إذا كانت الثورة السورية قد أُجهضت عنوةً، وإذا كان الملفّ السوري قد دخل في حالة سبات في المستويين، السياسي العسكري، منذ سنوات، فإنّ فكرة الثورة لا تزال حاضرةً في وعي جمهورها، ولا تزال تطلّ بين الفَيْنة والأخرى مع كلّ تصريحٍ أو موقفٍ أو حدثٍ يطرأ. وأن تُطرح الآراء المختلفة للنقاش في وسائل التواصل الاجتماعي أمرٌ جيّدٌ وضروري، لما فيه من إسهام في إثراء النقاش، وفي رفع مستوى الوعي عند كثير من جمهور الفضاء الافتراضي ممَّن لا يمتلكون الأدوات المعرفية الكافية للتحليل. لكن، ما يجري، في أحيانٍ كثيرة، أنّ الدوافع الشخصية تطغى على النقاش المعرفي، فيتحوَّل إلى سجال قاسٍ مع اتهامات واتهامات مضادّة، يصل بعضها إلى حدِّ التخوين، وبعضها الآخر حدِّ الجهل والغباء والاستعلاء. مناسبة هذا الكلام ما دار أخيراً في وسائل التواصل من نقاش عن كتاب سامر بكّور “التغريبة السورية: الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011 ـ 2020” (“المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، الدوحة، 2024)، في جزءين، الأول “المناطق الجنوبية والوسطى والساحلية من سورية”، والثاني “المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الشمالية الغربية من سورية”. اعتبر بعضهم أنّ في مصطلح “الحرب الأهلية”، الوارد في عنوان الكتاب، خيانةً للثورة، وترسيخاً لسردية النظام السوري حيال ما جرى خلال السنوات العشر (2011 ـ 2020)، فالأمر، في رأيهم، ليس حرباً أهلية، بل هو إجرامٌ واضحٌ للنظام في حقّ الشعب السوري الثائر، وأنّه كان على المؤلف استخدام مصطلح “الثورة” بدلاً من مصطلح “الحرب الأهلية”.
ثمّة اتجاه ينطلق في توصيف الحرب داخل الدولة من منطلق العدالة، وهو لا يستبعد المعيار الأخلاقي في التوصيف
كتب بعضهم بلغةٍ أقرب إلى الوجدان السياسي أو إلى الرغبة الدفينة المدفوعة بألم الثورة الفاشلة، فجاءت بعض التعليقات انعكاساً لرغبة سيكولوجية معطاة وراسخة على حساب التوصيف المعرفي والعلمي للمصطلحات، وجرت أيضاً محاولة تعميم مصطلح الثورة على ما جرى كلّه في سورية خلال عقد، مع ما في ذلك من ضرورة في مستوى الوجدان والخطاب السياسي، ومن مخاطرة كبرى في المستوى المعرفي، الذي يتطلّب توصيفاً دقيقاً وصارماً للمصطلحات.
من نافلة الفعل الطبيعي وجود النقد، فدونه لا يحدث التطوّر، ولكن الأمر عندما يتعلّق بالمفاهيم والمصطلحات يجب، بالضرورة، أن يكون النقد علمياً، وإلا أخرج الموضوع من سياقه البحثي العلمي إلى السياق الأيديولوجي. سمات الأول المعرفة، وسمات الثاني الدوغما. مع ذلك، ثمّة صوابٌ في الطرح الرافض استخدام مصطلح “الحرب الأهلية” في الحالة السورية، والمطالب باستخدام لفظ “الثورة”.
اختلفت المعاجم الفلسفية والاجتماعية، كما اختلف الباحثون في تعريف الثورة، فمنهم من اعتبرها تغييراً سياسياً جذرياً في نظام الحكم، والنظامين الاجتماعي والقانوني المصاحبين له بصورة فجائية، ومنهم من اكتفى بحدوث تغيّرات في نظام الحكم. لا مكان هنا لعرضٍ تفصيلي لمختلف المواقف الفلسفية والسياسية لمفهوم الثورة، ولكنّها تتَّفق على ضرورة حدوث تحوّل، إمّا في نظام الحكم حدّاً أدنى، أو في مجمل المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية حدّاً أعلى. تتحدّد هذه التعاريف في النتائج النهائية للفعل الاحتجاجي، ما يُؤدّي إلى تجاهل أسباب هذا الفعل، والسياق التاريخي للعملية الاحتجاجية، بالتركيز فقط على النتائج. وقد تختزل مثل هذه المقاربة الفعل الاحتجاجي الشعبي الثوري الواسع في مُجرَّد هبّةٍ أو انتفاضةٍ أو تمرّدٍ، لاغيةً بذلك أهداف المُحتجّين واتحادهم في إسقاط نظام الحكم القائم، وهو هدفٌ يختلف عن أهداف الهبَّات والانتفاضات والتمرُّدات التي تكون عادةً مرتبطةً بمطالب جزئيةٍ محدَّدةٍ. وبالتالي، أيّ محاولة لتحديد تعريف الثورة بالنهايات، ستطلق بالضرورة حكماً سلبياً بأثر رجعي على البدايات الاحتجاجية التي حقَّقت معاييرَ الاحتجاج الثوري، بحيث تُوصف بانتفاضةٍ أو بهبَّةٍ وليس بثورةٍ، وهو توصيف يحمل شحنةً سلبيةً في الوعي الجمعي، لأنّ الانتفاضات والهبَّات تعني أنّ الجمهورَ المُحتجَّ راضٍ بالنظام السياسي القائم، لكن لديه بعض المطالب، وهذا يتنافى مع الحراك الجماهيري الواسع في سورية.
يعرّف عزمي بشارة الثورة باعتبارها تغييراً كاملاً للنظام، وإقامة نظام جديد مبني على أسس جديدة، ليس قائماً في الواقع بهذا الشكل، لأنّ الثورة تهدف إلى تغيير جذري، وترفع هذا الشعار، إلّا أنّها قد تنتهي إلى عملية إصلاح تراها جديدةً تمامَ الجِدَّة. يشير مفهوم الثورة عند بشارة إلى نشوء واقع موضوعي جديد من خلال تحرّك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، يتمثّل هدفُه في تغيير نظام الحكم، ولهذا يعتبر أنّ الثورة ضدّ الاستبداد هي اكتساح الناس للمجال العام، وهذا يحدُث عندما يصبح هناك وعي جمعي لدى الجماهير بالواقع الظالم المراد تغييره. إخفاق الثورات في إحداث التغيير الكبير يرجع إلى عوامل عدّة: طبيعة النظام الحاكم، والمؤسّسة العسكرية، وبنية المجتمع، والتأثيرات الإقليمية والدولية، وسلوك الثورة والمُعارَضة.
الوصول إلى تعريف للثورة عملية منهجية ضرورية في تحليل الظواهر الاجتماعية السياسية، لكن وضع تعريف مانع جامع يجعل المتغيّرات الإمبريقية أسيرةَ التعريف المفهومي المسبق في الوعي، وتصبح أيُّ محاولة لفهم الظواهر الاجتماعية وتفسيرها مؤطّرةً بالتعريف المُحدَّد مسبقاً. ومن مفارقات التواريخ الثورية أنّ تأثير الثورة في سورية كان أكبر من تأثيرها في تونس ومصر، على الرغم من أنّ الثورتين التونسية والمصرية نجحتا في إسقاط رأسَي النظام، فيما عجزت عنه الثورة السورية، فعُمق الاضطراب الذي أحدثته الثورة السورية في بنية النظام كان أكبر من الذي أحدثته الثورة المصرية. ومن هنا، ستكون الآثار البعيدة للثورة السورية أكثر عمقاً ممّا هي في مصر التي حافظت على بنية النظام، وسمحت بعملية ارتداد عن الديمقراطية.
إطلاق ” الحرب الأهلية” على الحالة السورية يكتفي بالوصف الظاهري للفاعلين، ولا يخترق مكامن الفعل وخلفياته ومسبّباته ودوافعه
بناءً على ما تقدّم، لا يمكن فهم التجارب الثورية إلّا ضمن كينونتها التاريخية الخاصّة بها، واستبعاد أيّ نماذج تاريخية سابقة، باعتبارها مثالاً يجب الاقتداء به، فهذا فعل يفقد القدرة على فهم الثورات في السياقات التاريخية. ومصطلح “الحرب الأهلية” أكثر وضوحاً ودقَّة من مصطلح الثورة، فإذا كان مصطلح الثورة تعبيراً عن محاولة توصيف فلسفي ـ سياسي للواقع القائم، فإنّ مصطلح الحرب الأهلية توصيف للواقع من الناحية القانونية، لا الفلسفية. في القوانين الدولية، يُعبّر مصطلح الحرب الأهلية عن وضع إمبريقي واضح المعالم، بخلاف الثورة التي تدخل في تعريفها المصالح والرغبات إلى جانب التوصيف الواقعي. الحرب هي ظاهرة العنف الجماعي المُنظَّم التي تُؤثّر في علاقات القوّة داخل مجتمع واحد أو أكثر، وتخضع لقانون النزاع المسلّح وفق القانون الدولي. وبهذا، تندرج الاحتجاجات والانتفاضات والثورات والحروب ضمن دائرة العنف. لكن مصطلح العنف فضفاض، لذلك جرى التمييز في مستوى العنف قبل توصيف الوضع القائم، ووفق عتبة معيّنةٍ من العنف يمكن إطلاق تسميات اضطرابات داخلية، توتّرات، انتفاضات.
وفق الفقرة الرابعة من البروتوكول الثاني لاتفاقية جنيف الرابعة، وصف القانون الدولي نضال الشعوب ضدّ التسلّط الاستعماري، وضدّ الاحتلال الأجنبي، وضدّ الأنظمة العنصرية، بأنّه نزاع مسلح. وفي المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع، ضمّت حالاتُ النزاعات المسلّحة غير الدولية، وهي الحروب الأهلية التقليدية، والنزاعاتُ المسلّحة الداخلية التي تتسرّب إلى دول أخرى، أو النزاعاتُ الداخلية التي تتدخّل فيها دول ثالثة، أو قوّات متعدّدة الجنسيات إلى جانب الحكومة. وعرّف قاموس أكسفورد الحرب الأهلية بأنّها حرب بين مجموعات من الناس في البلد نفسه، وعرَّفت الموسوعة البريطانية الحرب الأهلية بأنّها نزاع عنيف بين دولة وطرف أو أكثر، غير حكومي، داخل أراضي الدولة، تشمل قمع الدولة الأفراد الذين لا يمكن اعتبارهم مجموعةً منظمةً أو متماسكةً، بما في ذلك الإبادة الجماعية، وأشكال الصراع المختلفة. وفي تفصيل أكثر قدَّمته دراسات متخصّصة، يشير المصطلح إلى النزاع الذي ينشأ بين أكثر من طرف داخل حدود أراضي الدولة نفسها، حيث تختلف أشكال هذه الحرب تبعاً لدوافعها، فهناك من يسعى فيها للحصول على الاستقلال والحكم الذاتي، وهناك من يضع هدف القبض على السلطة وإبعاد نظام الحكم القائم. وفي تعريفاتٍ أخرى، هي صدام عسكري مستمرّ، داخلي، تتواجه فيه قوات الحكومة المركزية مع قوّة متمرّدة قادرة على إيقاع خسائر في صفوف القوات الحكومية. في المستوى النظري يظهر التمايز بين مفهومي الثورة والحرب الأهلية بشكل واضح، ما إن ننتقل إلى الواقع ومحاولة توصيفه نجد أنفسنا في متاهة كبيرة، فإمّا جعل الواقع أسيراً للفكر، وإمّا جعل الفكر أسيراً للواقع، مع ما في الحالتين كلتيهما من مخاطرَ في صعيد التعريفات.
عدم استخدام الباحث سامر بكّور مصطلح الثورة في عنوان الكتاب ناجمٌ عن إشكالية فلسفية وعلمية في مفهوم أو مصطلح الثورة، إذ لا يوجد تعريف مانع جامع له أولاً، ولأنّه أراد توثيق ما جرى خلال 16 سنة، فقد وجد في مصطلح الحرب الأهلية توصيفاً أكثر دقَّة، فضلاً عن قانونيته وفق الأمم المتّحدة. لكن ما لم ينتبه إليه بكّور أنّ التوصيفات القانونية خاصّة بالأمم المتّحدة والدول والمنظّمات، من حيث إنّها تتعامل مع وقائع في الأرض، وليست مهمتها إضفاء تحليل سياسي أو معرفي، أو إطلاق توصيفات أخلاقية وفلسفية على الواقع، إنّها باختصار تتعامل مع الواقع كما هو. وفي الحالة السورية يكاد يكون صعباً للغاية اختزال الواقع في الحرب الأهلية، على الرغم من صحّته من الناحية القانونية، ذلك أنّ إطلاق هذا المصطلح على الحالة السورية يكتفي بالوصف الظاهري للفاعلين، من دون أن يخترق مكامن الفعل وخلفياته ومسبّباته ودوافعه الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وهو إذ يفعل ذلك، يضع الثوار والنظام السوري في كفَّةٍ واحدةٍ، ويتجاهل المطالبَ المُحقَّة للثورة، وهنا يغيب سؤال العدالة في توصيف الوضع القائم.
رفض دعاة النزعة السلمية منح أيّ حرب مهما كان نوعها صفةً أخلاقية، لأنّ الحرب نقيض السلم بما تمثّله من شرّ، ومع هذا الطرح تلتقي المدرسة الواقعية، لكن لأسباب مختلفة، فهي تنطلق من الواقع وخصائصه العملية، ومن سمات الحرب القائمة إبعاد أيّ توصيف أخلاقي. بخلاف الرأيين السابقَين، ثمّة اتجاه ينطلق في توصيف الحرب داخل الدولة من منطلق العدالة، وهو بهذا المعنى لا يستطيع إبعاد المعيار الأخلاقي في التوصيف. والحقيقة أنّ المعايير الثلاثة تنطبق على الحالة السورية، وإن بدرجات مختلفة، بين النظام والمعارضة المسلّحة، ففي البعد الأخلاقي لا يمكن تجاهل عدالة الثورة، ومن منظور النزعة السلمية والنزعة الواقعية، يجب فضل الأخلاق عما جرى، بغضّ النظر عن الجهة المسؤولة، فالحرب بالنتيجة هي بين طرفًين، كلاهما حمل السلاح.
جانب سامر بكّور الصواب، من ناحية التعريفات القانونية الدولية، حين وصف السنوات بين عامي 2013 و2020 في سورية بالحرب الأهلية
أخذ منتقدون على بكّور استخدامه مصطلح يخصّ الباحثين الغربيين، وكأنّ في العالم الأكاديمي شيئاً يخصّني وآخر يخصّك، فلكلّ واحدٍ الحقُّ في إطلاق التوصيفات حسب ما يرى، وإن اختلط الحابل بالنابل. وفي ردّه على المنتقدين، علّل بكّور استخدامه مصطلح الحرب الأهلية بأنّ “مفهوم الحرب يحمل في طيّاته الدمار والخراب والتهجير والشتات، وهو ما حدث في سورية، أمّا مفهوم الثورة، فإنّما يدلّ على البناء والعمران والاستقرار والازدهار، من حيث إنّ غايتها الحرّية والكرامة والمستقبل”. نحن هنا أمام تعليل وجداني لا علمي، فإذا كان السبب في اختيار المصطلحات نابعاً من الشحنات التي يحملها المصطلح في جنباته، فالأولى استخدام لفظ ثورة، لأنّها تعبّر عن عدالة المطالب الشعبية. أما إذا كان منطلق التوصيف قانونياً، فلا يكفي اعتماد التصنيف الشكلي الخارجي، فهذه مهمّة المؤسّسات الدولية المعنية بوقف الحرب. وفي الحالة المعرفية والأكاديمية، يجب تجاوز الشكل إلى المضمون عبر الكشف وتحليل كينونة الظاهرة وتوصيفها، فيجب الأخذ بالاعتبار أنّ الحرب في سورية ردَّة فعل على الثورة، أولاً حين عمد النظام إلى عسكرة الثورة، وثانياً حين استخدام أقسى أنواع العنف، وثالثاً حين اعتقل وعذّب، ورابعاً حين هجّر تهجيراً قسرياً.
جانب بكّور الصواب، من ناحية التعريفات القانونية الدولية، حين وصف السنوات بين عامي 2013 و2020 في سورية بالحرب الأهلية، ولكنّه تجاهل الإشكال الفلسفي والمعياري لهذا المصطلح، وما يترتّب عليه من تعمية للشروط والعوامل الخلفية للحدث.
وإذا كانت عملية تفسير الظواهر السياسية والعسكرية والاجتماعية تتطلّب البحث عن المتغيّر السببي الرئيس، فإنّ البحث في المفاهيم يتطلّب البحث عن الكلّي في خلفيات. في الحالة السورية، وبسبب الظلم والقهر الكبيرين اللذين تعرَّض له المُعارضون للنظام وأهاليهم، كان من الأفضل دمج المعايير القانونية والسياسية والأخلاقية معاً في التعريفات والتوصيفات.
عذراً التعليقات مغلقة