يستعيد بعض اللبنانيين خطابا يعتقدونه وطنيا، فيما هو في الواقع عنصريا متخلفا، ينتمي إلى عصر ظلامي ولى، كان فيه استعباد الأفارقة مقبولا، وهو زمن تجدد في النصف الأول من القرن الماضي، فقدت أثناءه بعض شرائح المجتمع الأوروبي رشدها، وغرقت في خطاب نازي فاشستي عن تفوق عرقي مزعوم، وهو خطاب تسبب بإراقة دماء عشرات الملايين حول المعمورة.
والخطاب العنصري المتجدد في لبنان، والذي عبّر عنه وزير خارجية لبنان جبران باسيل في تغريدة أثارت تهكما لعنصريتها، يشارك فيه أكاديميون لبنانيون في لبنان والمغترب، ومفاده أن الموروثات الجينية للبنانيين تثبت تمايزهم عن، وربما تفوقهم على، باقي العرب، خصوصا من الفلسطينيين والسوريين. ويعيش أكثر مليون سوري في لبنان، هربا من الحرب الدموية التي يشنها عليهم الرئيس السوري بشار الأسد.
ويعتقد بعض العنصريين اللبنانيين أن جيناتهم تتماهى مع جينات شعوب عريقة ذات حضارات راسخة، مثل اليونان والرومان، وأن محنة اللبنانيين بدأت مع الغزو الإسلامي العربي للساحل المتوسطي، قبل حوالي ألفية ونصف من الزمن، وهو اجتياح أدى إلى تعريب لغة اللبنانيين، وإلى أسلمة عدد كبير منهم، وإلى إلحاقهم بمنظومة اجتماعية وسياسية متخلفة، بدلا من منظومتهم اللبنانية المتفوقة.
وعلم الجينات هو عنصرية بذاته، وهو وريث علم فراسة الجماجم، والأخير علم مزيّف ساد في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وفراسة الجماجم تفاهة مبنية على قياس جماجم الشعوب، واستخلاص صفات شخصية لأفرادها حسب قياس شكل وحجم جماجمهم، وهو العلم الذي استند إليه بعض الأوروبيين في عملية الاستعباد التي أداروها في أفريقيا، وخلصوا إلى أن جماجم السود تؤكد تأخرهم فكريا، وكسلهم، واستحالة التحاقهم بالحضارة البشرية، ما يجيز معاملتهم كحيوانات وامتلاكهم. وهو العلم نفسه الذي استند إليه النازيون في تصنيف الشعوب إلى جرمانية آرية متفوقة، وسلافية متخلفة، وسامية ـ يهودية خصوصا ـ لا تستحق الحياة.
وفي لبنان استند بعض المتأثرين بالنازية من الداعين إلى قومية، غير عربية، إلى نفس علم الجماجم المزيف لإثبات تفوق المشرقيين على العرب. وفي طبعات لاحقة، شطب هؤلاء القوميون الجزء المتعلق بالجماجم من كتابات مؤسسيهم. وفي لبنان أيضا، كانت محاولات فكرية، في الزمن نفسه، لتبرير قيام قومية لبنانية بناء على عنصرية ما، واليوم على فحوصات مخبرية وجينات.
لكن الجماجم والجينات لا يمكنها رسم حدود، ولا إرساء عقود اجتماعية تقوم عليها أوطان بالمعنى الحديث، فالجينات في الهوية السياسية هو كالحديث عن رابطة الدم في تحديد الهوية السياسية لقبيلة، يتعاضد أفرادها بناء على نسب متخيل، بغض النظر عن الجغرافيا وأماكن توزع الأفراد، مثل في اعتبار أن كل المسلمين في العالم شعب واحد، أو المسيحيين، أو غيرهم.
والمفهوم القبلي ساهم في بناء دول في مرحلة ما قبل عصر الأنوار الأوروبي، ثم استبدلت معاهدة وستفاليا القبلية الوطنية البدائية بسيادة وطنية محددة بحدود جغرافية معينة لا تتعادها سلطة الحاكم، حتى لو كانت لحماية من هم من أبناء جنسه أو دينه من المقيمين في دول أخرى.
ويحدث أن يتجاهل بعض الحكام أسس وستفاليا لسيادتهم على الدول، فيجتاح هتلر مقاطعات مجاورة، أو دول بأكملها، لحماية أبناء جنسه من الجرمان من غير مواطنيه. وفي زمننا الحالي، يرى مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي نفسه، لا زعيما إيرانيا فحسب، بل قائدا للأمة الإسلامية ـ غالبا الشيعية ـ حول العالم، فيخسر الشيعة غير الإيرانيين هويتهم الوطنية في الدول التي يعيشون فيها، ويصبحون جزءا من أمة عابرة للحدود تتأرجح بين هويتين شيعية وفارسية.
أما عصر الأنوار، فأساسه الحرية الفردية، التي تقوض مفهوم القبيلة والأمة المتجانسة عرقيا أو دينيا، وترى أن الدول تتألف من أفراد، لكل منهم هوية جينية وعرقية وثقافية ودينية مختلفة، ولكنه اختلاف لا يؤثر في المساواة التامة بين كل المواطنين.
وفي الدول الحديثة، غير المتخلفة، لا تحدد الجينات أهواء الأفراد وتصرفاتهم، بل تحددها تجاربهم، فتصبح علوم المجتمع، مثل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، هي التي تحدد المزايا التي يشترك فيها مواطنو أي دولة، لناحية أذواقهم في المأكل والملبس والموسيقى والترفيه، وعاداتهم، ولغتهم، بغض النظر عن جيناتهم أو معتقداتهم الدينية.
للأسف، فات وزير خارجية لبنان باسيل ما سبق أن فات المارونية السياسية بأكملها: إن الدول الحديثة المبنية على المساواة الكاملة بين المواطنين هي في مصلحة الأقليات، وإن الدول القبلية المبنية على رابطة الدم هي في مصلحة القبيلة الأكبر والأكثر عددا.
هو تاريخ يعيد نفسه، تتسبب فيه الضحالة الفكرية في عنصرية فاقعة وقصر نظر سياسي، فترتد على الأقلية وعلى مصالحها، فيزداد ضمورها ضمورا، وهي ضحالة يشارك في صناعتها مسؤولون مسيحيون لبنانيون، ومعهم بعض الأكاديميين من المتعدين على اختصاصات الآخرين، فلا سعيد عقل ولا فؤاد البستاني كانا من المؤرخين، ولا المهندس باسيل وصحبه من المتخصصين في الرياضيات والكيمياء من أصحاب الاختصاص في علوم الإجتماع وكيفية بناء دول قابلة للحياة. أما النتيجة، فعنصرية مضحكة ومبكية في الآن نفسه.
Sorry Comments are closed