اقتصاد مُحطم، وبلد خَرِب مُدمّر، وفساد شامل منتشر، وأسعار خياليّة للمواد الأساسية للحياة، وفقر مُدقِع، فالليرة السورية أصبحتْ في غيابت الجب، والشعب بات قنبلة موقوتة ينتظر من يسحب مسماره، وبعد كل ذلك قابلتْ حكومة الأسد مواطنها المُنهَك المظلوم بقرار يعيده عقوداً إلى الوراء.
سقى الله أيام قبل الثورة بسنوات عِدّة، عندما كنّا نقوم قبل الفجر، لا للتهجد بل للتشرد، متجهين أفواجاً وآحاداً إلى المؤسسات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين السورية، فكنّا نصل إلى المؤسسة فنرى من سبقنا كُثراً باتوا ليلتهم أمام أبوابها، فدَورنا في تلك الساعة من السَحَر وصل إلى الأربعين، وكلّ ذلك من أجل: سُكّر أسمر يجعل شاينا حليباً، والكأس تحتاج نصفها سكّر حتى تحلو، ورزّ قصير مكسّر يجعل الطبخة كصَبّة الباطون، وشاي ناعم يشبه أي شيء إلا الشاي، وزيت مغشوش كأنّه زيت هيدروليك.
نعم هذه هي المواد الغذائية التي كنّا نحظى بها قبل الحروب والثورة بسنوات، فكيف سيكون الحال اليوم والشام ترزح في وضع لا يحسدها عليه من يموت جوعاً في دول جنوب إفريقيا أعانهم وأعاننا الله؟!
يقولون في المثل الشامي: “إذا أفلس التاجر بحث في دفاتره القديمة”، وهذا ما جرى، فقد قرر نظام الأسد اليوم ترميم رُفات “البونات التموينية” التاريخية، وإحيائها من جديد، فما هي دلالات هذا الإجراء؟ وللإجابة أقول:
نظام الأسد يعيش في حالة اقتصادية مُزرية، فخروج “البونات” على السطح هي لهّاية لشعب بات ينتظر أو يتمنى الموت يومياً مائة مرة من الفقر والجوع والحرمان، فالنظام يعلم أنّ شعبه الذي يؤيده (خوفاً من بطشه) أصبح على وشك الانفجار، فجاءت “البونات” تنفيّسة ليصبّ الشعب جام غضبه على الحكومة بدلاً من رأسها المجرم.
هذا دليل واضح على أن الحكومة أصبحت عاجزة تماماً عن إيجاد وتأمين المستلزمات الأساسية للشعب الفقير.
“البونات” دليل صارخ على شُحّ الحكومة ومجلس الشعب عن الكوادر المؤهّلة لإدارة البلاد في زمن الأزمات فصارت تجتر من ماضيها.
هذا الإجراء كغيره مما سبق دليل على أن الحكومة ونظامها المجرم سبب للأزمات وليس سبباً في الحلول.
“البونات” رسالة من النظام لشعبه أنّه: إمّا أن تقبلوا بهذا الوضع الحالي، أو تعودوا لزمن تترحموا فيه على هذا الزمن!
“البونات” هي البنك الذي يجمع فيه أموال الشعب، عندما يحتكر المواد الغذائية، ليبيعها في مؤسساته لشعبه ويمصّ دمائهم.
البونات: هي باب جديد لجعل المواطن السوري بين خيارين أحلاهما مُر، فإمّا أن يشتري من المؤسسة الاستهلاكية التي تجبي الأموال لصالح جيوب النظام، أو أن يختار السوق السوداء، التي تبيعه السلع بأفضل حال من مواد المؤسسة وأسعار مُضاعفة وفاحشة، وتجبي الأموال أيضاً لجيب النظام الشريك الحصري لهؤلاء التجار.
وهكذا نجد أن قرارات الحكومة الصادرة عن نظام الأسد المجرم في عودة بطاقات “البونات” التموينية ما هي إلا قرارات مرتجلة حمقاء، تفتقر لأي دراسة رشيدة تعين شعبنا المسكين، بل هي أداة يُلهي بها الشعب عن مواجهته ويشغله في أمور تنسيه أوجاعه الحقيقية، ذلك الشعب الذي لم يعد يتحمّل جرائم الحاكم وغباء حكومته، في ظل فقر وحاجة وفاقة تقتله في اليوم مرات عدة، وقريباً جداً سيخرج ذلك الشعب الأبي عن صمته، بل سيرفع صوته عالياً مجلجلاً، ويكسر تلك العصا الهشّة، قائلاً لنظامه الفاجر : “الشعب السوري ما بينذل”.
عذراً التعليقات مغلقة