نشرت وكالة رويترز تحقيقا حول قيام الكرد السوريين، لأول مرة في تاريخهم، بتعليم الكردية في مدارس سورية شرقي الفرات، حيث تنحسر سلطة النظام السوري. ولفتت الوكالة إلى انتشار المكتبات التي تبيع كتبا بالكردية، وقالت إن الكرد السوريين يعتقدون أنهم لن يعودوا إلى زمن ما قبل الثورة السورية، في العام 2011، يوم كانت سلطات حزب “البعث العربي الاشتراكي” السوري الحاكم تحظر اللغة الكردية، وتعتقل وتعذب من يتداولون مطبوعات كردية أو يقيمون مدارس لتعليمها.
أن يضطهد نظام عائلة الأسد، الذي يحكم سوريا منذ مطلع السبعينيات، الاستقلاليين والسياسيين الكرد أمر مفهوم، فنظام الأسد لا يقبل المشاركة مع أحد، لا مع سياسيين من الغالبية العربية، ولا من الكرد، ولا من الأقليات السورية الأخرى. ما هو غير مفهوم هو العداء للتراث غير العربي والثقافة غير العربية لدى الأقليات السورية، واعتقاد أن مجرد إتقان لغة غير العربية يعني خروجا على طاعة الحاكم.
صحيح أن عقيدة البعث العربي التافهة ساهمت في القمع الثقافي وفي فرض الأحادية العربية، لكن اضطهاد الأقليات، وأديانهم، وتراثهم، وثقافاتهم، لا ينحصر بسوريا البعثية، ولا بالعالم العربي أصلا.
إيران، مثلا، تمنع الأقلية العربية، التي تشكل غالبية سكان الساحل الجنوبي المطل على الخليج، تعليم لغتها في المدارس على الرغم أن إيران، ذات الحكم الإسلامي، يفترض أن ترفع العربية إلى مرتبة اللغة الأولى حسب تعليمات الإسلام الذي لا يجيز العبادة ـ أي الصلاة وتلاوة الذكر ـ بلغة غير العربية.
ومثل اضطهاد إيران لأقلياتها، دينيا وثقافيا وتراثيا، كذلك اضطهدت تركيا أقلياتها، خصوصا الكرد منهم، وفرضت التتريك عليهم، ومنعتهم لزمن طويل من استخدام لغتهم. وهكذا العراق مع الكرد، وحكومات شمال أفريقيا العربية مع الأمازيغ. كله اضطهاد لا يرتبط بالسياسة.
ربما تعتقد الحكومات المضطهدة في الشرق الأوسط، العربية والإيرانية والتركية، أن انتشار ثقافة ولغة غير الرسمية تؤدي إلى تفكك النسيج الوطني، وتذكي نار الشرذمة والانقسام. لكن اللغة الواحدة والثقافة الواحدة والدين الواحد لم تكن يوما سببا في وحدة منشودة، وهذه دول العرب، ذات الغالبية المسلمة، منقسمة في 22 حكومة متناحرة يستحيل التناغم، إن لم نقل الوحدة، بينها. ومثلها دول متجانسة لغويا وثقافيا ومتجاورة، لا تتحد، مثل أميركا وكندا، أو دول جنوب أميركا الناطقة بالإسبانية.
اللغات والأديان والثقافات لا تنتشر بالفتوحات، ولا بالاضطهاد، ولا بمراسيم حكومية، ومن يعتقد ـ خاطئا ـ أن العربية انتشرت بالفتوحات، عليه أن يفسر لماذا لا يتحدث ولا نفر العربية، كلغته الأم، في المساحة ذات الغالبية الإسلامية الممتدة من حدود الهند إلى حدود العراق. ومن يعتقد أن الاضطهاد هو السبيل لنشر لغة ما، عليه أن يفسر لما لم تمت العربية، رغم كل محاولات التتريك العثمانية، ولما لم تمت الكردية، رغم قرون من الاضطهاد على أنواعه للكرد. لكن لغات أخرى ماتت، مثل الفينيقية، والعبرية القديمة، والمصرية الفرعونية (باستثناء في الكنيسة القبطية).
إن حياة اللغات والثقافات ترتبط بالظروف المحيطة بها، فتتوسع اللغة والثقافة يوم يتمتع أهلها بنفوذ مالي واقتصادي، وتتحول لغتهم إلى وسيلة ترقي طبقي واجتماعي لمن يتحدثها من غير متحديثها كلغتهم الأم. لهذا السبب، علّم علية القوم العرب أبناءهم التركية مع بداية القرن الماضي، اعتقادا منهم أن مستقبل أولادهم كان في اسطنبول، عاصمة السلطنة، حيث المال والنفوذ والقرار. وللسبب نفسه، تبنت شعوب العالم لغات الإمبراطوريات الثلاثة الأخيرة، البريطانية والفرنسية والاسبانية.
ومع تفوق أميركا منذ منتصف القرن الماضي، تحولت الإنكليزية، والثقافة الأميركية بشكل عام، إلى لغة العالم، بالتزامن مع تحول الدولار عملة العالم، فمن يتقن الإنكليزية، تنفتح أمام ترقيه الطبقي ومصالحه أبوابا كثيرة، ومن لا يتقن لغات غير المحكية في قريته النائية، يصعب عليه الانخراط في اقتصاد معولم تسوده في هذا الزمن الإنكليزية.
التنوع مفيد، والحفاظ على اللغات القديمة محكية يبقي أبوابا مفتوحة على ماض رحل وعلى تراث رافقه. لكن الحفاظ على اللغات بقرار حكومي، كردي ذاتي أم عربي دمشقي، لن ينجح. ما ينجح هو نجاح المتحدثين بلغة ما، وتقديمهم اختراعات للبشرية بلغتهم، وتحول مدنهم إلى محطات عالمية للتجارة والسياحة والمصارف والخدمات. وقتذاك، تدخل لغتهم في نادي اللغات المفيدة لمصالح من يتحدثها. أما تعليم اللغات في المدراس، فجميل من باب التنوع والحفاظ على التراث، ولا مبرر لمنعه أو اضطهاده، ولكنه يبقى على ما هو عليه، جزء من تراث رحل وبلا مستقبل منظور.
Sorry Comments are closed