* غادة السمان
ثمة مخابرات هاتفية تشبه آلة الزمن… تعود بك إلى الماضي، وهي تتحدث عن المستقبل. منها مخابرة صباحية مع الدكتورة نجود الربيعي الأستاذة في جامعة دالرنا في السويد وهي عراقية الأصل سويدية الجنسية. والاتصال الهاتفي جاء بعد استلامي رسالة منها تطلب، وزميلتها الأستاذة في الجامعة نفسها أيضاً الدكتورة ليسا بيرج، الإذن لترجمة بعض قصائدي إلى السويدية.
الإستئذان؟ يا لذلك السلوك الحضاري الذي لم آلفه كثيراً في وطني، بل وما أكثر الذين ينتحلون نصوصي ويوقعونها بأسمائهم والذين يزوّرون كتبي كما حدث لروايتي الاخيرة «يا دمشق.. وداعاً». والحكايات عن ذلك تطول ولذا أعود إلى الدكتورة نجود وزميلتها الدكتورة ليسا بيرج فهما تقومان بعمل جميل نبيل هو تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وذلك من خلال نصوص كاتبات عربيات مروراً بجميع العصور العربية. وذلك جهد استثنائي يستحق تقديراً عربياً من عشاق لغتنا وفعل مقاومة أيضاً لأفكار سلبية سائدة عن دونية المرأة العربية.
د. نجود وزميلتها د. بيرج تعدان لهذا الغرض (تدريس العربية لغير الناطقين بها) كتاباً سيصدر عن منشورات جامعة «ييل» الأمريكية المعروفة. وتحية إلى الدكتورتين اللتين تقومان بعمل إيجابي هو تعليم العربية للغربيين، وما أكثر المغتربين الذين لا يكلفون أنفسهم عناء ذلك لتعليم أولادهم العربية! وبهرني أنها ذكرت، كمثال أول في محاولتها تقريب الأدب العربي من الأذهان الغربية، عبارة من كتاب لي وجدتها د. نجود تجسد ما هو إنساني ومشترك بين البشر. والعبارة هي: «الحياة فقاعة فصّورها قبل أن تنفجر»… التي صَدّرت بها كتابي الشعري «اعتقال لحظة هاربة». ولتلك العبارة حكاية معي ومع العراق.
العودة من السويد إلى النجف!!
حين أرحل، لا أكتفي بزيارة عاصمة البلد ولا الواجهات السياحية بل أحب التغلغل في المدن الأخرى بدافع الفضول الإبداعي. وهكذا، في رحلة لي من بغداد إلى كربلاء والكوفة والنجف برفقة أصدقاء تسكعت في الشوارع والأزقة وأنا أتأمل مظاهر الحياة اليومية، وأطالع الوجوه والواجهات، حين تسمرت أمام باب حانوت صغير جداً لمصور شعبي في النجف، والكتابة على الباب العتيق المغبر، كادت الشمس تحرقها تقول بخط مرتجف: «الحياة فقاعة فصّورها قبل أن تنفجر»!… سحرتني تلك (الحكمة) العميقة العفوية التي لم يسبقه إلى صاحبها المنسي المغمور أي إعلامي. وثمة تعبير مشابه وأقل إبداعاً شعرياً في هذا الحقل يقول: «كيف تستطيع أن تجعل جزءاً من الثانية يدوم إلى الأبد» وذلك في إعلان عن كاميرا حديثة.
وجدت حكمة البسطاء في النجف أكثر عمقاً من الشطارة الإعلامية للإعلان المدفوع العصري… فلا شيء يدوم إلى الأبد والحياة فقاعة ستنفجر على الرغم من أن البعض يتوهم أنه بالشهرة والمال والنفوذ أكثر من فقاعة.
الاستماع للناس فن
وحكمة البسطاء هي أهم ينابيع عطاء الكاتب شرط ألا ينظر إليها بترفع بل أن يطالعها بتواضع التلميذ الذي يتعلم من الخبرات المتوارثة المقطرة في عبارات حية… وفن الاستماع للناس حبر الكاتب، وبالذات للطيبين البسطاء الذين ينقلون لنا التراث الشفهي لأجداد أجدادنا.
وهكذا فكل ما أخطه في حقل «اعتقال لحظة هاربة» هو في جوهره استيحاء من عبارة المصور الشعبي في النجف… الذي لا أعرفه ولا أدري ما إذا كان حياً أم أن فقاعته انطفأت، وكل ما تقدم ارتسم داخل دماغي كقوس قزح خلال المخابرة الهاتفية مع الدكتورة نجود
أنسى أنني فقاعة ستنفجر!!
لو كان ذلك المصور الشعبي في دكان صغير مغبر في النجف يدري أن العبارة التي سطرها في واجهة حانوته ستكون مدخلاً للتواصل بين الشعوب ولتعليم اللغة العربية لبلدان تجهلها كيف كانت ردة فعله ستتجلى؟ بتواضع بالتأكيد. من طرفي اقترف دائماً نسيان تلك الحكمة، ريثما يوقظني عليها خبر ما أو رسالة من صديق سوري قديم مشرد كتلك التي وصلتني من أحدهم وهو يعمل أستاذاً في جامعة أمريكية، وعلمت من رسالته برحيل العديد من إخوة الماضي وبينهم جان ألكسان، نبيل المالح، ناظم الجعفري.
اجل! أقترف دائماً غلطة نسيان تلك الحقيقة وأقوم بتأجيل التواصل مع أصدقاء الفكر والقلب لإنجاز كتاب جديد وتطلعاً لأيام أقل توحشاً وأنا أتوهم أن ثمة وقتاً.
رحل ناظم الجعفري الفنان الكلاسيكي السوري الكبير قبل أن أكتب له كما كنت أنوي منذ عقود لتأكيد إعجابي بفنه وطلبي شراء اللوحة التي رسمها لي حين كنت في السادسة عشرة من عمري. حدث ذلك في دمشق، وكان الحبيب والدي يريد من أخي اتقان كل شيء لكنه نال علامة متوسطة في مادة الرسم وكان أستاذه في المدرسة يومئذ ناظم الجعفري.
ضرب والدي موعداً معه في بيته لدروس خاصة في فن الرسم لأخي وكنت أرافقهما… وطلب الفنان ناظم الجعفري من أبي الإذن برسمي، ووافق أبي على جلستين، وهكذا كان… ومن زمان وأنا أنوي الاتصال بناظم الجعفري أو بأخته للحصول على تلك اللوحة! وكنت أتوهم أن ثمة وقتاً لذلك حين أنجز هذا الكتاب أو ذاك.
لحظة ضاحكة دامعة!
لطالما تراسلت مع جان ألكسان أخي الأبجدي وحاضرنا معاً في حمص ودمشق والتقيته في بيروت ثم توقفنا عن المراسلة تدريجاً لحزنه على رحيل ابنه الشاب وحزني على رحيل زوجي.. وكنت اتوهم أن ثمة وقتاً للشفاء وتجديد المراسلة ونسيت حكاية الحياة الفقاعة… والشيء ذاته ينسحب على أخي المخرج المالح…
والمخابرة الهاتفية من الدكتورة الشابة نجود الربيعي من السويد ذكّرتني بكل ما تقدم في ومضة كضربة برق في الرأس. وكي لا أختتم كلامي بالكآبة سأقوم بتحوير العبارة وأقول: الحياة فقاعة، فاضحك منها قبل أن تنفجر!
* نقلاً عن القدس العربي
عذراً التعليقات مغلقة