إذا أردت تدمير ثورة فأغرقها بالمال.
سيردد الكثيرون أنهم يعرفون هذه الحقيقة، وربما سيسهمون في دمار الثورة وهم على إيمان كامل بأنهم ثوار وأنهم خير من يتمثل تلك المقولة ويعمل على ألا تصيب بمالها جسد الثورة، سيتصدرون المشهد ويقودون الثورة حسب رغبة الداعم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
لم يعد الأمر بحاجة إلى إعادة ذكر الآليات التي فتتت وساهمت في دمار الثورة عبر الفصائل المتسترة برايات الله فهذا الأمر صار واضحاً لكل ذي نظر، لكن كيف استطاع المال تفتيت النخب الثقافية ومنعها من تشكيل جسد وطني سوري يكون جامعاً أصيلاً باتجاه تحقيق أهداف الثورة؟
أذكر في البدايات نشاط المثقف حازم نهار – على سبيل المثال- على مواقع التواصل وأذكر أنه كان يقول أنه بصدد العمل على تشكيل كتلة وطنية حقيقية ترفد أو تقود العمل الثوري. رويداً رويداً اختفى حازم نهار زمناً ليظهر فيما بعد في مؤسسة حرمون المدعومة قطرياً، ثم تركها ليتوارى في عزلته الخاصة.
وأذكر فيما أذكر أن غسان عبود استقطب في قناته التلفزيونية الكثير من النخب الثقافية وبدت القناة وكأنها حاملة لواء الثورة، حتى لكأنه ظن في نفسه الظنون وبدأ يتحدث وكأنه الرئيس القادم بعد سقوط نظام الأسد، لكن غسان عبود رويداً رويداً بدأ بالتلاشي والتحول والتخلي عن تلك النخب حتى أنه تخلى عن المراسلين الذين كانوا يعملون لديه من أرض الحدث بما يشبه المجان في بعض الأوقات، واختفى بعد ذلك زمناً ليظهر فيما بعد كأي رجل أعمال يستثمر أمواله في تايلاند وأستراليا.
بداية انقسمت النخبة المثقفة السورية انقسامها الحاد بين مؤيد ومعارض ولأن الحديث لن يتطرق للقسم المؤيد بسبب غياب الحس الأخلاقي لديه فسأقتصر في حديثي على النخبة المثقفة المعارضة التي انقسمت أيضاً إلى شقين (إسلامي ـ علماني) في ظل انعدام الرؤيا الوطنية عند كليهما، وأقول انعدام الرؤيا لأن التاريخ الحديث قادر على إلهامنا الخطوات الصحيحة فليس بعيد ذلك اليوم الذي اندغمت فيه كل الأحزاب السورية زمن الاحتلال الفرنسي تحت مسمى الكتلة الوطنية لترفع شعار الاستقلال أولاً وأخيراً وبمجرد تحقق الشعار عاد كل حزب إلى مكاتبه الخاصة فما الذي منع مثقفي اليوم من الاقتداء بأجدادهم الأقربين؟!
وإذا كان المتأسلمون على اختلاف راياتهم بمشروعهم الخاص الذي لا يعترف بما يسمى (وطن) قد استوردوا من التاريخ البعيد مصطلحات الجهاد والغنائم وخاطبوا الجانب الديني في نفوس عامة الناس مستخدمين ما شاء لهم الاجتزاء من القرآن والسنة، أقول إذا كان هؤلاء قد انفردوا بالمال والغنائم واستأثروا بمدلول الآية القرآنية التي تقول: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، فإن رفاقهم في الجانب العلماني لم يكونوا بأحسن حال منهم، الفارق فقط أن الإسلاميين عملوا كجماعة بينما آثر العلمانيون التفرد، ربما بسبب ارتفاع منسوب النرجسية لديهم وغياب مفهوم التضحية في سبيل الجليل والجليل لديهم قد نسميه (الوطن) فيما الجليل لدى مستغلي الجانب الديني عند الإسلاميين يسمونه (إعلاء كلمة الله) ولأن الجليل الأول يتطلب المزيد من الجهد والعرق والعمل المتواصل فقد تهرب منه الكثيرون بدوافع الخوف والكسل بينما الجليل الثاني يعد أصحابه بجنة وحور عين وراحة أبدية.
في أصول علم توجيه الحشود وقيادة الجماعات الذي لا أعرف الكثير عنه تتم الخشية دائماً من تشكل جسم صلب خارج قوانين النظام السائد يقود الجماهير باتجاهات لا يمكن ضبطها أو التكهن بمنتهاها، لذلك يتم العمل على استقطاب أغلب المثقفين بطرق أشبه بطريقة امتصاص قوة الخصم واستغلالها ضده في لعبة المصارعة الحرة حيث يستغل اللاعب اندفاع خصمه القوي ليعيد توجيهه بسحبه في جهة عمود الحلبة ليصطدم به ويقع مغشياً عليه. كذلك الحال مع مثقفينا حيث يتم استقطابهم للكتابة في مواقع وصحف تمنحهم حرية العمل بداية ليقولوا ما يريدون قوله ويغدقون لهم العطاء إلى وقت يستشعرون به وصولهم لحالة من الاسترخاء والاستقرار النفسي تبدأ بعد ذلك إشارات التنبيه والملاحظات بتدوير الزوايا الحادة مع الخوف من فقدان العمل وانقطاع الراتب، ويكون الآوان عندئذ قد فات وتم ضمان عدم تشكل ذلك الجسم الصلب فقد توزع من كان الأمل معقود عليهم على مختلف القنوات التلفزيونية والمؤسسات الإعلامية المسيرة أصلاً من أصحاب المال الذي يعمل ليل نهار على تدمير الثورة، أما النخب الثقافية فسينتهي بها الحال إلى مجرد موظفين أو كتاب يوظفون شراستهم في اتجاه ويكبتونها في اتجاه آخر ما سيؤدي حتماً في نهاية المطاف إلى ضياع البوصلة ودمار الثورة على وقع حوافر خيل الخلافات الخليجية ومحاور التحالفات الإقليمية، تماماً كما ضاع مشروع حازم نهار في مركز حرمون “القطري”، وغابت نرجسية غسان عبود في الساحات الإماراتية، أما من سلم من الجهتين فلم يبق لديه غير فضاء الفيسبوك الذي بدأ يحاسب حتى على البوستات التي تناهض نظم الاستبداد.
هل ضاع المثقف السوري بين تلفزيون أورينت وقناة سوريا حقاً؟ أكاد أجزم بنعم.
بعد إغلاق دار ميسلون للنشر وتوزيع مطبوعاتها مجانا للناس وإغلاق جيرون وحرمون وتحويلهما إلى مركز ثقافي عربي للدراسات هل استشعر بعض مثقفينا الخطر أم أن المهم فقط تحصيل وظيفة تسد الرمق في بلاد بدأت تتناغم مع بقية بلدان العالم في التضييق على السوري وإجباره على العودة إلى حضن النظام الذي كرسته وحمته وحافظت عليه المنظومة العالمية بقيادة العم سام الذي يستظل في ظل كل مدّعي السيادة.
أظن وبعض الظن إثم أنه حتى الاستشعار بالخطر بات غير متوفر، فمن يدعو اليوم إلى تشكيل جسم وطني حقيقي قلة قليلة جداً وجميعهم من خارج المؤسسات الإعلامية، أما الإعلاميون الذين تم تدجينهم فلم يستطيعوا القيام ولو بحملة بسيطة كالتي قام بها بريتا حاجي حسن ومجموعة الأمعاء الخاوية لأجل وقف دوامة القتل في إدلب، أكثر من ذلك سأبدي استغرابي الشديد لأمر حدث قبل أيام عندما قام تلفزيون سوريا ببث تقرير عن السوريين المرحلين من تركيا فقد تم حذف التقرير من مواقع التلفزيون كلها على تويتر واليوتيوب والفيسبوك، وأرجو ألا يقول لي الأصدقاء في التلفزيون أنه بسبب الأخطاء المهنية لأن التقارير التي تتضمن أخطاء مهنية كثيرة.
وللمرة الألف اسمحوا لي أن أصرخ: أبناء سوريا. كونوا سوريين ولو لمرة واحدة.
Sorry Comments are closed