* ميشيل كيلو
هناك جوانب في اتفاق الجنوب السوري بين الدولتين العظميين يعتبر إغفالها خطأ قاتلاً بالنسبة لقضية الشعب السوري ومصالحه وثورته المجيدة.
أول الجوانب أن كل واحدة من الدولتين تتموضع في مناطق خاصة بها من وطننا، عدا الجنوب بمحافظاته الثلاث، حيث سترابط قواتهما معاً، وستقوم بمهام مشتركة أقرتها قياداتهما السياسية والعسكرية. وستنفذها شاء من شاء وأبى من أبى، في إيران ودمشق وبيروت. بذلك، تكون منطقة الجنوب المكان الوحيد في بلادنا الذي أنهى الجانبان صراعهما عليه فيه، وتعهدا بنقله إلى أوضاع تشبه، من بعض الجوانب الحقبة ما بعد الأسدية، سواء بإقرارهما باستقلال الجنوب عن النظام، أم بإبعاده عن حملات روسية/ إيرانية فرضت بالأمس القريب هدناً أعادت مناطق عديدة إلى “حضن الوطن”، بينما ستتدبر شؤون هذه المناطق إدارة ذاتية منتخبة تحت إشراف دولي، ستمثلهم في إطار المعارضة عموماً و”الائتلاف” خصوصاً، فإن دعمت وتوحدت أسست لأول مرة منذ اندلاع الثورة كياناً داخلياً معترفاً به دولياً. يضاف إلى كيان خارجي معترف به دولياً هو “الائتلاف”. في هذا السياق، سنتذكّر دوماً أن تفاهم الدولتين كان مطلبنا الدائم، وأننا عزونا عدم تطبيق وثيقة جنيف والقرار 2118 إلى خلافاتهما التي وضع تفاهمهما في الجنوب حداً لها.
ـ أخرج التفاهم الأميركي/ الروسي على الجنوب القوتين الإقليميتين منه: إيران، على الرغم من تبجّح رئيس برلمانها بأنها غدت جزءاً من سيادة الدولة الإيرانية، والمحافظة 35 من محافظاتها. وتركيا التي لم تعد القضية السورية في حساباتها غير ورقةٍ تخدم مصالحها. أخرج العرب بدورهم من الاتفاق الذي يمكن أن يساعدنا على إخراجهم من الصراع على سورية، لما له من إيجابيات بالنسبة إلى قضيتنا، كالحد، ولو جزئياً، من حضورهم الكارثي، في ثورة ادّعوا دعمها، لكنهم أرسوا سياساتهم على التحكّم فيها، وإفشالها، بإفساد المنخرطين فيها، وتحويل كثيرين منهم إلى تجار دم وسرّاق مال سياسي. بالاتفاق، تكوّنت لدينا لأول مرة فرصة لممارسة تأثير في دور الدولتين الإقليميتين والدول العربية، يخدم مصالح شعبنا وقراره المستقل الذي يجب أن نستعيده.
ـ بما أن الاتفاق سياسي، والدور الذي يمنحه لنا سياسي، سيكون علينا أن نستعيد من جديد مكانة السياسة وغلبتها في تحديد مواقفنا وقضيتنا، بعد أن غيبتها حساباتٌ وهميةٌ ارتبطت بعمل عسكري متقطع وعشوائي، وقوّضها العجز عن الفعل، وسط بحر من مزايدات ومناقصات طمست الوطنية السورية، كحاضنة استراتيجية للعمل الثوري والمعارض، واعتمدت بدلاً منها ولاءات دنيا على قدر استثنائي من العداء لوحدة الشعب وحريته، ولقيم الحرية والعدالة والمساواة التي طالبت الثورة بتحقيقها في سورية الجديدة.
في ظل اتفاق سيفضي إلى تراجع دور العمل العسكري، سيتوقف، من الآن، تحقيق أي هدف من أهداف الشعب على تعظيم دور السياسة وترجيحه على ما عداه، وعلى ضبطه، بحيث يتفق مع حرية السوريين ووحدتهم ، ويرد الاعتبار إلى العمل السلمي والعام والعاملين في حقله، بعد سقوط حقبةٍ نشر عبدة السلاح خلالها أجواء هستيرية، جعلت السياسة خيانة موصوفة، لن تنتج ممارستها غير منع انتصارهم الموهوم الذي عطلوا باعتماده مشاركة السوريين في الثورة، وعجزوا عن وقف انهيار فصائلهم خلال المعارك التي خاضتها طوال العام الماضي، باستثناء التي خاضتها بعضها ضد البعض الآخر، وانتهت بحصيلة وافرة جداً من قتل السوريات والسوريين، وتدمير بيوتهم ومناطقهم.
يعظّم الاتفاق فرص السياسة، بدءاً باختيار السوريين الحر ممثليهم، ويفسح المجال لاستعادة دورها فاعلية حاكمة. لذلك، ستمس منذ اليوم حاجة الثورة إلى مراجعةٍ شاملةٍ للممارسات السياسية التي تمت، خلال السنوات الست المنصرمة، وإلى بلورة جوانب كانت غائبة أو مغيبة عنها، وفاعلين لديهم الرغبة في والقدرة على خوض معاركها بصراحة وجرأة، انطلاقاً من التمسّك بوثيقة جنيف والقرارات الدولية التي تخدم مصالح شعبنا، لا بد أن نخوض المعارك التي يتطلبها تطبيقها.
في الماضي، فوّتنا على أنفسنا فرصة تولي الحرب بقوانا الذاتية ضد “داعش”، فهل نفوّت على شعبنا اليوم فرصة اتفاق الدولتين العظميين على بداية حل سياسي، ستزيد إدارتنا الحكيمة له من قدرتنا على إطاحة قاتل شعبنا ونظامه الفاسد والطائفي.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة