في فعل متأخر، يصعب تثمين نتائجه مسبقاً، بادر المهندس بريتا حاجي حسن إلى إعلان الإضراب عن الطعام لفتاً لأنظار العالم إلى المجازر التي توالي قوات الأسد ارتكابها مدعومة بالاحتلالين الروسي والإيراني وسط صمت دولي ليس بالجديد. السيد بريتا كان رئيس المجلس المحلي السابق للقسم المحرّر من مدينة حلب، وهي تجربة لم يُكتب لها النجاح بسبب ما نعرفه عن توزع ذلك القسم بين الأهواء المتباينة للفصائل التي كانت مسيطرة عليه. من العمل المدني داخل سوريا، وصولاً إلى المنفى الأوروبي لم يتخلّ السيد بريتا عن إيمانه بالقدرة على فعل شيء ما من أجل القضية السورية، وإن عبّر على حسابه في فايسبوك قبل أيام عن خيبته من لاجئين سوريين في الغرب فقدوا صلتهم بقضيتهم الأم.
خلال شهر تصاعد بشكل خجول التضامن مع الإضراب الذي أعلنه بريتا، في البداية تحت شعار التضامن معه، ليزداد عدد المشاركين في الإضراب في مختلف الدول إلى قرابة المائة، وتأخذ الظاهرة اسم “حملة الأمعاء الخاوية”. تطور نوعي أتى به القائمون على الحملة هو اعتماد أسلوب الإضراب بالتتابع، بحيث يتوقف أحد المضربين عن الطعام باتفاق مع آخر ينضم إلى الحملة مستأنفاً الصيام عنه. قبل يومين مثلاً، أعلنت رباب حيدر أنها استلمت الصيام من مفيدة عنكير، منوّهةً بالروح التي بثّها استشهاد الساروت. أسلوب التتابع فيه فائدة إجرائية لجهة تحفيز الوافدين الجدد بحيث لا يتحملون مكابدة تفوق قدراتهم الجسدية والنفسية، وتالياً فيه من المرونة ما يسمح باستمرار الحملة وعدم انفضاضها سريعاً جراء الإنهاك واليأس.
الحملة غير مرعية من قبل أية جهة، ولا من قبل أية هيئة من الهيئات التي تزعم تمثيل الثورة، هذا يُحسب لها بالتأكيد ضمن السمعة السيئة لتلك الهيئات. يُحسب أيضاً لأولئك المشاركين فيها نبل دوافعهم التي تبدو نشازاً في هذا الوقت، أي مع تراجع الاهتمام العالمي بالقضية السورية إلى مستوى العدم. الاهتمام الإعلامي الذي يستبطن المزاج السياسي السائد سيكون غائباً عن تغطية الحملة، خاصة في الغرب حيث يُعوّل أصلاً على إيصال الرسالة إلى القوة المؤثرة فيه، مما قد يتسبب باليأس مع مضي الوقت.
في الواقع يحتاج التعامل مع الإعلام الغربي خبرةً مغايرة، تأخذ في الحسبان أنه غير متحفز أو جاهز بالمعنى التقليدي لتغطية الأخبار الخارجية، بخلاف جاهزيته النسبية لتغطية التفاصيل المحلية. ما يخرق تلك القاعدة هي القدرة على الوصول إلى فاعلين في الإعلام الغربي وإقناعهم بتسليط الضوء على ظاهرة ما، بمعنى أن العلاقات الشخصية تلعب دوراً مؤثراً أيضاً في الغرب، ومن المعتاد فيه أن يسعى أصحاب الخبر أو الحدث وراء الإعلام لتبنيه بدل حدوث العكس. ولا شك في أن تسليط الضوء على ظاهرة باستمرار يحتاج خبرة إعلامية وشبكة من العلاقات الواسعة مع المراكز الإعلامية بحيث لا تُغطى إعلامياً في منبر واحد ولمرة واحدة ثم تُهمل وتُنسى.
الوصول إلى الرأي العام الغربي أمر أكثر تعقيداً من تصوراتنا التقليدية عن دور الإعلام، رغم أهميته الشديدة، ففي المجتمعات الغربية هناك شبكة موازية من الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني لها تأثير في تكوين الرأي العام، فضلاً عن تأثيرها على وسائل الإعلام. هنا أيضاً قد يكون العمل على استقطاب تعاطف شخصيات عامة له دور كبير، وتلك الشخصيات لن تأتي من تلقاء نفسها، وقلّما يأتي أحد منها بناء على خبر قرأه في صحيفة. على هذا الصعيد ربما يكون بعض السوريين المقيمين في الغرب منذ زمن طويل هو الأكثر معرفة بمراكز التأثير، والأقدر على التواصل مع شخصيات لها وزن اعتباري، ومن المستحسن لحملة “الأمعاء الخاوية” اكتساب اهتمام أولئك السوريين وطلب مساعدتهم بدل انتظار أن يتبرعوا بها من تلقاء أنفسهم لأن هذا قد لا يحدث للأسف.
ثم، في أحسن الأحوال، ينبغي عدم توخي قطف ثمار مباشرة للحملة، لأن مراكز القرار الدولي التي صمتت عن عمليات الإبادة والتهجير منذ انطلاق الثورة لا تحرجها حملات من هذا القبيل، ومن صمت على الإبادة لن يكون حساساً إزاء أمعاء خاوية. توقع ذلك لا يأتي من باب التشاؤم، ولا لإغلاق الباب نهائياً على أي فعل، بل للتأكيد على النظر إلى الفعل نفسه كفعل تراكمي قد تأتي ثماره يوماً من دون تعليق آمال مستعجلة.
من الاعتبار الأخير ستكتسب الحملة أهمية أكبر فيما لو أعطت مثلاً جيداً على التماسك والتنظيم، وبذلك قد تفتح الباب أمام مبادرات أخرى، بحيث لا يكون هاجس أية مبادرة “أو من أوهامها” حصد نتائج سريعة. ومن الأهمية بمكان مجيء الفعل من خارج الهيئات والكوادر التي أثبتت فشلها خلال أكثر من ثماني سنوات، ففي ذلك مؤشر على بدء مرحلة يعاود فيها السوريون الإمساك بقضيتهم والتخلص من أسباب الفشل والهزيمة. أيضاً قد تستحث مبادرات جديدة أولئك الذين يرون الوقت مناسباً فقط لمراجعة أسباب الفشل، وهو ما تفعله عدة مجموعات سورية هنا وهناك، لكن يبدو أن مشاريع المراجعة تغرق حتى الآن في أسباب الفشل السابق بدل أن تستنبط منه اقتراحات جديدة.
يستحق أصحاب “الأمعاء الخاوية” اهتماماً لم يحظوا بعد، ولا يكفي النبل لنيله ما لم يكتسب نضجاً سياسياً، ولا ننسى أن إعادة اكتساب الاهتمام بالقضية السورية أصعب جداً من اكتسابه الذي حصل مع مستهل الثورة. صحيح أننا في أحلك الظروف، لكن ما علّمنا إياه الواقع السوري نفسه ألا نركن تماماً إلى الظاهر، وهذا ما يفعلونه الآن.
عذراً التعليقات مغلقة