اسمي أحمد.. وبعد قليل سأخرج من الغوطة

عامر السيد عمر29 مارس 2018آخر تحديث :
عامر السيد عمر

“اسمي أحمد.. وبعد قليل سأخرج من الغوطة.. لا أدري بالتحديد إلى أين سأذهب.. لكنني حتماً سأخرج”.. كان أبي يقول دائماً عني “تنبل”.. وأنني عالة عليه يحتار ماذا سوف يفعل بها.. تخرجت من الثانوية بمعدل قليل.. ولم أكمل الجامعة.. ولم أعمل معه.. ودون جامعة أو معهد.. ودون عمل أو صنعة أتقنها.. قررت الاعتزال والاعتكاف على القراءة.. النديمة التي لا تمل منها ولا تطردك عنها.. في الطابق الثالث من بيتنا.. غرفة صغيرة مع حمام.. اتخذت منها وكراً للأيام القادمة.

يستيقظ أبي قبل ديك الحيّ.. يتحمم بماء بارد ويخرج.. يعمل في التراب والدواب.. علاقته مع الأرض أوطد من علاقته مع نفسه.. وعلاقته مع دوابه أوطد من علاقته مع أبنائه.. إذا أمطرت يقول: “أنا طالع أتطمن على الدواب”.. وإذا برد الطقس خرج لتدفئتهم.. وإذا اشتد الحرّ يخرج كذلك للاطمئنان عليهم. لم أجد أبي يوماً يحبنا أو يرعانا كما يحبهم.. هكذا أحسست دوماً.. ولا أدري إن كانت حقيقة أم مجرد إحساس.

على عكس أبي.. لم يكن لدي انتماء لشيء.. ولم تكن لي علاقات لا مع إنسان ولا حيوان.. كانت علاقتي وثيقة بثلاث فقط: الكتاب والشاي والدخان.. أدخن وأشرب الشاي وأقرأ.. منذ طلوع شمسي حتى مغيبها – وقلت شمسي لأني أظنها تختلف تماماً عن شمسكم.. فأنا أنام مع طلوع الشمس غالباً.. وأستيقظ عندما أستيقظ.. أنا كائن ليلي بامتياز.. أستطيع تسمية النجوم وموعد سقوط القمر.. وأعرف سكارى الحي جميعاً.. أراقبهم كل ليلة عندما يعودون مترنحين.. في الليل أجد الكلمات تنسل من الكتاب إليّ.. والشاي في الليل أظنه يختلف عن شاي النهار.. ألم يُطبخ على العتمة؟ تلك العتمة تضفي للشاي طعماً آخر.. ولمعة رأس السيجارة في الليل كبركان أمعن النظر طويلاً في ثورانه.. ألم أقل لكم أن الليل أجمل؟

ولأني كائن ليليّ.. جعلني ذلك معزولاً تماماً عن العالم الخارجي.. لا أحد يعلم عنّي شيء.. نسيت الحارة أن شخصاً يدعى “أحمد الحاج” يسكن في هذا المنزل.. ولم يعد أحد يسأل أبي عني.. لا أعلم شيئاً عن العالم الخارجي إلا قليلاً.

في منتصف مارس/ آذار 2011.. خرج الشعب في ثورة.. تلك الكلمة التي لم أسمع بها سوى في الكتب.. ولأول مرة في حياتي.. أشعر بالانتماء لشيء.. لم أنتم لا للمدرسة ولا للأرض ولا للبلدة التي كُنت أعيش فيها.. استيقظت على أصوات المتظاهرين.. حتى طبال الحي كان وسط المظاهرة.. وأنا أنفض عني غطائي وغبار السنين الذي لحق بي.. كنت أحاول استيعاب المشهد.. ثورة في حيّنا؟ و تحت شباكي؟ كيف أبقى في عزلتي.. كيف؟

لبست قميص الكاروهات.. لم يكن عندي قميص غيره.. كان عندي لباس موحد لا أذكر أنّي غيّرته.. الشورت والشبّاح الأبيض.. ولبست برجلي شبشب بلاستيك -ملمسه في البرد كأنه يقص الرجل.. وفي الحر يهرب من رجلك وبالكاد تستطيع المحافظة على قدمك بداخله-.. نزلت سريعاً.. منظر أمي وأنا أهرع من وكري سريعاً إلى خارج البيت لا أنساه في حياتي.. كما لو الجثة التي تعيش في الطابق الثالث عادت إلى الحياة.

وصلت إلى منتصف المظاهرة.. “الشعب يريد إسقاط النظام”.. لم أشعر بنشوة كتلك من قبل.. جسمي منتعش كما لو أنه يوم زفافي.. ترقص أطرافي فرحاً مع الطبل والهتاف.. يتحركان دون إحساس مني.. كما لو أن المظاهرة بعض من أجزاء الكون الكبيرة.. الذي حولي هم مجرة درب التبانة.. وأنا الأرض.. نتحرك كلنا معاً في تناسق إلهي عجيب.. كنت أشعر بكل كلمة وكل حرف وكل هتاف.. سيّال من مشاعر الفرح والخوف والرهبة والانتقام معاً. كل ذلك قطعه صوت رصاص الأمن الذي اقتحم الساحة فجأة.. وفتح النار.

في وكري على الطابق الثالث.. أدخن بعنف.. يدي ترتجف.. أحك رأسي 4 مرات في الثانية.. وأفكر في كل شيء.. هل سوف أعتقل؟ ما هو شعور أول عصا؟ هل سوف يحصل لي مثل ما قرأت في كتاب “القوقعة”؟ ترتجف يدي أكثر.. أشعل سيجارة أخرى.. قرأت عن واحد طلب منهم فقط أن يرى أبنائه.. فأخذوه ثم وضعوا يده بين باب الحديد وبين الحائط.. ثم بدأوا يغلقون عليها الباب مرات عديدة بقوة حتى انفصل اللحم عن العظم.. أرتجف أكثر.. وأبكي من دون قصد.. نظرت في السيجارة تماماً.. تذكرت أن أول وأبسط أشكال التعذيب هو الحرق بالسيجارة.. ومن غير سابق إنذار غرزت السيجارة في باطن كفي.. ثم صرخت!

الآن أصرخ أكثر.. مرّت نحو 7 سنوات على صرخة السيجارة تلك.. كل شيء تغيّر.. مات أبي.. نفقت دوابه كلها.. نزل السقف فوقها فقتلها عن بكرة أبيها.. الحمدلله أنه مات قبل أن يرى دوابه والسقف فوقها.. لم يهتف أبي مرة واحدة للثورة.. لم يكن مؤيداً لها.. ولم يكن في الوقت ذاته مؤيداً بشكل صريح لقمع النظام. لكنه كان يقول دائماً: “نحنا ما إلنا علاقة”.. ما علاقة الدواب إذن يا أبي؟ حرقت القذائف مزارعك.. حصدتها بالنار كما لو أن قنبلة ذرية وزعت بينها ثم تفجرت مرة واحدة.. والحمدلله أنك مت قبل أن ترى مزارعك على هذه الحال.. لو كنت على قيد الحياة لـ لعنت الثورة ألف مرة.. أسمعك من قبره تلعننا ألفي مرة على ما حدث، وتحملنا المسؤولية.

أحس أنني في فيلم أمريكي لم يكتمل بعد.. مشاهد الدمار حولي لا توصف.. ركام من مطبخ جارنا الذي صرف عليه تعبه في الخليج لسنوات.. أراه يتدلى من أعلى العمارة إلى أسلفها.. توزعت الخزائن بين الطوابق.. الزجاج والكاسات والأواني موزعة بين شجرة العنب اليابسة التي طارت فتوزعت بين الركام كزينة عيد.. لوحة عجيبة.. الحي تحوّل كأنه ساحة المعركة.. لكن لم يكن هناك معركة.. كان هناك قصف فقط.

لا أعلم عن أمي شيئاً منذ 20 يوماً تقريباً.. بدأ النظام حملة مجنونة للسيطرة على الغوطة الشرقية فتقسمت المناطق.. أعتذر سلفاً عن التداخل العجيب بين الأزمنة في كلامي.. لا أعرف كيف مرت 7 سنوات سريعاً.. تغيرت الثورة بعد الأشهر الأولى.. تزايدت الانشقاقات في صفوف الجيش وحمل الكثيرون السلاح.. كانت الثورة تياراً شعبياً قوياً لم يستطع النظام بكل ما أتي من قوته أن يسكتها.. وكانت مناطقنا من أولى المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام..

تشكلت المجالس والهيئات الشعبية.. وبدأت التشكيلات العسكرية بطبيعة الحال بالتمركز في المناطق.. كل تشكيل عسكري يحلف ألف يمين أن هذه المنطقة له.. وأن التشكيل العسكري التابع لـ”الحجي أبو أحمد” جاء ليشتري علب سردين وفول من هنا.. فأعجبهم المكان.. فحلفوا يمين أن يأخذوه.. تندلع شبه-حرب بين التشكيلين.. قتلى وجرحى من الطرفين.. ثم يجتمع الاثنان ويشربان القهوة.. ويصليان سويّة على قتلى الطرفين ويوقعان اتفاق تهدئة.. لك أن تعرف أن اتفاقات الهدنة تلك يوجد مثلها المئات.. بعضها أحتفظ بها في درجي.. درجي؟ أي درج؟

الحملة الأخيرة على الغوطة لم تترك حجراً على الحجر.. والقصف.. لحظة.. أعرف أنكم سمعتم كلمة “قصف” مئات بل ربما آلاف المرات.. لكن.. هل تعلمون حقاً ما معنى كلمة “القصف”؟

تخيّل أنك تجلس مع عائلتك على العشاء.. أولاد في الشارع يلعبون.. ابن الجيران يدق الباب يسأل إن كان لديكم “قالب الكعك”.. وأحد ما في الحمام يستحم.. وفجأة تسمعون في الخارج صوت انفجار.. يستطلع أحدكم فيقول: “مافي شي.. ولاد الحارة عم يلعبوا فتيش”.. تخيّل أن ذلك “الفتيش” هو صاروخ نزل بسرعة كبيرة من طائرة.. قبل أن ينفجر الصاروخ تحس بضغط هواء يكاد يفجر أذنك.. تلقائياً تخفض رأسك.. وفجأة ينفجر.. دمار حوله بمساحة 10 أمتار على الأقل.. من كان ضمن هذه المساحة تحوّل إلى قطع صغيرة لا تميز الرجل منها عن اليد.. تخيّل أن يحدث ذلك آلاف المرات يومياً.. أن ينزل الصاروخ تحت الشباك.. أو حتى داخل المنزل.. أم كانت تحمل الحليب إلى صغارها.. أحدهم خرج من القبو ليعد الطعام لأبنائه.. طفل خرج ليلعب.. ورجل عجوز لا يملك من الدنيا إلا بيته قرر أن يموت فوقه.. كلهم ماتوا.. كل ذلك يحدث.. كل يوم.. كل ساعة.. كل دقيقة تقريباً.

تحوّل وكري على الطابق الثالث من البيت إلى “المقرّ”.. أصبح مركزاً للعمل الثوري.. أحمد الذي يحدثكم الآن والذي كان معزولاً عن العالم أصبح جزءاً من خلية الثورة في المنطقة.. نشاط ثوري يومي لا يهدأ.. يافطات.. بخاخات للرش على الحيطان.. مكالمات مع القنوات.. كاميرات ولابتوبات وأجهزة بثّ فضائي.. كل ذلك في الوكر.. كان نقطة التقاء يومية.. كنا نسمي أنفسنا “تنسيقية”.. في كل منطقة هناك تنسيقية.. ثم أصبحت هناك بعض الانقسامات والتفرقات.. فأصبحت في كل حارة تنسيقية.. وكل تنسيقية تحارب الأخرى.. أو تتهمها بالردة أو الكفر أو العلمانية أو التبعية للفصائل العسكرية ومحاباتها على حساب فصائل أخرى.

لم أكن أفقه شيئاً في الإعلام أي شيء.. لما اكتشف أهل الحارة أن “أحمد الحاج” عاد إلى الحياة.. اكتشفوا أنه يملك كماً لا بأس به مما يُتحدث به.. شفعت لي كل تلك الكتب التي قرأتها أخيراً بعض الشيء.. طبعاً كان أبي معجباً بأن ابنه أصبح شيئاً ما في بين الأهل والجيران.. لكنه في الوقت ذاته كان لا يرغب أن يكون “أحمد الواوي” أحد شباب الثورة في الحارة.. “شو بدك بهالشغلة يا ابني.. بكرة ما بتروح إلا على الدراويش أمثالنا”.. حُفرت تلك الكلمات في رأسي من كثر ما رددها أبي.. كان يخاف السلطة أكثر من الله.. لكن في الحارة أناس غيره يخافون الله أكثر.. ولديهم من الشجاعة ما يفوق تصوّر أي بشر..

كيف يمكن لعقل أن يتحمل خروج الناس كل جمعة وهم يعلمون أنهم قد لا يعودون إلى بيوتهم؟ التظاهر كل جمعة أصبح عادة.. وقتل الجيش للمتظاهرين أصبح عادة.. الأكيد أن هنالك متظاهرين.. والأكيد أن هنالك قتلى.. لا محالة.. الرصاص سوف يخترق اليوم صدر أو رأس أحدهم.. سوف لن يعود إلى عائلته.. كيف يخرجون؟ كل كتبي لم تسعفني في فهم المعادلة تلك.. حتى استوقفت مرة وسط التظاهرة أحدهم وقد خلع عنه قميصه وكتب على صدره بالفحم “حرية”.. وسألته: “مانك خايف؟”.. “الخوف موجود.. بس إش عندي شي أخسروا؟”.. أجابني بسرعة ومضى.. لا زلت أحفظ وجهه وتفاصيله واندفاعه.

وعلى سيرة الأمل.. خرجت قبل قليل من القبو لأستطلع الأخبار.. فما زالت إشاعات المفاوضات تسري بين الأحياء مع الهواء.. كأنها حبوب طلع تطير مع الريح في كل اتجاه.. في الصباح هدأ القصف قليلاً فقالت الإشاعة: “اتفق الروس مع الفصائل على إجلاء الجميع مع السلاح الخفيف.. لكن الفصيل الشمالي رفض”. مع الظهر عاد القصف بشكل أعنف.. قال الناس: فشلت المفاوضات.. في الليل هدأ القصف.. قلنا: عادت المفاوضات!

وقد تقول أن الناس معلقة على أمل المفاوضات.. وأنا أقول.. لم يبق هناك أمل.. هناك محاولة للعيش لا أكثر. جلست قبل يومين على الفيسبوك أقرأ ما يكتب الناس عنّا في الخارج.. بدلاً من أن تحاول مساعدتنا تتمنى منّا الصمود لوقت أطول.. كوننا نخوض معركة ضد النظام العالمي.. علقت على أحدهم غاضباً: “بالله عليك تخرس”.. ثم مسحت التعليق سريعاً.. أغلقت الجهاز ونزلت إلى القبو. لحقني أحدهم وهو يركض ويلهث كانت العتمة تملأ المكان… صاح: “أحمد.. أحمد.. وينو أحمد؟”.. التفت إليه قلت: “أنا أحمد..” رد بسرعة: “تعال معي” وركض إلى أعلى. لما وصلنا إلى الطابق الأرضي تفاجأ بي..

– لك مين إنت؟ وين أخوي؟

– أنا أحمد.. إنت قلتلي الحقني.

– أنا فكرتك أحمد أخوي.. وين أحمد أخوي؟

– مين أخوك.. أنا ما بعرفك.. أنا أحمد الحاج.

انهار فجأة.. بدأ بالبكاء فضممته.. بقي يبكي على صدري لدقائق وأنا أحتضنه.. أحاول أن أهدئه.. طوّل بالك.. الله يصبرك.. وأنا أصلاً لا أعلم ما الذي يجري.. كنت أظنه يبكي من القهر والحزن ولم أعلم ما قصته.

رفع رأسه.. ثم بكى مجدداً وبدأ يروي… في الساعة الثالثة قبيل الفجر بدأ ابنه ذو الخمس سنوات بالبكاء.. كان الولد يقول أن رأسه يؤلمه.. وأنه لا يستطيع التحمل.. كان يعيش في الطابق الأول.. وتحته طابق تعيش فيه أخته وزوجها و3 أولاد مع أمه وأبيه.. لديه 4 أطفال أكبرهم بعمر العاشرة.. ألحت عليه زوجته أن يذهب للعيادة أملاً في حبوب لتخفيف الألم.. تحت إلحاح الزوجة وأنين الطفل خرج الطفل نحو العيادة.. تبعد عشرات الأمتار عن بيتهم.. في الشارع الخلفي.. لما وصل هناك دوى انفجار ضخم.. طنّت إذنه لفترة قبل أن يستعيد وعيه ويعلم أن الانفجار لم يكن في شارع العيادة.. بل في شارع منزله..

ركض إلى البيت وهو يتمنى ألا يكون ما يفكر به هو الصواب.. جسمه لا يساعده على الركض.. يلهث.. يبكي.. يكاد ينفجر.. يحاول أن يطرد كل الوساوس التي انفجرت في رأسه كما انفجر الصاروخ.. قرأ المعوذات وآية الكرسي سريعاً.. يقول: يا رب.. يا رب.. يتمنى أن يكذب ما سمع وما أحس.. مع كل خطوة يركضها ينقشع الغبار والليل.. لما وصل إلى المكان شهق وسقط على الأرض.. كما لو أن ملك الموت أخذ روحه.. لكن الصاروخ كان قد أخذ أرواح العائلة كلها.. ترك منزله قبل دقائق بطابقين وزوجة وأبناء وأم وأب وأخت وزوج وأطفالهما.. وكثير من ذكريات.. وعاد فلم يجد شيئاً.. سُوّي المنزل بأكمله على الأرض..

جاءت فرق الدفاع المدني.. ولـ48 ساعة لم يُعثر لهم جميعاً على أثر.. كل ما وجدوه لعبة وحذاء صغير ومشط.. اختفت عائلة بأكلمها كما لو أنها تبخرت.. ونجا الأب من القصف بسبب حبوب تخفيف ألم وجع الرأس. رأسي الآن حقاً يؤلمني.. أكتب إليكم ويدي ترتجف.. سوف أخرج من الغوطة بعد قليل.. الأكيد أنهم عقدوا الاتفاق على خروجنا.. هل أنا حزين؟ لا أعلم. كيف مشاعري؟ لا أعلم. هل خسرنا الثورة والحرب؟ لا أعلم. ومثلي كثيرون لا يعلمون. الناس تُحمّلنا أكثر مما نحتمل.. ونحن لم نعد نحتمل أنفسنا.. إذا كان كبار السن يقولون: “كل اللي عشناه كوم.. هالـ7 سنين كوم آخر”.. لو كان كبار السن يقولون هكذا.. فما بال الأطفال الذين ولدوا في الغوطة.. ولا يعرفون سوى الغوطة والحصار والقصف؟

بجانبي طفل صغير يبلغ من العمر 4 أعوام.. جاء أحدهم بكيس من التفاح يوزع على الناس.. دخلت اليوم بعض المساعدات الغذائية – برعاية الأمم المتحدة- كان منها خضار وفواكه.. لمّا أخذ الطفل التفاحة سأل الرجل: “عمو شو هاي؟ قنبلة؟”.. طفل بعمر 4 سنوات لا يعرف التفاح.. وبالطبع لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا الأعداد.. والسيارة بالنسبة له هي التي تنقل الموتى والجرحى.. والطائرة بالنسبة أداة قتل.. والبيت هو القبو.. والموت هو العادة اليومية.. ويعاني من نقص الغذاء والدواء ونقص الأمان.. الأمان الذي أبسط ما يحق لهذا الطفل.. ماذا تنتظرون من طفل كهذا؟

البعض سيخطر بباله أن هؤلاء الأطفال هم جنود الغد.. لا يا عزيزي.. هؤلاء الأطفال يعانون من الآن من تبول لا إرادي.. وفزع.. ورهاب من الغرباء.. واعتادوا مشهد الدمار والدماء.. يستيقظون في الليل يصرخون بلا سبب.. الوحش الذي نخاف أن يأكل قدمينا ونحن نائمين.. أطفال الغوطة يرونه الوحش الذي سوف يرمي عليهم البرميل المتفجر بعد قليل وسوف يسقط السقف عليهم.. هؤلاء هم أطفال الغوطة.

آآه يا غوطة.. أجلس الآن في الباص.. ولدت هنا.. وكبرت هنا.. وها أنا أركب الباص لأغادرك.. لم أحمل معي أي شيء.. ولا شيء.. تركت كل شيء على حاله.. ولا أمنّي نفسي بالعودة أبداً.. مررت على قبر والدي.. قرأت له الفاتحة ودعوت لي وله.. طلبت السماح ومشيت.. أركب في الكرسي الأخير.. الوجوه قاتمة في الباص.. لا أحد يتحدث مع الآخر.. بجانبي عجوز أكل الزمن وجهه.. ينتحب على الوداع.. لم أحاول تهدئته أبداً.. يعلم أنه لن يرى هذا المكان أبداً.. ربما لم يخرج من الغوطة إلا أياماً معدودة.. ودعى الله أن يدفن في الغوطة لكن دعائه لم يصل.. نظر إليّ وقال: “إنت مفكر أنا زعلان لأني طالع من الغوطة.. لا يا ابني.. أنا زعلان لأني ماني عرفان وين رايح.. طالع من تحت القصف لتحت الخيمة.. ومن جوع الحصار لجوع الحاجة.. ومن رعب القصف لرعب المجهول”. اسمي أحمد.. أنا خائف.. أنا أخرج الآن من الغوطة.. ولا أعرف إلى أين سأذهب.

المصدر مدونات الجزيرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل