كتب للثورة السورية أن تبتلى بمصائب كبيرة وكثيرة، وأن تواجه عقبات متكررة ومطبات تاريخية، على يد أنصارها في الداخل والخارج، فضلا عن أعدائها الكثر في الخارج والذي لهم السبق في حجم المآسي والأوجاع القائمة، فالثورة السورية لم تخرج لتناقش دين الدولة فهي بلد ذو أغلبية ساحقة مسلمة، ولم تخرج لتناقش اللغة الرسمية في البلاد فهي بلد ذو أغلبية ساحقة عربية، ولم تخرج لتناقش الثقافة السورية فهي بلد شرقي الهوى والقيم ومفاصل الاجتماع، ولم تخرج الثورة لتكرس الظلم الواقع على أبناء الوطن السوري من أي دين ومذهب وعرق، هذا الكلام أصبح من المسلمات في عقل العاقل الراشد الناضج، الذي خرج من أجل شيء، ووجد نفسه في صراع بغيض مع أشياء أخرى لا تقدم ولا تؤخر في مجريات الأحداث!
فالهوية هي اتحاد جملة من العوامل المختلفة كالدين واللغة والثقافة مثلا في جسد واحد، تحدد على أساسه توجهات المجتمع وتفاصيل علاقته مع الدول والمجتمعات القريبة والبعيدة الأخرى، ولا يوجد في التاريخ هوية متجانسة تماما، بل كل هوية تقيم دولة ما وتتبنى رسالة ما، تعيش في ضوء الاختلافات البسيطة أو الإشكاليات العميقة في داخل الهوية نفسها، وخاصة مع بزوغ فجر العلم الذي يعرف بعلم الاقتصاد السياسي، وهو العلم الذي أصبح متحكما في مجمل عمليات الاجتماع والسياسة والثقافة داخل المجتمعات المعاصرة، وبينما نقول: الثورة السورية، فإن الثورة السورية لبنتها الأساس الدين الإسلامي واللغة العربية والهوية الشرقية والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية السيئة، هذه هي محركات الثورة ومغذياتها، ولا يمكن الطعن بهؤلاء، أو جلد الضحية الثائرة، لأننا بذلك نغتال المجتمع وثورته ونؤسس لمرحلة فوضى سياسية بالمعنى الحقيقي للفوضى السلمية التي هي أخطر على المجتمعات والثورات والأحلام، من الفوضى العسكرية التي تأتي بمنتصر وإرادة قاهرة قادرة على صنع القرار بمفردها، بعكس الفوضى السلمية التي تخلق لا مركزية فوضوية يستحال معها صناعة أي قرار يعود بالنفع على مجمل العلاقات السياسية في البلد.
وأبدي دهشة شديدة عندما يتحدث مثقف ما عن الذي يسمى في الأوساط شبه الثقافية “أسلمة الثورة أو أدلجتها”! بلاد مسلمة وشعوب مسلمة وهوية شرقية، إذن، ما الذي يدفع الثوار السوريين إلى مواجهة نظام عالمي قاتل وإرهابي بكل ما للكلمة من معنى؟! ما الذي يدفع الثوار السوريين إلى تحمل مضاضة التهجير والعيش في الخيام اللا إنسانية؟! ما الذي يدفع السوريين إلى تقديم مليوني قتيل وملايين الجرحى والمعتقلين والمهجرين؟! ما هذه العقيدة الرائعة التي تدفع السوريين إلى التضحية والثبات والصبر من أجل الحصول على الكرامة والعدالة الاجتماعية والمكانة العالية بين الشعوب والأمم؟!
ما هذه الهوية المذهلة التي يلتف الناس حولها ويلتحمون بها وهم يقارعون العالم قاطبة؟!
أخطاء الثورة أكثر من أن تحصى، والمجتمع السوري يفتقر إلى كميات لا معقولة من الوعي السياسي، والتشرذم والحزبية في نفوس السوريين مادة غنية بالمصائب والويلات، ولكن لا يجوز جلد الضحية ولا تجوز المحاولات الحثيثة لتمرير أفكار ما داخل المجتمع الذي لا يستوعب هذه الأفكار ولا يتقبلها ولا يؤمن بها لا من قريب ولا من بعيد، لا يمكنك الحديث مثلا عن الصيام في وقت الصلاة ولا الحديث عن الدولة المعاصرة في زمن الاحتلال والاستعمار ولا الحديث عن العنف في وقت السلم، وهل يلقح مريض كورونا بلقاحات السكري والضغط ليشفى؟! من هنا البداية والاستمرارية المنتجة، فالأرضية واضحة بينة والهوية مكونة ومترابطة والأدلة على ذلك ملأت الفضاء العام السوري، يجب علينا أن نتوقف عن إسقاط إسهاماتنا الفكرية والفلسفية التي في معظمها لا تحتمل التصديق على اعتبارها حلا وخطوة أساسا ومرجعا ومنطلقا للتخفيف عن السوريين الكرام الذين يشهد لهم العدو قبل الصديق بجديتهم ونضالهم وعنفوانهم واعتدالهم الذي يضرب به المثل في عالم عنصري إرهابي مادي متسلط.
كفوا عن الطعن بلغة السوريين ودين السوريين وثقافة السوريين، ففي سوريا آمن بيئة للسوريين الكرد والمسيحيين وغيرهم من أبناء النسيج السوري، ناصروا قضايا المجتمع السوري ولا تكونوا مساهمين في تمرير أفكار الميليشيات الإرهابية -الممولة من الخارج وتستقوي بجيوش العالم والتي تتحكم بأعناق الكرد والمسيحيين والعلويين وغيرهم- إلى الشعوب الأخرى والمجتمع الدولي، فلنبدأ بمراجعة خطاب المثقفين الذي يمثل الواجهة وأداة الاتصال مع الشعوب الأخرى، قبل أن نبدأ بمحاسبة الشعب السوري الضحية في الداخل، بناء الشعوب والدول يقوم أساسات موضحة في علم الجغرافيا السياسية، لا أظنها تغيب عن أهل التخصص (اللغة – الدين – الثقافة – إحصائيات الديمغرافيا – العصبيات المختلفة – الثروات – الأرض ذات السيادة، إلخ).
آن الأوان لنلتحم مع متطلبات وحاجات الناس في الداخل السوري، آن الأوان للتوقف عن استفزاز المجتمع السوري، آن الأوان لطي صفحة الترهات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، آن الأوان أن نراجع أنفسنا وأفكارنا قبل أن نطلب من الجائع والمقصوف والمسجون والمعذب أن يراجع نفسه، نحن أولى بالمراجعة، لأننا ننام غير جائعين ولا نذهب إلى العمل تحت رجوم الطائرات ولا نخشى الاعتقال والترهيب في بلداننا الثانية.
عذراً التعليقات مغلقة