنامج، فإن الكسب السياسي والاختراق العسكري الذي ترتب على ذلك أكبر قيمة وأكثر ثمناً مما أنفق من أموال على العلاج”.
ورأى الإعلامي السوري عبد الجليل السعيد عضو منصة أستانا السياسية السورية، أن البرنامج لم يكن استخباراتياً، كون إسرائيل لا تحتاج لعمليات استخباراتية لمعرفة الكثير عن النظام، فهو يُقدم لها المعلومات عبر قنوات مفتوحة بشكل غير معلن، موضحاً: “البرنامج جزء من العملية التي تُسميها إسرائيل “إنسانية”، وهي عملية مرتبطة بقضايا لوجستية استطاعت من خلاله ضبط حدودها”.
وأضاف السعيد لـ”درج”: “النظام لم يترك للسوريين مجالاً سوى قصد العدو (المفترض) كي يستجيروا بمستشفياته، وهو ما فعلته إسرائيل وقدمت من خلاله الدعم، إضافة إلى أنها فتحت معبراً لمجموعة الدفاع المدني، الخوذ البيض، من داخل إسرائيل إلى الأراضي الأردنية عندما حاصر النظام تلك المنطقة قبل سنوات”.
وختم السعيد: “إسرائيل لم تكن صديقة للمعارضة السورية يوماً، وكانت حريصة على بقاء حكم الأسد لسنوات طويلة، وساستها لا يرون في الأسد أي مشكلة، بل تواطأوا معه للبقاء في السلطة وهذا أمر مرتبط بالكثير من الأحداث”.
احتمالات الاختفاء
بعد أربعة أشهر على الاتصال الأخير مع عمران، قرّر مأمون تتبع الطريق الذي عبر منه من نقطة انطلاقه وصولاً إلى نقطة العبور، مروراً بجميع المجموعات التي تتولى مهمة استقبال الجرحى ونقلهم، حاملاً صورة صديقه ليتقصى أخباره.
وصل إلى أبو نضال الصفوري مسؤول نقطة العبور في “المعلقة”، الذي أكّد أنه استلم عمران، وأدخله إلى المستشفى الميداني الإسرائيلي برفقة شخص آخر من أبناء ريف دمشق، وأنه في حالة جيدة ويتلقى العلاج الفيزيائي في أحد المستشفيات.
لكن الحديث عن مصيره لم يكن كحاله بعد شهرين من الانتظار، إذ عاد مأمون للسؤال عنه مجدداً وأصرّ على التواصل مع صديقه هاتفياً، كون جميع الجرحى كانوا يحملون هواتفهم داخل المستشفيات، وكان اتصالهم بذويهم مستمراً من دون انقطاع، على خلاف حالة عمران.
يقول مأمون: “بعد إصرار وصل حد الشجار، أجرى أبو نضال اتصالاً مع شخص يتحدث باللهجة اللبنانية، قال إنه ضابط في الجيش الإسرائيلي، وأبلغه أننا نطالب بمعرفة مصير عمران، ليرد الضابط بأنه قُتل برصاص دورية إسرائيلية أثناء محاولة هروبه من المستشفى برفقة ممرضة فلسطينية تعمل فيها”.
وأضاف : “لا أدري ما هي وظيفة ذلك الشخص، ولا حتى إن كان داخل إسرائيل أم لا، لكن طريقة حديث الصفوري كانت توحي بأنه يتحدث مع شخصية مهمة”.
معد التحقيق تواصل مع أبو نضال الصفوري هاتفياً، وعبر برامج المراسلة الفورية، إلا أنه رفض التصريح بأي معلومة تؤكّد شهادة مأمون أو تنفيها، بينما أكد الناشط الحقوقي بسام أن مؤسس “حسن الجوار” إيال درور نفى صحة الأنباء التي نُقلت لمأمون عن مصير صديقه، مؤكداً أن المستشفيات التي استقبلت الجرحى والمرضى السوريين لا تضم في كوادرها أي شخص من الجنسية الفلسطينية، وأن السلطات الإسرائيلية خصّصت حماية أمنية مشدّدة على تلك المستشفيات، لمنع أي نزاع بينهم وبين الإسرائيليين المدنيين، إضافة إلى منعهم من الخروج من المستشفيات بشكل نهائي، كون سيارات الإسعاف كانت تنقل المصاب من الجدار الحدودي إلى المستشفى، وتُعيده إلى سوريا بالطريقة ذاتها.
لم يكن عمران المختفي الوحيد بين الجرحى والمرضى السوريين داخل المستشفيات الإسرائيلية، إذ تمكن معد التحقيق عبر مصادر متقاطعة، من التوصل إلى هوية السيدة الثلاثينية (م. ر.) وهي من بلدة جباتا الخشب في ريف القنيطرة، دخلت أحد المستشفيات الإسرائيلية للخضوع لعملية زرع كبد، وانقطعت جميع أخبارها كما هي حالة عمران، إلا أن عائلتها رفضت التصريح بأي معلومة عنها نظراً للمخاوف المترتبة على الحديث عن أي ارتباط للعائلة بإسرائيل، لا سيما أن العائلة تقطن في منطقة تخضع لسيطرة النظام السوري.
ونقل الناشط الحقوقي تعليق الضابط الإسرائيلي عن احتمال بقاء المختفين في إسرائيل، الذي قال فيه: “بعض المصابين استمرت رحلة علاجهم عشرة أشهر، لكنهم عادوا جميعاً إلى سوريا، بينهم 97 في المئة أتموا علاجهم وعادوا سالمين، و3 في المئة توفوا متأثرين بجراحهم”، مؤكداً: “جميع الجثامين نُقلت إلى سوريا بالتنسيق مع المندوبين، ولم نقم بدفن أي منهم هنا، وحرصنا على تسليم الجثامين فور الوفاة، على خلاف المصابين الذين كنا نؤجل عودتهم بضعة أيام لحين تخريج عدد منهم دفعة واحدة”.
وأوضح درور عند السؤال عن إمكانية العثور على بيانات المصابين المفقودين: “جميع الجرحى دخلوا من دون وثائق ثبوتية، ومعظمهم أعطوا الكوادر الطبية أسماء وهمية، لأن المستشفيات كانت تُعيد التقارير معهم لمتابعة حالاتهم في سوريا، ولم تحتفظ بأي منها”، على عكس تصريحاته السابقة التي قال فيها إن فريقه يحتفظ بسجلات مئات الأطفال الذين هم بحاجة إلى عناية طبية، بحسب الناشط.
أحد الأطباء العاملين سابقاً في المستشفيات الميدانية جنوب سوريا بيّن أن مسؤولي المعابر الحدودية كانوا يتسلمون جثامين المتوفين، وينقلونها إلى مستشفيات “البريقة” و”الرفيد”، ومنها يتم إبلاغ ذويهم لاستلامهم، مؤكداً: “استلمنا قرابة 15 جثماناً لشبان مجهولي الهوية، وقمنا بدفنهم في مقابر المنطقة بعد تعميم صورهم في مجموعات محلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يتم التعرف إلى أحد منهم”.
قتلى داخل الحدود
جهات عدّة مطلعة على آلية علاج الجرحى في إسرائيل، نفت لمأمون صحة الأنباء التي وردت عن مقتل صديقه، ما دفعه إلى العودة للبحث عنه في طريق آخر، وبدأ بتتبع أخبار الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية للوصول إلى معلومة واضحة عنه، لكن حادثة سُجّلت في 22 حزيران/ يونيو 2015، أقرّت خلالها السلطات الإسرائيلية بمقتل جريح سوري على أراضيها، خلال هجوم شنّه أبناء قرية مجدل شمس في الجولان المحتل على سيارة كانت تقله في القرية، تبعتها تصريحات للمتحدثة باسم الشرطة الإسرائيلية، قالت فيها إن السلطات الأمنية اعتقلت 12 شخصاً من أبناء القرية الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية، للاشتباه بأنهم شاركوا في الهجمات على سيارة الإسعاف، خلقت احتمالاً آخر لاختفائه.
وأصدرت المحكمة المركزية في “الناصرة” حكماً بالسجن على المدعو أمل أبو صالح بالسجن لمدة سبعة أعوام وثمانية أشهر، بتهمة القتل من دون عمد للجريح السوري، وبشيرة محمود بالسجن لمدة 22 شهراً، بعد إدانتها بالتسبب بكدمات خطيرة في ظروف خطيرة، يوم 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، إلا أن مصلحة السجون أفرجت عن أبو صالح، في 9 كانون الثاني/ يناير 2020 إلى جانب صدقي المقت، في خطوة جاءت كبادرة حسن نية بعد استعادة جثمان الجندي زخاريا باومل من سوريا بوساطة روسية، وفقاً لما أعلنه ديوان رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو.
وعبر التحقق من هوية الجريح الذي قُتل خلال الهجوم المذكور، تبيّن أنه شاب عشريني يُدعى محمد خليل ينحدر من مدينة قطنا غرب دمشق، أُصيب بشظية في بطنه جراء قصف استهدف منطقة خان الشيخ في 15 حزيران 2015، ونُقل إلى القنيطرة، ومنها إلى المستشفيات الإسرائيلية.
أحد أقارب الشاب، ذكر لـ”درج” أن عائلته طالبت بمحاكمة المتهمين بقتل محمد، ورفعت دعوى قضائية بعد توكيل محام من أبناء قرية مجدل شمس” في الجولان، من حاملي الجنسية الإسرائيلية، إلا أن المحكمة رفضت منحهم أي تعويض مادي، وأنهت القضية بالحكم المذكور، مؤكداً أن جثمانه سُلّم لذويه بعد نقله إلى الجانب السوري عبر نقطة “البريقة”.
كان احتمال مقتل عمران بالطريقة ذاتها داخل أراضي إسرائيل هو السبب الأرجح لاختفائه وغياب الأخبار عنه، لكن السلطات الإسرائيلية نفت في تصريحات لها وقوع أي حالة قتل أخرى في أراضيها، وهو ما أكّدته الناشطة الإسرائيلية إليزابيث تسوركوف.
ما مصير العالقين بعد التسوية؟
علم معاذ (اسم مستعار- 26 سنة) وهو أحد المصابين العالقين في المستشفيات الإسرائيلية بعد إتمام اتفاق التسوية، بانتهاء الاتفاق بين النظام السوري وفصائل المعارضة في محافظة القنيطرة، الذي قضى بتهجير الفصائل ورافضي التسوية قسراً نحو الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة، وذلك قبل إعلانه رسمياً في 20 تموز 2018.
يقول معاذ: “لا أحد منا كان يعلم ما هو مصيره آنذاك، فكنا قرابة الخمسين شاباً، وكنا عالقين بين منطقة لا تقبل استقبالنا بعد انتهاء العلاج، ومحافظة ستصبح تحت سيطرة النظام الذي أُصيب معظمنا في المعارك ضده”، مضيفاً: “لم يتم التطرق لملف الجرحى خلال الاتفاق، وهو ما أفصح عنه مسؤولو نقاط العبور عند إبلاغنا بإتمامه”.
ويتابع معاذ: “بعد أيام قليلة، بدأت إدارات المستشفيات الإسرائيلية بإعادتنا إلى سوريا على شكل دفعات، بموجب اتفاق عُقد بين الجانب الإسرائيلي والهلال الأحمر السوري بإشراف الأمم المتحدة لم نكن نعرف ما هو مضمونه، لكن عمليات النقل حصلت من المستشفيات إلى الجولان في المرحلة الأولى، ومنها إلى الأراضي السورية، حيث تم تسليمنا لفرق الأمم المتحدة في نقطة “المهدمة” الحدودية في القنيطرة، لتقوم بدورها بتسليمنا للهلال الأحمر السوري”.
وأشار معاذ إلى أن منظمة الهلال الأحمر السوري عملت على تسليم المصابين للجان المصالحة في المنطقة، الذين تولوا مهمة نقلهم إلى مفرزة الأمن العسكري في منطقة الحميدية المجاورة، وإتمام عمل التسوية لكل منهم، مؤكداً أن جميع المصابين العائدين تم تسجيلهم لدى الأمن العسكري كـ”مصابين جراء قصف المجموعات المسلحة”.
وبحسب معاذ فإن آخر جريح سوري في المستشفيات الإسرائيلية، عاد بمفرده منتصف شهر آب/ أغسطس 2018، بعد رحلة علاج استمرت نحو 8 أشهر، إذ تم إدخاله من معبر “جباتا الخشب” التي ينحدر منها، بالتنسيق مع عضو لجنة المصالحة محمد بلال ومختار البلدة محمد مازن.
اختفاء عمران والسيدة الثلاثينية في ظل الفوضى الأمنية التي شهدتها المنطقة، ولاحقاً إعادة سيطرة حكومة النظام السوري عليها بما تفرضه من صمت على أبنائها حيال أي حالات اختفاء أو قتل في صفوف المعارضة، إلى جانب وجود جثث تم استلامها من الجانب الإسرائيلي، ودُفنت من دون أن يتم التعرف إلى أصحابها، يفتح احتمال وجود حالات اختفاء أخرى ضاعت وسط ملف قتلى ومغيبي الحرب المستمرة.
“لم أترك جهة دولية أو حقوقية أو إنسانية إلا وقصدتها للوصول إلى أي معلومة تدلني إلى ما حلّ به، ولم أتلق معلومة واحدة عن مصيره من أي منها، بما فيها الصليب الأحمر الدولي. ربما فقدت الأمل بالعثور عليه حياً، لكنني سأواصل البحث لأعرف أي شيء عنه. أتمنى لو رأيته في منامي ليُبلغني بشيء يدلني على طريقه”، يختم مأمون.
Sorry Comments are closed