نختار أحيانا لأسباب كثيرة الغياب مؤقتا عن صفحاتنا المتنوعة على وسائل التواصل الإجتماعي، في البداية نشعر بالغربة قليلا وكثيرا ما يصاحبنا الملل وننظر حولنا ولا نعرف ماذا سنفعل بهذا الوقت الذي اكتشفنا فجأة أنه ليس سيفا مسلط على رقابنا وأن هناك فسحة جديدة للتأمل مطولا في حياتنا والتفكير في إعادة ترتيب أولوياتنا.
ربما سيشعر السوريون والسوريات في البداية بالانعزال التام عن مجتمع إفتراضي فرضته ظروف الحرب والتي نتج عنها تشتت المجتمع المحلي وتفكك العائلات بسبب النزوح أو اللجوء في بلاد العالم المختلفة، مما جعل التواصل عبر مواقع التواصل الإجتماعي بديلاً إجبارياً أكثر منه اختياريا، وهذا التواصل الإجباري فتح الباب لتشعب العلاقات حتى خارج علاقات العائلة والأصدقاء القدامى وتبلورت شبكة علاقات افتراضية جديدة جمعتهم اهتمامات وأفكار وهموم مشتركة في محاولة لخلق مجتمع محلي بديل عن المجتمع السابق الذي أصبح من الماضي وأكثر ملائمة للواقع الحالي.
قد تبدو للوهلة الأولى هذه النتيجة إيجابية بالمطلق وهي لا تخلو بالتأكيد من الجانب المشرق الذي سمح للسوريين بالإبقاء على الحد الأدنى من ماضيهم وذكرياتهم وجزء من تاريخهم وحنينهم للوطن والأهل من جهة وساهمت بتقريب وجهات النظر بين الفئات المتشابهة بالفكر والتوجهات حيث كانت تلك الفئات تجد صعوبة سابقا في إيجاد بعضها البعض من جهة أخرى.
ولكنها في نفس الوقت وضعت حاجزا أمام الكثيرين بالاكتفاء بهذا النوع من التواصل فيما بينهم حتى لو كان افتراضيا على حساب حياتهم الجديدة في الدول التي أصبحت موطنا جديدا لهم بالإختيار أو الإجبار وأصبح السوري يعيش في فقاعة افتراضية من خلال وسائل التواصل وما تقدمه من خدمات مثل القروبات الخدمية أو التسويقية بعضها للتسلية ومنها ماهو اختصاصي يجمع أصحاب الإهتمام الواحد حيث تم نقل مجتمع كامل بهمومه ومشاكله واهتماماته وشغفه مع كل الغضب والغربة وإنسداد الأفق وغياب الحلول القريبة إلى شاشة الهاتف المحمول وبالتالي تحولت المشاعر المصاحبة لكل حالة على شكل إيموجات (ضحك/سخرية/غضب/حب) وفي أحسن الأحوال تسجيل صوتي لا يتعدى دقائق عبر الواتس آب والماسنجر، ولكن عند أي اختلاف بالرأي أو تضارب مصالح يحجب أحدهم الآخر ويختفي كفقاعة هواء وكأنه لم يكن من الدوائر المقربة لأي منا في يوم من الأيام.
هل هذه علاقة صحية دائما حتى لو كانت نتيجة حتمية لواقعنا الحالي؟ ماذا سيحدث لنا لو ابتعدنا عن دوائرنا الافتراضية قليلا وحولناها لجزء من كل وليس العكس؟
بالتأكيد سنشعر بالغربة والوحدة ولكن هذه المشاعر ليست سلبية دائما لأنها ستجعلنا نبحث عن بديل، ستجعلنا نفكر في طرق أبواب ما زالت مغلقة في وجوهنا حتى لو كانت صعبة الفتح بالبداية.
سنفكر جديا في تعلم لغة البلد الجديد والتعرف على محيطنا بالتدريج كسب علاقات جديدة والإنفتاح على ثقافة أهل البلد وتعلم أشياء جديدة ستثبت الأيام أنها مفيدة لمستقبلنا ومستقبل أطفالنا على المدى الطويل.
سنجد أن هناك وقتا أطول للعائلة ولأطفالنا والإستماع لحكاياتهم وخيالهم وتدهشنا ربما أحلامهم، ونلاحظ رويدا رويدا أننا نتعلم من أسئلتهم البريئة، أكثر بكثير من الوقت الذي نقضيه في متابعة بعض متصدري وسائل التواصل الإجتماعي ويمطروننا نصائح أغلبها مثالية لدرجة استحالة التطبيق.
سنتوقف عن التقاط الصور في كل مناسبة فقط حتى نشاركها على وسائل التواصل لحصد الإعجاب كي نرفع معنوياتنا المنهارة، وسنفكر في شرب فنجان قهوة دون الإهتمام لحالة الفنجان مكسور اليد او بدون طبق بعيدا عن العيون الإفتراضية التي اعتدنا على مشاركتها كل تفاصيل حياتنا.
سنقرأ كتابا بهدوء وتمعن وتأمل كل كلمة دون أن نقطع سلسلة أفكارنا بتهافت الرسائل والإشعارات، التي تجبرنا للرد على الرسالة او التعليق دون شعور الذنب الذي يصاحبنا عندما نتأخر بالرد حتى لا نتهم بعدم الاهتمام او التعالي، أو شعورنا بالحاجة لتفقد صفحاتنا الشخصية بسبب أوبدون سبب وكأن غيابنا المؤقت القصير يحرمنا متعة مجاراة الأحداث والأخبار المتهافتة والتي تكون أغلبها لا تعنينا ولا تقدم او تؤخر في روتين حياتنا البطيئة.
بالتأكيد سنحرم أحد طرق الهروب من الواقع والغوص طواعية في دوامة الحياة الإفتراضية، ولكن ربما الابتعاد مؤقتا عنها ستجبر أحدنا على المشي او الذهاب لنادي رياضي أو حتى التفكير في زيارة معالج نفسي لحل مشكلته التي لن يكون حلها عبر الأبواب الافتراضية البعيدة.
ربما سيفكر الازواج بالجلوس معا لمشاهدة مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي مع حفنة من المكسرات وصحن فواكه دون الإهتمام بمشاركة هذه التفاصيل لحظة بلحظة على الفيس بوك ويتحول كل طرف للتواصل مع حلقته الخاصة من الاصدقاء وتضيع اللحظة والمشاهدة والمتعة والخصوصية معا.
هل نستنتج من كل ما سبق أننا يجب أن ننكفئ على ثورة الإتصال الحديثة برمتها ونتصيد سلبياتها كي نجد مبرر حتى نعيش خارجها ولوحدنا؟
بالتأكيد إن وسائل الإتصال أصبحت جزءا أساسيا من حياتنا ويجب أن نعي تماما أنها جزء وليست كل، وهي وسيلة وليست غاية، ومن المهم أن نجد طرق لجعلها أكثر توازن وفائدة لحياتنا، على عكس ما تحولت عند الاغلبية منا سببا مباشرا لهدر الوقت والطاقة، وأحيانا للأسف سببا لزيادة وتيرة العنف والاصطفاف والتنمر والعدوانية ورفض تقبل الإختلاف والآخر مما يزيد غربتنا الواقعية والافتراضية على حد سواء.
Sorry Comments are closed