لم تثمر التحذيرات الأميركية التي أُطلقت قبل أيام لردع قوات الأسد عن مهاجمة فصائل الجنوب، وبدءُ الهجوم يوم الأربعاء الفائت لا يعني تحدي تلك التحذيرات، بل يعني على الأرجح أن صفقة ما قد تمت بوساطة روسية ستؤدي إلى الصمت الأميركي. الصفقة، التي لا تُعرف أبعادها بعد، أثمرت عنها مفاوضات روسية- إسرائيلية، وتتضمن موافقة تل أبيب على استعادة الأسد السيطرة على مناطق ذات أهمية لها، مع استبعاد الوجود الإيراني وميليشيات حزب الله من المنطقة، على الأقل ظاهرياً مع وجود أقاويل عن تخفي الجانبين ضمن قوات الأسد.
أهمية الجبهة الجنوبية بالنسبة للأسد وحلفائه أنها الأقرب إلى العاصمة، بعد تحييد غوطتها الشرقية عسكرياً، والسيطرة العسكرية عليها تسدل الستار نهائياً على الخيار العسكري بوصفه وسيلة للضغط، لا من أجل تهديد الأسد المرتاح أصلاً لاستبعاد إسقاطه. من هذه الأهمية الرمزية ستكون الموافقة الإسرائيلية على عودة قوات الأسد بمثابة تأكيد على عدم وجود مشكلة معه في حال ابتعدت إيران عن الحدود، وبمثابة تأكيد أيضاً على تفضيل بقاء الأسد ضمن الضوابط المناسبة لتل أبيب، ويجوز تشبيه هذه الصفقة بصفقة الكيماوي التي أبرمتها إدارة أوباما، والتي نصت عملياً على بقاء بشار مقابل نوع سلاحه الكيماوي.
غير أن الصفقة الإسرائيلية عبر موسكو غير ممكنة من دون ضوء أخضر أميركي، وربما يتعدى الأمر وجود ضوء أخضر لتكون تل أبيب بمثابة قناة تفاوض خلفية في الشأن السوري بين واشنطن وموسكو. هذا الاحتمال يعززه الانسحاب الأميركي الواضح من الشأن السوري بشقيه السياسي والعسكري، معطوفاً على رغبة ترامب المعلنة في استعجال الانسحاب من سورية. كنا، قبل أيام قليلة من الهجوم على جبهة الجنوب، قد شهدنا صفقة أميركية- تركية لسحب المقاتلين الأكراد المدعومين أميركياً من مدينة منبج، وكأن إدارة ترامب تريد التخلص من التزاماتها إزاء الفصائل العسكرية جنوباً وشرقاً، وأكراداً وعرباً.
هذا السلوك الأميركي يخالف ما كان قد أُعلن من قبل، لجهة التصدي بحزم للنفوذ الإيراني، حيث يصعب تصوّر التصدي الجاد لنفوذ طهران في غياب التمسك بالنفوذ الأميركي على الأرض، مع ميل إسرائيلي إلى التهدئة بعد التصعيد الإعلامي والعسكري إزاء الوجود العسكري الإيراني في سورية. الزخم الذي رافق الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران تراجع، وربما هذا ما يفسّر أيضاً تراجع التصريحات الإيرانية التي تتوعد بردود قاسية.
في كل الأحوال، أهمية الملف السوري لإدارة ترامب لا تختلف كثيراً عن أهميته لإدارة سلفه، ففي الحالتين هذا الملف يقع في أدنى سلم الأولويات، ولا يطفو على السطح إلا على خلفية الاشتباك في ملفات إقليمية أو دولية أخرى. في عهد أوباما كانت الأولوية لإبرام الاتفاق النووي مع طهران، ما عزز فرص الإبقاء على بشار مدعوماً بنفوذها، ومن ثم الموافقة الضمنية على التدخل الروسي بعد فشل الحماية الإيرانية. فوق ذلك كانت النزعة الانعزالية الأميركية قد بدأت تنذر بالانكفاء عن المسؤولية إزاء القضايا الدولية، لتتعزز بوجود ترامب على نحو أكثر وضوحاً وشعبوية.
الآن، ثمة نقاط تشابه بين ترامب وأوباما لم تكن موجودة في بداية عهد الأول، وقد يكون حافز التشابه ذلك الإصرار الشديد بهدف التفوق على أوباما والتخلص من إرثه. اليوم يطمح ترامب إلى تجاوز أوباما من خلال عقد اتفاق نووي مع كيم جونغ أون بعد تمزيقه الاتفاق مع طهران، ليظهر بصورة صاحب إنجاز أضخم من سلفه، واستعجال إنجاز الاتفاق والطريقة الاستعراضية التي رافقت القمة الأميركية-الكورية فيها ما فيها من الدلالة على تلهف ترامب.
الملف الآخر، الذي يحاول من خلاله ترامب تجاوز أسلافه، هو الملف الفلسطيني عبر ما يُسمى «صفقة القرن». حتى الآن لا تتوفر معلومات عامة عن الصفقة، إلا أن نقل السفارة الأميركية إلى القدس لا يُعدّ مدخلاً إيجابياً بالنسبة للفلسطينيين، وكذلك هو انسحاب واشنطن من عضوية مجلس حقوق الإنسان بدعوى انحيازه ضد إسرائيل. المهم، والمفاجئ، على هذا الصعيد عودة الاهتمام الأميركي بهذه القضية الشائكة التي يأس من حلها عدد من الرؤساء السابقين، ولا تُعرف أوراق القوة التي يتسلح بها ترامب ليسند بها طموحه كرجل سلام.
في الملفين السابقين لن تكون الطريق ممهدة، والقوى التي تتعارض مصالحها مع السياسات الأميركية ستقوم بعرقلتها، وهي قد تكون أكثر قدرة على التسبب بالمشكلات، أو الحصول على مكاسب جراء الاستعجال الأميركي. في الملف الكوري مثلاً، يصعب تخيّل مسيرة سلسة نحو إزالة الأسلحة النووية مع شبح حرب تجارية بدأت بفرض رسوم تجارية على بضائع صينية، وأيضاً في ظل علاقات أميركية-روسية متعثرة.
يُذكر أن موسكو، بخلاف الجنوح الصيني التقليدي إلى الصمت، بادرت فوراً إلى التشكيك ببيان قمة ترامب- كيم، قبل أن ترحب بها لاحقاً لترفق الترحيب بدعوة الرئيس الكوري إلى موسكو، وهي دعوة لا يمكن فصلها في هذا التوقيت عن مباحثات الملف النووي، وربما وضع العصي فيها. الملف الأعز على موسكو حالياً هو السوري، ولا يُستبعد أن تعرض تسهيل المهمة الأميركية مع كوريا لقاء تنازلات من واشنطن فيه، مثلما لا يُستبعد قبول الأخيرة بذلك.
في الملف الفلسطيني، تحظى طهران بنفوذ قوي على حركتي حماس والجهاد، ولن تقف متفرجة أمام صفقة تقصي نفوذها الفلــــسطيني، فوق ما هو مطروح لجهة تحجـــيمها إقليمياً. في النهاية، ربما تقبل طهران بالمــقايضة لصالح حلقة نفوذها الأهم في سورية، وربما تكون أكثر استعداداً لتقديم تنازلات مقابلة فلسطينياً، ويمنياً بخاصة مع الإنهاك الذي أصاب مقدرات الحوثيين. قبل المقايضة لن تتوقف عن وضع العراقيل أمام واشنطن، وحتى أمام موسكو إذا اختارت الأخيرة الاستئثار بسورية.
ميزة الواقع السوري أنه يمتلك معطيات كافية لقلب الطاولة على الروس والإيرانيين إذا احتدمت التناقضات الدولية، وأنه في الوقت نفسه الثمن الذي يتقاضاه الطرفان لقاء تسهيل صفقات إقليمية ودولية لانخفاض قيمته الاستراتيجية أميركياً. من هذه الجهة، قد تكون صورة ترامب الأولى على تهافتها وعلاتها أقل ضرراً من طموحاته الكبرى، إذا لم تكن هذه مجرد طور عابر أيضاً.
عذراً التعليقات مغلقة