حسب الأخبار الواردة يوم الأحد، صار في وسع بشار الأسد إعداد خطابه أمام القمة العربية المقبلة التي ستستضيفها الرياض في التاسع عشر من الشهر المقبل. حسب الأخبار أيضاً، سيزور دمشق وزير الخارجية السعودي قريباً لتسليم الأسد رسمياً الدعوة إلى حضور القمة، وكان فيصل مقداد وزير خارجية الأسد قد زار القاهرة يوم السبت، في إشارة أخرى على مدّ التطبيع العربي مع الأسد، أو في ما قد يكون إشارة إلى انخراط مصري في الوساطة بين الأسد والرياض.
تأخرت دعوة الأسد إلى محفل القادة العرب، إذ لم تكن دعوته مستبعدةً إلى مؤتمر قمة الجزائر في بداية شهر نوفمبر 2022، وحينها انقسم القادة العرب بين متحمس وبين من يطلب التمهّل ليس إلا، ولم تُسجَّل معارضة معلنة سوى القطرية. في المحصلة يبدو ذلك من حسن حظ الأسد، فدعوته من قبل الجزائر ليس فيها من الرمزية ما تحمله دعوة الرياض، ولو كانت قد حدثت فهي لن تدشّن الدفء في العلاقات بينه وبين الدول التي حسمت أمرها أخيراً، وأهمها السعودية.
إذاً، سيكون الأسد مدعواً من البلد الذي كان قبل عشر سنوات من أهم داعمي الثورة عليه، وذلك من ضمن الصراع الشيعي-السنّي في المنطقة، مع عدم استبعاد الجذور الثنائية للقطيعة على خلفية دور الأسد “قبل الثورة” في لبنان والعراق لصالح النفوذ الإيراني. يُذكر أن وزير خارجية السعودية الأسبق عادل الجبير استمر تقريباً حتى نهاية عهده في التأكيد على أن الأسد سيرحل عسكرياً أو سياسياً، رغم حدوث التدخل العسكري الروسي بعد شهور قليلة من استلامه المنصب، بما عناه ذلك التدخل من طي صفحة إسقاط الأسد عسكرياً.
بناءً على المواقف السابقة للبلد المضيف، يدخل الأسد الرياض منتصراً، فهو لم يتغير على الإطلاق، والذي تغيّر هو موقف أعداء الأمس منه. وإذا كانت دعوته ثمرة المطالب الروسية القديمة من الرياض تحديداً، أو ثمرة إنهاء القطيعة بين الأخيرة وطهران، فهذا لا يبدّل أو يقلل من انتصاره بجهود حلفائه، فهو بقي في منصبه بجهودهم كما أعلن مسؤولون روس وإيرانيون في العديد من المناسبات، وذلك لم يؤثّر في خطابه تجاه خصومه السوريين أو الإقليميين. بمعنى أن الأسد لا يرى نفسه ضعيفاً بموجب الظروف وموازين القوى التي أبقت عليه، ومن المرجح أن يرى نفسه يستهل مرحلة جديدة من النصر وهو يعود إلى مكانه بين القادة العرب، وكأنه ليس صاحب أفظع إبادة وتهجير في هذا القرن.
نجزم، بحكم معرفة مبنية على تجارب مسبقة، أن الأسد بحضوره القمة العربية سيلقي خطاباً يُفهم على أنه خطاب نصر على أولئك الذين قبلوا التطبيع معه. وسيكون خطاباً يعوّض به خطابات اثني عشر عاماً لم يحضر فيها مؤتمرات القمة، ومهما تحاشى الإشارات المباشرة إلى مجريات تلك السنوات فستكون حاضرة. من المستبعد مثلاً ألا يتحدث الأسد عن “المؤامرة الكونية” التي تعرّض لها حكمه، وصموده في وجهها ثم انتصاره، ومن الصعب “ولو على نحو غير مباشر” فهمُ أنه يستثني العرب من المشاركة في المؤامرة المزعومة، أما الفهم الأقرب إلى المقصود فهو أنه انتصر عليهم بوصفهم جزءاً من المؤامرة.
مع اعتباره هؤلاء جزءاً من التآمر عليه، قد يحضر استعلاؤه بإشارة ما إلى أسياد المؤامرة الكونية، وهو لا يقبل بأن يكون السادة أقل من مستوى الدول العظمى، وأن يكون الباقون تابعين أو مغرَّراً بهم. هو سيعيد سرد الرواية التي دأب على تكرارها منذ اندلاع الثورة، وإذا كان قد شتم العرب مراراً فهو في العديد من المناسبات أسقط عنهم استحقاقهم العروبة، أي أنه في أحسن الأحوال يرى عودته إلى الجامعة العربية تصحيحاً لخطأ ارتكبه مَن هم أقل أحقية بالتواجد فيها. ليس الأمر أن الأسد ذاهب إلى القمة بنيّة إهانة نظرائه، لكن بطبيعته لا خيار أمامه سوى الإصرار على سرديته المعروفة، وقد يظهر ما سبق مكبَّراً وفاقعاً “كما كان في قمم سابقة” في حال الارتجال والخروج عن النص.
المفاوضات الحقيقية ستكون في الكواليس، وهناك ستكون لهجة الجميع غير محكومة بدواعي البروتوكول، خاصة إذا كان النقاش سيتطرق إلى تمويل إعادة الإعمار وفق ما ينقله موقع الميادين عن صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية. وهي مفاوضات لن تتجاوز في أقصى الأحوال تمويل مشروعات توافق عليها واشنطن تحت عنوان الإنعاش المبكر، والرياض ليس لديها أوراق ضغط أو مقايضة في سوريا، باستثناء استضافتها هيئة التفاوض بموجب تفاهمات فيينا، ولن يكون ذا تأثير يُذكر رميُها ورقة الهيئة، أو العودة “بسبب التفاهم مع الأسد” لمزاحمة أنقرة عليها.
لا بأس بالتذكير بأن التحرك العربي برمّته غير مطروح كواجهة لتحرك دولي تجاه الأسد، وفي أحسن أحواله بالنسبة للأخير قد يكون بمثابة اختبار لنواياه وطريقة تعاطيه مع التطبيع العربي. يُستحسن على هذا الصعيد قراءة تحرك الرياض كمحاولة لإحياء النظام العربي الذي كان لها فيه دور القيادة، ولا يمكن إحياؤه من دون رأب الانقسام المتعلق بالموقف من الأسد ومن حلف الممانعة الإيراني عموماً. أي أن الرياض تنظر إلى التطبيع معه من ضمن مقاربة أوسع، تريد فيها الحصول على مكاسب أو حل أزمات في بؤر أخرى غير سوريا.
لقد تأذى النظام الرسمي العربي كثيراً منذ انطلقت الثورات في أواخر عام 2010، ومن المؤكد أن معظم القادة العرب يريدون الانتهاء من ذيول الربيع العربي، والتعايشُ مع الأسد بكل ما يرمز إليه لا يؤرّقهم، ولن تؤرّقهم بينما يستعدون لمصافحته أو عناقه أن قاضية فرنسية ستصدر حكماً غير قابل للاستئناف على اثنين من كبار قادة مخابرات الأسد. أما النصف الآخر من التطبيع فهو مع سوريا كما هي عليه الآن، سوريا المقسَّمة إلى ثلاث مناطق رئيسية يسيطر الأسد على واحدة منها بحماية روسية-إيرانية. ومثلما يستطيع المتابع التنبؤ بخطاب الأسد يستطيع توقع ما سيسفر عنه بيان القمة تجاه هذا الوضع، إذ سيؤكد القادة بعمومية على وحدة وسيادة سوريا، وعلى تنفيذ قرارات الأمم المتحدة من دون تدخل خارجي، وللجولان والمطالبة بانسحاب إسرائيل منها حصة قديمة من الإنشاء المعتاد.
يكسب الأسد من القمة على قدر المساعدات الموعودة، بينما لا تخسر المعارضة شيئاً في السياسة لأن المطبّعين معه لا فعالية لهم في الملف السوري. الأهم أن عيون السوريين ستكون على نتائج الانتخابات التركية التي تسبق القمة بخمسة أيام، فمن أنقرة قد يصحّ الحديث عن تحول ذي وزن وتأثير على الأراضي السورية.
عذراً التعليقات مغلقة