زياد الأحمد- حرية برس:
مَنْ فَتحَ هذا الجرحَ الشاخبَ حقداً في جسد الزيتون؟
مَنْ قطعَ جذورَ التين الممتدّة ما بين قلبي بنّش والفُوعَة؟
أسئلة ٌمن معجم ويلات الحرب السوريّة تحاولُ روايةُ (ملكةُ الفوعة.. تلميذ بِنّش) لشعبان عبود الصادرة عن دار نون4 الإجابة عنها برؤية سردية خلاصتها:
ليست الجريمةَ الأفظعُ التي ارتكبها النظامُ السوري نسفَ مدنٍ بأكملها؛ بحَجَرها وبشرها، وتحويلها إلى أكوام من حطام وأشلاء؛ لكن الجريمةَ الأدهى والأفظعَ والأوجعَ على المدى البعيد هي نسفُ النسيجِ المجتمعيّ السوريّ المتآلفِ والمتعايشِ والمتكاملِ منذ مئاتِ السنين، وتحويله إلى مزقٍ متناحرةٍ ليس على صعيد الطوائف والمِلل فحسب؛ بل على صعيد بُنية الأسرة الواحدة أحياناَ.
ولتقديم هذه الرؤية يرتكز الكاتب إلى نموذج مكاني واقعي من سوريا وهما بلدتا الفوعة (الشيعيّة) وبنش (السنيّة) وهما ليستا متتاخمتين متداخلتين على الأرض ومصدر لقمة العيش فحسب؛ بل يربط بينهما قلوب متتاخمة، متداخلة الذكريات والعذابات والأحلام والمواويل، كما يقول:
“بنش والفوعة لا تشتركان بكروم الزيتون وأشجار التين ودوالي العنب فقط بل كانتا تشتركان بالمواويل والأغاني والحب والتقاء العيون بالعيون على الدروب والأراضي المتجاورة” ص55.
يتكفل بالسرد راوٍ واحدٍ بضمير المتكلم، وهو راوِ متموقعٌ محدودُ المعرفة ينقل من زاوية رؤيته ما رآه وعاشه، وما سمعه في مهجره البعيد في الولايات المتحدة، كما أنه يقاطع بين رؤيته ورؤى الشخصيات الأخرى التي عاشت الحدث ليصل إلى رؤيا شاملة موضوعيّة؛ تُميّزُ هذه الروايةَ عن غيرها من روايات الحرب السورية.
البداية (مدخل النص):
بدايةُ النصّ مُنتقاةٌ بعناية، وقَصديّة فاعلةٍ في النصّ كلّه؛ لتلعب دوراً هاماً في توجيهه وإظهار مراميه التي تتمحور حول جريمة نسف النظام لفسيفسائية المجتمع السوري.
ولهذا يختار الراوي المغتربُ بعيداً عن وطنه يوماً رمزياً تظهر فيه جماليةُ تلك اللوحة الفسيفسائية؛ يختار يومَ العيد بدايةً لروايته، العيد الذي كان موعداً للفرح وحِضناً لتلاقي الأهل والأحباب والغيّاب وحتى المتخاصمين، وموعداً لزيارة أرواح الأموات، ها هو يعود عليه في غربته ليكون فتيلاً لبركان الذكريات، ها هو يعود صامتاً لا يُقرَع فيه باب لاستقبال زائر، ولا يَفرغُ فيه صحنُ ضيافة أو سكاكر، يعود عارياً من كل فرح، من كلّ معانيه، يعود شرارةً لتفجير آلامٍ وحسراتٍ وذكرياتٍ دفينةٍ معتقةِ الحزن:
” هنا في هذه البلاد البعيدة، هنا في الولايات المتحدة لا طعمَ لشيء، لا طعم للفرح في هذه البلاد الرائعة، نحن غرباء ذكريات طفولتنا ومقابر أهلنا ليست هنا” ص5
ومن هذه البداية الموحية بالكثير من الشتات والضياع ينطلق بنا الراوي لسرد حكايته.
الحكاية:
من دارٍ كبيرةٍ أشبهَ بفندقٍ تُؤجّر بعضُ غرفها لموظفين ووافدين إلى بلدة بنش (السنيّة المذهب) يبدأ الراوي طفولتَه البريئة، وليتعرف في تلك الدار إلى بيئات وأسر من مدن سورية أخرى، وطوائف مختلفة، تربطه وأسرتَه بهم علاقات حبّ ومودّة، ومنهم “ماجد الصالح” مدرس الاجتماعيات (علوي) من طرطوس وهو “مؤدب وابن عالم وناس” كما كانت تقول أمه، وعلي عباس موظف المساحة في إدلب علويّ من جبلة وزوجته “أم حسين” من إدلب وكان يشرب العرق، ووالده يشاركه سهرته حتى الصباح رغم اعتراض أمه، ومنهم أبو مظهر القرباطي الذي كان يرسل عشيرته من البنات للتسوّل… وباختصار يصف الراوي ذلك البيت بقوله: ” كان بيتنا كبيراً ومثلما كان فيه غرف كثيرة كان فيه أيضاً قصص كثيرة ومرّ عليه أناس رائعون…”
وعبر الكروم الممتدة والمشتركة بين أهالي الفوعة وبنّش كانت ملاعبُ طفولته، وخاصة كرة القدم ومبارياتها بين شباب البلدتين، والتي كانت بنظر الأهالي أهم من نهائيات كأس العالم.
وفي ثانوية “ممدوح شُعيب” التي تتوسط المسافة بين بنش والفوعة كان له الكثير من الأصدقاء المشتركين من البلدتين، وكان عشقه الأول “لسلمى” الشيعية من الفوعة التي كانت تبادله النظرات ولم يجرؤ أي منها على مصارحة الآخر بهمسة حب خوفا من العادات، والتقاليد المشتركة بين الطائفتين.
أنهي دراسته الثانوية ورحل إلى دمشق لدراسة الصحافة، يحمل حقائب حنين فيّاض لمرابع طفولته وزملاء دراسته، وأولهم سلمى الفتاة التي ستسكنه عيناها حتى نهاية حياته.
ومنذ خطواته الأولى خارج عالمه (البنشافوعيّ) الذي كانت تحكمه قوانينُ المجتمع والثقافة، والتاريخ، والجغرافية، سيكتشف عالماً مفخخاً بالطائفية تحكمه قوانينُ الفرز الطائفي، وقوانين عائلة الأسد، وحزب البعث. فشباب الفوعة الذين تخرجوا من الثانوية يُقبَلون في الكليّات الحربية، والمؤسسات الأمنيّة، بينما زملاؤهم على المقاعد ذاتها يذهبون إلى الجامعات، ومَنْ لم يواته الحظّ ينتهي به الطوافُ عاملاً في بيروت أو قبرص، أو الخليج، ويكتشف الراوي:
“بعد سن الثامنة عشرة في سورية كان النظام يُذكّرنا أننا مختلفون، وأننا أبناء طائفتين مختلفتين، كان يسدّ الأبوابَ في وجه شُبّان بنش، ويفتحها أمام أصدقائهم من الفوعة ” ص14
وبسبب مقالة معارضة كتبها يجد نفسه معتقلاً في فرع فلسطين، وسجّانُه واحدٌ من زملائه في ثانوية “ممدوح شعيب”.
أنهى دراسته وتاه على أرصفة المهاجر إلى أن استقر في “فيرفاكس” في الولايات المتحدة، ويأتي عام 2011 لتبدأ الثورة التي لا تُصدّق على هذا النظام الطائفي، ولم يكن الراوي يستوعب ما يراه على الشاشات من مظاهرات لما عرفه من بطش ذاك النظام، ولم تمنعه تلك التربيةُ الطائفية التي حاول النظام غرسها من أن يقلّب وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن رفاق دراسته من “الفوعة” ليطمئن عنهم، وخاصة بعد أن حوصروا في بلدتهم، وبدأت الحرب بينهم وبين بنّش، حيث راح أبناءُ البلدتين الذين كانوا” يتبادلون رسائل الحب والغرام يتبادلون قذائف المدفعية، والذين كانوا يلعبون كرة القدم راحوا يلعبون لعبة الكراهية والموت وتحولت الثانوية التي جمعتهم إلى قاعدة قتال” ص 42
وراح يبحث عن سلمى الفتاة التي تسكنه، وعبر وسائل التواصل استطاع الوصول إلى ابنة عمها، وعرف أنها محاصرة في الفوعة، وقد قتل ولدها نور الدين ابن العشرين عاماً، وماتت روحها دونَ جسدِها بموته، ثم يتمكن من التواصل معها بعد خروجها من “الفوعة” وسكنها في اللاذقيّة، وحين بحثا عن مكان للقائهما كانت مساحة الوطن أضيق من أن تتسع لذاك اللقاء فاتفقا على اللقاء في بيروت.
وخلال الرحلة من أمريكا إلى ذاك اللقاء مع “سلمى” بعد ثلاثين عاماً وحرب دامية، أُريدَ منها ألا تبقي رابطاً بينهما؛ يستعرض الراوي مستعيناً بذاكرة بيت أخيه وجيرانهم -وقد عرّج عليهم خلال رحلته في هولندا- مشاهدَ مأساويةً مروّعة من تلك الحرب القذرة مزاوجاً بين ما وقع في بنش “السنيّة” والفوعة “الشيعيّة:؛ ليخلُصَ إلى أن أهل البلدتين هما ضحيتان لسفاح واحد؛ ففي بيت أخيه أحمد تتفتح جراح لمّا تندمل؛ ومنها موت طفليه “سارة وبلال” حين سقطت عليهما قذيفة؛ لتمزق مرحهما وضحكتيهما في أرجوحة أرض الدار قبل جسديهما ؛ وموت “ثائر” ابن شقيق زوجته ولمّا يمض على زواجه عام واحد، ويسرى ابنة أبي فؤاد التي قتلت مع طفليها ولم يجدوا منهم إلا أشلاء لا يمكن فرزها؛ فدفنت في قبر واحد، كما يسترجع الراوي من خلال قصص هجرة أبن أخيه جلال إلى أوربا مآسي النزوح وويلاته، ومن ثم مصاعب لم شمل الأبوين عدا أخته لأنها فوق الثامنة عشرة، وبقائها وحيدة تحت الموت، ثم خروجها مغامرةً وحيدةً بين إيادي عصابات التهريب، ورصاص حرس الحدود، وحيتان البحار التي شبعت من لحم السوريين… …وفي الجبهة المقابلة في الفوعة يستعرض لوحات مأساوية أخرى ومنها موت “نور الدين” ابن سلمى في مرصده المواجه لأهل بنش وقد خرج إليه ذاك المساء جائعاً لأنه لم يكن في البيت ما يأكله نتيجة الحصار المضروب عليهم من ثلاث سنوات ونصف من أهل بنش والجماعات الإسلامية، وحكايات كثيرة عن الخوف والرعب والجوع الذي عاشوه…
وفي هولندا أيضاً يلتقي الراوي بمجموعة من أهل الفوعة الشيعية، وضباطها المنشقين عن الجيش بعد أن حسموا أمرهم، واختاروا أن يكونوا مع ثورة الشعب، وينقل لنا ما يحملون من حكايات عن انضمام شباب الفوعة إلى حراك التظاهرات السلمية بداية الثورة، ومحاولات الشبّيحة من أهل الفوعة تأجيجهم طائفياً، ومضايقتهم، وتهديدهم بالقتل؛ ومنهم العقيد نضال حمود، وولده أحمد الذي كلّفه هذا الانشقاق خسارة ولده وزوجته التي اتهمته بالخيانة، وصهرهم الرائد موسى، ومن خلالهم يستعرض الراوي معاناة الضباط الشيعة الذين رفضتهم الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولم تقبلهم في صفوفها، وبهذا يكون النظام قد حقق ما يريده بأن حوّل الثورة ضده إلى ثورة سُنّةٍ ضدّ شيعة، فوجد هؤلاء الضباط أنفسهم بين نارين؛ نار النظام، ونار التطرّفِ وانتهَوا مرميين على أرصفة المهاجر.
وتنتهي الحكاية بلقاء “تلميذ بنش”؛ الراوي بملكة قلبه ملكة الفوعة، حبيبة الأمس، ثكلى حرب اليوم. بالأمس لم يكن مقعد ملكة الفوعة يبعد أكثر من متر ونصف المتر عن مقعد تلميذ بنش، لكنهما لم يستطيعا قطع تلك المسافة، واليوم يقطعان بحاراً ومحيطات ويجتازان حرباً دموية طائفية ليلتقيا، ويعترف كل منهما للآخر بحبه الذي كان يخشاه، لكن الحرب لم تترك لهما مساحة متر واحد في الوطن يلتقيان عليه، فالتقيا على بحر بيروت ليمسك كل منهما بيد الآخر بلهفة قلب مكتظ بشوق ثلاثين عاماً، لكنه اليوم لم يعد مسكونا بالحب فقط بل بصور للموت قد لا يمحوها من قلبيهما إلا الموت، ورغم هذا استطاع الراوي أن يُخرِجَ سلمى إلى حدّ ما من سواد حدادها، وسماع أغنيات فيروز وليقرر من هذا:
“أن الحب يهزم الموت، وأن الإنسان يريد الفرح، ويبحث عنه ولا يقرر الحزن أو يختاره ولا يعيشه إلا مرغماً” ص 87.
من رؤيا الحرب السورية إلى رؤيا إنسانية:
من خلال تلك الحكاية نتبين تفاصيل الرؤيا السردية التي رصدتها الرواية، وهي تمزيق النسيج المجتمعي السوري من قبل النظام الحاكم بعد تحويلة لخط الثورة عليه إلى حرب طائفية، فـ ” لقد اشتغل النظام عبر أجهزته الأمنية على توتير العلاقة بين بنّش والفوعة عبر مخبريه وعملائه من البلدتين وكان يقمع كلّ محاولة للتقارب بينهما” ص 81.
وكان لاختيار الروائي لبنش والفوعة المتجاورتين تاريخياً دوراً مبدعاً في تقديم هذه الرؤيا، فمن خلال ما حدث بين البلدتين يمكن اختزال ما آلت إليه الحرب في سوريا كما يصرح الراوي: كان شيءٌ ما يدفعني للحديث عن تجربة الحرب بين بنش والفوعة لما تعني لي شخصياً، ولما تمثله من اختزال وتكثيف للثورة السورية وما آلت إليه، ونتائجها الكارثية على الناس العاديين والبسطاء. ص86.
ويمكن القول إن هذه الرؤية ترقى بهذا النص إلى مستوى الأدب الإنساني الذي يشن حربا ضد الحرب، ويرى برؤية موضوعية أن الحرب وبكل أطرافها حرب قذرة ضد البشر، وما يجمعهم من أواصر إنسانيّة، وتتأجج تلك الرؤية في قول سلمى ” أريد ولدي الشهيد لا أريد أن أكون أم الشهيد” ص 97.
وينطلق الراوي من تلك الرؤيا للحرب السورية إلى رؤيا إنسانية بديلة للحرب حين يطرح أن نشتري بثمن الحرب التي تهدم الإنسان وكلّ ما يبنيه مادياً كان أم معنوياً عالماً إنسانيّاً:
“كنت أفكر وأتساءل ماذا لو كنا زرعنا شجراً بثمن الصواريخ والقذائف التي أطلقت في سوريا …؟ ماذا لو عمّرنا بيوتا ومدارس وجامعات للفقراء بثمن الطائرات والبراميل المتفجرة التي ألقيت عليهم؟ ماذا لو زرعنا ورداً في شوارع مدننا بثمن الرصاص؟ ماذا لو أرسلنا الشبان إلى الجامعات العالمية الكبرى بدل ان نرسلهم إلى الموت …” ص 110.
البنية الفنية الروائية:
- تمنيت مع إعجابي برؤيا النص لو لم يُؤَطَّر تحت عنوان “رواية” فهو إلى السيرة الذاتية أو الروائية أقرب منه إلى الرواية، فالكاتب لم يستطع خلق عالم تخييلي روائي؛ بل ارتكز على الواقع واليوميات مما جعل الكثير من الصفحات أقرب إلى التقارير الصحفية، تطغى فيها النبرة الخطابية المباشرة، والتقريرية أحياناً على الحدث كقوله: هناك عدالة غائبة المجرمون يحكمون …الخ … ص 111.
- على الرغم من وجود خيط ناظم للسرد هو خيطُ “سلمى” إلا أن الروائي كان من الممكن أن يجعله أكثر تشويقاً وإثارة للقارئ، وكان عليه أن يُنهي الرواية بلقاء الراوي وسلمى ولا حاجة إلى الصفحات التي جاءت بعد ذاك اللقاء، وهي أقرب إلى الخواطر.
- في النص -على الرغم من قصره /115/ صفحة- الكثيرُ من التكرار لألفاظ وأحداث كان يمكن الاستعاضة عنها بالإشارة إليها؛ كتكرار كلمة بنش في سطور وجمل متتابعة، أو مكان إقامته في الولايات المتحدة، وذكر حادثة مقتل أولاد أخيه بتفاصيلها في أكثر من موقع، وتكرار مشهد دراسته على الدروب بين الكروم.
كما وقع الروائي في الحشو، حيث سرد مشاهد لم تخدم السياق الروائي كتفيصله لمشاهد من طفولته مع أم حسين وصدرها الأبيض، وسائقِ سرمين وزوجته المثيرة…
أخيراً:
رواية “ملكة الفوعة تلميذ بنش” نصٌ أدبيٌّ يضيفُ إلى سرديات الحرب السوريّة تفصيلاً عميقاً جديداَ غيرَ مسبوق لجرحٍ من جراح تلك الحرب؛ جرحٍ سيشخبُ طويلاً إن لم نعالجه بالحب، حاولَ كاتبُهُ أن يسبُرَ أعماقَه بموضوعيّةٍ وحياديّةٍ وجُرأةٍ، ليؤرخ بذلك لجريمة من جرائم حكم نظام الأسد بحق النسيج المجتمعي السوري.
Sorry Comments are closed