كثّفت المؤسسات اللبنانية، في الأشهر القليلة الماضية، إجراءاتها الإكراهية الرامية إلى طرد اللاجئين السوريين من البلاد، ومنهم 986,942 لاجئاً مسجّلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وقد شنّت هذه المؤسسات حملة ضد عمالة السوريين، وباشرت بعمليات بطرد جماعية للبعض منهم، واتّخذت إجراءات لترحيلهم قسراً. واعتدت مجموعات محلية على اللاجئين، فيما حوكِم عناصر سابقون في تنظيم أحرار الشام المعارِض لقتالهم ضد الجيش السوري. تنطلق هذه الخطوات من فرضية أن الوضع في سورية بات مستقراً وآمناً لعودة اللاجئين، لكنها فرضية خاطئة تماماً.
إن المُناوئ الأبرز للاجئين هو وزير الخارجية جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر. فباسيل لم يتوانَ عن تحميل اللاجئين مسؤولية جميع المشكلات والمشقات الاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان، بدءاً من معدل النمو البالغ صفر في المئة ووصولاً إلى البطالة المُستشرية. وقد أضفى بذلك طابعاً ملحّاً على فكرة العودة عبر إظهارها كوسيلة لحلّ المشكلات المستفحلة في لبنان. وقد وصل الأمر بباسيل إلى حد اتهام المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية بالتآمر لإبقاء اللاجئين في لبنان، على الرغم من توافر الظروف المؤاتية لعودتهم إلى سورية، التي أصبحت على حدّ زعمه “مستقرّة وآمنة”. لكنه يتجاهل في الواقع التقارير التي تشير إلى تعرُّض العائدين لسوء معاملة في سورية ولممارسات أسوأ بعد، بدءاً من التجنيد الإجباري ومروراً بالسجن ووصولاً إلى الموت.
يستغلّ باسيل الطامح بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، مسألة اللاجئين ليصوّر نفسه على أنه المدافع عن حقوق المسيحيين ضد الوضع الذي قد يتأتى عن توطين السوريين بصورة دائمة في لبنان، ما سيعني على الأرجح تحوّل السنّة إلى أكثرية. وفيما قاد باسيل الحملة، أبدى سياسيون لبنانيون وأطراف أخرى خشيتهم أيضاً من تأثير اللاجئين على التوازن المذهبي في البلاد، وأطلقوا صراحةً أو ضمناً مزاعم تُحاكي مزاعمه. ففي العام الفائت مثلاً، أعلن حزب الله أنه سيعمل مع الحكومة السورية على تحفيز عودة اللاجئين إلى ديارهم.
أسفرت هذه السلوكيات عن موجات جديدة من العنصرية ضد اللاجئين، وسيكون من الصعب كبحها إن لم تُجابَه قريباً. وتتمثل أخطر تداعياتها في مختلف أشكال العقاب الجماعي بحقّ السوريين، مثل حادثة 13 تشرين الأول/أكتوبر 2017، حين اعتدى أبناء بلدة مزيارة في شمال لبنان على اللاجئين عَقِب مقتل شابّة على يد سوري غير لاجئ. وقد اضطُرّ جميع اللاجئين إلى مغادرة البلدة، على الرغم من أن مُرتكب الجريمة هو شخصٌ واحد من التابعية السورية.
وقبل أسابيع قليلة، شهدت بلدة دير الأحمر في البقاع الشمالي أيضاً عمليات طرد جماعية من مخيم للاجئين. فقد وقع اشتباك بين اللاجئين وعناصر الدفاع المدني بعد أن قام شبّان محليون بحرق ثلاث خيم للاجئين، أصدر على إثره المسؤولون المحليون أمراً بإخلاء المخيّم، فأُرغم حوالى 400 سوري على الانتقال إلى مكان آخر.
وفي الأول من تموز/يوليو الجاري، أقدم الجيش اللبناني على هدم 20 خيمة إسمنتية في عرسال. وفي حادثة أخرى في حزيران/يونيو الماضي، أُرغِم 55000 لاجئ على تفكيك خيمهم في عرسال. فأصبحت 5000 عائلة ونحو 15000 طفل من دون مأوى، وفقاً لمنظمة “أنقذوا الأطفال” (Save the Children).
وتكتسي عمليات الطرد أيضاً طابعاً دينياً ووطنياً. فمع غياب سياسة مركزية للتعامل مع قضية اللاجئين وفي ظل خطاب عام يزداد حدّة باطّراد، تُبادر البلديات التي كانت سبّاقة على صعيد الاهتمام باللاجئين إلى التحرك واتخاذ خطوات في هذا الصدد. فاعتباراً من العام 2016، طردت ثلاث عشرة بلدية أكثر من 3600 سوري، في حين أن 42000 لاجئ معرّضون لخطر الطرد.
أصبح الوضع مُقلقاً أكثر منذ التحوّل الذي شهدته بيروت بعد انتخابات العام 2018، عندما فازت أكثرية متعاطفة مع بشار الأسد بمقاعد برلمانية للمرة الأولى منذ العام 2005. وتستخدم هذه الأكثرية ملف العودة من أجل تطبيع العلاقات مع النظام السوري، مع أن هذه المسألة لاتحظى بإجماع جميع الأفرقاء في لبنان. واقع الحال ان تصوير اللاجئين بأنهم يشكّلون تهديداً للأمن القومي قد يسهم في زيادة الدعم لتطبيع العلاقات مع دمشق في أوساط الرأي العام اللبناني.
لكنْ ثمة أيضاً تباين في المصالح بين النظام السوري وحلفائه اللبنانيين. فمع أن الحلفاء حريصون على تطبيع العلاقات مع دمشق، إلا أنهم لايريدون أن يعطّل النظام عودة اللاجئين إلى مالانهاية، مستخدِماً هذه الورقة كوسيلة لمواصلة الضغط على لبنان والمجتمع الدولي. ففي نظر حزب الله وشركائه، لايستطيع الحزب أن يقبل وجود طبقة دنيا كبيرة من اللاجئين ذوي الغالبية السنّية، إلى أجل غير محدّد، ولاسيما أن العديد منهم مستاؤون من تدخّله في النزاع السوري.
قد تحمل العودة إلى سورية مخاطر تُهدّد حياة عدد كبير من اللاجئين، ناهيك عن أن خطر تعرّضهم للتوقيف الاعتباطي مرتفع. ففي كانون الأول/ديسمبر الماضي، أصدرت وزارة الخارجية الألمانية تقريراً سلّط الضوء، عن حق، على أنه ما من مكان آمن تماماً في سورية، مُظهراً أن على الذكور العائدين الذين تتراوح أعمارهم من 18 إلى 42 عاماً إما الالتحاق بالجيش، أو مواجهة احتمال السجن بتهمة “التخلّي عن بلادهم”.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، أكّد معين المرعبي، وزير الدولة لشؤون النازحين سابقاً، مقتل أكثر من 20 لاجئاً بعد عودتهم إلى سورية، في حين التحق آخرون بالجيش أو تعرّضوا للخطف. وعلى الرغم من هذه المخاطر، لايزال الترحيل من لبنان تهديداً مستمراً. ففي نيسان/أبريل الماضي، قامت السلطات اللبنانية بترحيل ما لايقل عن ستّة عشر سورياً عبر مطار بيروت. ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش، أُرغِموا على توقيع استمارات “عودة طوعية إلى الوطن”، مع أنهم كانوا مذعورين من التعرّض للاضطهاد في سورية.
مع أن لبنان ليس من الدول الموقِّعة على اتفاقية العام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين أو بروتوكول العام 1967 المُلحَق بها، يبقى مُلزماً باحترام مبدأ عدم الإعادة القسرية، أي عدم إرغام اللاجئين على العودة إلى بلدٍ قد يتعرضون فيه للاضطهاد. باستطاعة المجتمع الدولي، ولاسيما الاتحاد الأوروبي، ممارسة ضغوط اقتصادية على لبنان لمعالجة هذه المسألة، وربما إقناع الحكومة اللبنانية بوجوب احترام حقوق اللاجئين السوريين، قبل أن تتفاقم أجواء الكراهية الراهنة إلى حدٍّ لاتُحمد عقباه، مايُهدّد مستقبل العلاقات بين الدولتين المتجاورين.
منذ زمن غير بعيد، شهد لبنان حرباً مدمّرة في عقر داره وواجه أبناؤه صدمة النزوح والتهجير. لذا، حُريٌّ بالكثير من اللبنانيين أن يتذكّروا فصول ماضيهم، فيما يعمدون على جعل حياة اللاجئين السوريين المحرومين أكثر بؤساً مما هي عليه، ويزرعون في الوقت نفسه بذور نزاعات مُقبلة.
عذراً التعليقات مغلقة