في تصريح حديث له، قال السفير الأمريكي لدى سوريا، روبرت فورد، إن الأسد وشركاءه لن يخضعوا للمساءلة، وأن أسلوب محاكمات نومبيرغ قد ولّى. (محاكمات نومبيرغ، هي سلسلة محاكمات عسكرية ألمانية أجريت بعد الحرب العالمية الثانية، لمسائلة ومعاقبة سياسيين وعسكريين واقتصاديين وقضاة نازيين وفقا للقانون الدولي والقوانين الحربية).
رغم أن سوريا ما تزال واقعة في مصيدة الأطماع الروسية، والأمريكية، والتركية، إلا أن قادة العالم يحاولون قدر الإمكان تجنب سفك الدماء في أوساط المجموعات التي تقاتل حتى اليوم دفاعا عن حقها، لكن شيئا واحد، بين كل هذه التفاصيل الغامضة، قد بات واضحا لمتابعي الشأن السوري، ألا وهو فوز بشار الأسد في حرب مدنية مضنية سرقت من عمر سوريا سبعة أعوام ونيف. لكن كيف بات الحكم واضحا؟
بحسب تحليل الخبراء، قام الأسد بتأمين فوزه منذ المراحل الأولى، عن طريق توفير بيئة خصبة للجماعات المتطرفة، ما أدى إلى توسع ما يسمى بالدولة الإسلامية “داعش”، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد شهدت سوريا انتشارا للجماعات الجهادية المنادية للجهاد بين أوساط السوريين، وهذه الحركات هي نفسها ما يدعي الأسد محاولة القضاء عليها في إدلب، قلعة النضال الأخيرة في البلاد، وموطن ملايين من المواطنين واللاجئين السوريين.
عودة إلى روبرت فورد- سفير الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا في عهد باراك أوباما، وآخر سفير أمريكي في سوريا حتى اللحظة، ويعمل حاليا في مؤسسة الشرق الأوسط بواشنطن، إضافة إلى عمله كأستاذ في جامعة “ييل” الأمريكية- الذي قال في تصريح له لصحيفة “هاآرتز” الصهيونية، إن الأسد ينوي البقاء في كرسيه حتى النهاية، وإن لا محاكمات عسكرية نزيهة تنتظره أو أي من شركائه. وأسهب قائلا إن الأسد لن ينجو من المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبها باستخدامه أسلحة كيماوية أو غيرها من الوسائل الوحشية فحسب، بل إن ممولي الحرب، روسيا وإيران، لن تقوما بتمويل إعادة بناء البلد التي دمرت جراء الحرب، فقال “تفتقر الحكومة السورية للمصادر المالية، ولن تقوم أي من روسيا أو إيران بتقديم مبالغ أخرى زيادة عما قدمته سابقا”.
يمكن وصف التراجع الذي مر به الأسد خلال السنوات الثمان الماضية بأي وصف، إلا وصفه بالتراجع الأكيد، فالأسد هو الديكتاتور العربي الوحيد الذي صمد المدة الأكبر منذ بداية ثورات الربيع العربي، بالمقارنة مع غيره من رمز الديكتاتورية كحسني مبارك ومعمر القذافي، إضافة إلى صموده في وجه مسؤولين غربيين كأوباما وديفيد كاميرون اللذان وعدا، في مرحلة ما، بالقضاء على حمام الدم في سوريا ورسم خطوط حمراء لتحذير الأسد من عواقب استخدام أسلحة كيماوية وتهديده بعزله من الحكم وتغيير النظام.
فورد، الذي استقال في فبراير 2014 احتجاجا على سياسة أوباما غير الصارمة تجاه الأسد، قام بزيارة الثوار بشكل دوري وكتابة مقال في يونيو 2014 لصحيفة نيويورك تايمز، قال فيها إن الثيوار ليسوا بالملائكة، وإنهم على علم تام بأنه سيتحتم عليهم في مرحلة ما مواجهة القاعدة والجهاديين المرتزقة، لكن الأسد ما زال مصرا على إقناع الغرب بأن وجوده في الميدان لمحاربة الدولة الإسلامية والجهاديين، أفضل بكثير من ترك هذه المهمة للثوار المعارضين.
رواية جديدة
في عام 2011، وبعد أشهر من بدء إطلاق درعا شرارة الثورة على نظام الأسد، مزعزعة بذلك استقرار سوريا، قام الأسد بإخلاء سبيل آلاف من الجهاديين السوريين من السجون السورية التي فقدت سيطها خلال الحرب. واعتمادا على حسابات عملية باردة وغير إنسانية، قام الأسد بتعزيز الفوضى والعنف مدعيا أن المعارضة تابعة للجهاديين؛ لتشويه صورة المعارضة والتأكد من عدم اتخاذ الغرب أي خطوات ضده، وقد ناقش الخبير كريستوفر فيليبس هذه النقطة في كتابه الذي نشر عام 2016 تحت عنوان “الحرب في سوريا: منافسة عالمية على الشرق الأوسط الجديد”.
وفي حوار له مع “هاآرتز”، قال فيليبس “من الصعب وصف النجاح الكبير لسياسة التكذيب التي اتبعها النظام، فمن المؤكد أن غالبية السوريين، الذين لم يغادروا البلاد ولم يتعرضوا للضربات، قد كانوا داعمين أساسيين للأسد، لكن هل كان دافعهم لدعمه ناجم عن عدم ثقتهم بالمعارضة؟ أم لخوفهم من النظام؟ على الأرجح أن السبب قد كان مزيجا من الاحتمالين”.
انتقالا إلى الشهادات المحلية، يقول محمد السعود، عسكري سوري منشق، وعضو في التجمع الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في حديث له مع صحيفة نيوزويك عام 2014، إن الأسد قد قام في بداية 2011 بإخلاء سبيل عدد من السجناء، هم الآن قيادات داعش الحاليين، وإن لا أحد من المسؤولين في النظام السوريين يجرؤ على الاعتراف بذلك، أو حتى إيجاد إجابة لتلك الاتهامات. يذكر أن قياديين لاثنين من أكبر الجماعات الجهادية في سوريا، هما حسان عبود قائد أحرار الشام، وزهران علوش قائد جيش الإسلام، قد كانا رهن الاعتقال في سجون الأسد في مطلع 2011.
أما عن داعش، فمع بداية تجذرها في سوريا والعراق، كان الأسد جاهزا بضوئه الأخضر لترك الجماعة تمتد وتكبر في المنطقة، فعن فيليبس، في مقال له نشرته صحيفة أتلنتك في أغسطس الماضي، أن ما فعله الأسد هو عملي واستراتيجي، فقد سيطرت داعش على الأجزاء الشرقية من سوريا، بينما كانت المدن الأساسية في الغرب السوري تحت قبضة المعارضة. وبهذا الخصوص، يضيف مسؤول سابق في جهاز الاستخبارات العسكرية السورية، وهو جهاز من عشرات الأجهزة والوكالات الاستخباراتية السرية لدى النظام السوري، في حوار له مع صحيفة ذا ناشونال- أبو ظبي خلال عام 2014، أن النظام لم يخل سراح السجناء المتطرفين من السجون السورية فحسب، بل ساعدهم في تحقيق ما رموا إليه من تشكيل ألوية مسلحة تقاتل في الأراضي السورية. وبحسب رأي فيليبس فإن الأسد قد لفق رواية كان من شأنها إضفاء الشرعية على سياسته، فقد صور المعارضين على أنهم عنيفون، مرتزقة، وإسلاميون عنصريون، آملا بذلك أن يكون نظامه، والجهاديون التابعون له، الحل الوحيد الذي على السوريين والعالم اختياره لإنهاء الحرب.
العلاقة بين نجاة الأسد ووجود حزب الله في سوريا
مع تطور الحرب، قامت كل من إيران، وروسيا، وحزب الله بالتدخل عسكريا لمساعدة الأسد، بينما أخدت كل من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية والأكراد موقفا آخر، فقامت بتأسيس قواعد عسكرية لمحاربة الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، لكن حزب الله قد كان طوق النجاة الأهم لنجاة الأسد، فقد كان مقاتلو حزب الله، من أوائل المقاتلين الأجانب الذين دخلوا الأراضي السورية من 2012، وهم من قاد المعارك الرئيسية للنظام كمعركة القصير،كما قاموا بإعادة تنظيم جيش النظام وتعبئة الأحزاب الديموقراطية المؤيدة للنظام، فعلى الرغم من أن سليماني- قائد جيش القدس في الحرس الثوري الإيراني- قد يكون العقل المدبر، إلا أن النظام قد رأى في حزب الله خير منفذ لتلك الخطط، بحسب ما جاء في مقابلة فيليبس مع هاآرتز. ولطالما اعتبرت إيران وجود قدم لها في سوريا حجر أساس لخطة مد جسر مباشر بين طهران وبيروت، وهي نقطة قوة استراتيجية من شأنها إرباك كل من السعودية وإسرائيل، المنافسين الإقليميين لإيران في المنطقة.
وبحسب مقال لفيليبس نشر عام 2000، فإن عاملا رئيسا آخر قد ساعد الأسد على النجاة، وهو قوة الحكومة السورية قبل الحرب، فعندما تسلم الأسد مقاليد الحكم في سوريا، كان قد ورث عن أبيه، حافظ الأسد، نظاما منيعا ما زال صامدا حتى اليوم، فقد قال السفير فورد إن السبب هو عدم تمكن أي من روسيا أو إيران التحكم بالدائرة الداخلية العليا للسلطة السورية، وأن تلك الدائرة قد ظلت وفية للأسد بشكل غير متزعزع خلال هذه الحرب الأهلية. يضاف إلى ذلك سيطرة الطائفة العلوية على أغلب المواقع الأمنية السورية العليا، وهي الطائفة التي تنتمي لها عائلة الأسد، رغم أنها لا تشكل أكثر من 10% من الشعب ذي الغالبية السنية، لذا فقد ظل نظام السلطة المحيط ببشار صامدا على موقفه الوفي لبشار، رغم معاناة جيش الأسد من انشقاقات عديدة وموت أكثر من نصف جنوده خلال السنوات الأربع الأولى من الحرب.
ما هي ملامح المرحلة القادمة لسوريا؟
تحولت سوريا، بفعل نجاة الأسد خلال الحرب، إلى ركام، فكما وصفها فورد، قد باتت ضعيفة فقيرة وأقل تأثيرا في المنطقة، أما الأسد، فقد توقف سفره إلا لمناطق يعدها “صديقة” وذلك خشية القبض عليه. انتقالا إلى روسيا التي تعاني بدورها من مشاكلها الاقتصادية، فهي تعمل خلف الكواليس لتأمين تمويل لإعادة بناء سوريا، ففورد يعتقد أن روسيا تسعى لذلك حتى تثبت للعالم أن الحرب في سوريا قد انتهت، وأن إعادة بناء ما خلفته الحرب من ركام قد يبث في اللجئين أملا للعودة إلى البلاد، ما سيثبت فوز الأسد في المعركة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أوضحت إدارة ترامب أن واشنطن لن تقدم أي مساعدات ولن تبذل أي جهود بخصوص إعادة بناء سوريا، كيف لا وقد قامت إدارته بفرض عقوبات تحد من إمكانية الاستثمار الأجنبي في بلاده. عودة إلى الحكومة الروسية، التي أصدرت قائمة عن مركز تنسيق اللاجئين التابع لقاعدة حميميم الجوية في سوريا، تدعي فيه أن 900 ألف لاجئ قد يستطيعون العودة إلى سوريا قريبا عن طريق ثلاثة مداخل هي لبنان، الأردن وتركيا، إلا أن تركيا تتصرف في اتجاه مغاير، فقد جنحت إلى زيادة قواتها قرب إدلب خوفا من هجرة جماعية محتملة من سوريا باتجاه الحدود التركية.
من ناحية أخرى، يعتقد فورد أن البنية التحية الأساسية لسوريا لا تستطيع تحمل الأعداد المتوقع عودتها، فهناك تقديرات حديثة لتكلفة إعادة بناء سوريا التي تراوحت بين 250 بليون دولار و 400 بليون دولار، ويضيف “تمت إعادة بناء أجزاء صغيرة فقط من حمص وحلب رغم انتهاء القتال فيهما منذ سنوات عدة، أين يعيش اللاجئون؟ ما الوظائف التي يشغلونها؟ ماذا عن الماء الصالح للشرب والكهرباء والتدفئة في فصل الشتاء؟”.
كنتيجة لذلك، حاولت روسيا مؤخرا الضغط على كل من ألمانيا وفرنسا وحتى تركيا للمساهمة في دفع فاتورة إعادة بناء سوريا، بينما يحاول ترامب على الطرف الآخر الضغط على حلفائه لعدم دعم الأسد ماديا، إذ يساهم وجود إيران غير المفهوم في سوريا، حاجزا آخر في وجه حصول سوريا على دعم مالي من الولايات المتحدة الأمريكية، وعاملا في استمرارية عزل سوريا على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي.
ساهم انتصار الأسد اللاإنساني في واحدة من أكبر أزمات اللاجئين في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، أزمة عززت حركات عنصرية نشطت مؤخرا في الغرب نجحت في سن سياسات مجحفة بحق المسلمين واللاجئين.
إن محاولات إعادة بناء سوريا وإعادة توطين اللاجئين تقف في مواجه مشكله أخرى، وهي احتمالية عدم رغبة الكثير من اللاجئين في العودة إلى الوطن، فيقول فورد إن الاستخبارات السورية تجمع معلومات دقيقة حول كل لاجئ، وأن هناك قصصا متداولة حول احتجاز لاجئين أو إرسالهم إلى خدمة الجيش بمجرد عودتهم إلى سوريا. وبخصوص إدلب، فقد توصل نظام الأسد وحليفه الروسي، إضافة إلى تركيا، مؤخرا إلى اتفاق مرحلي لتأجيل الدخول إلى إدلب والقضاء على الجهاديين هناك، حفاظا على أرواح المدنيين، مؤجلين بذلك حربا أخيرة يراها الخبراء أمرا لا مفر منه.
وقد قدر تقرير جديد صادر عن الأمم المتحدة، أن ما بين 20 ألف و30 ألف مقاتل تابع للدولة الإسلامية ما زالوا متواجدين في سوريا والعراق، رغم تصريحات ترامب الأخيرة بانتصاره على الجماعة والقضاء عليها، فقد أشارت أحداث ليست بقديمة، أن الدولة الإسلامية ما زالت تشكل تهديدا محليا وعالميا، فقد أعلنت إيران الأربعاء الماضي قضاءها على 40 قائدا لداعش، وذلك جراء هجمة نفذها الجيش الإيران مستخدما ستة صواريخ، كرد على هجوم بتاريخ 22 أيلول استهدف عرضا عسكريا في إيران وأودى بحياة 25 شخصا، نصفهم تقريبا جنود في الحرس الثوري الإيراني.
لذا، ومع فرضية قضاء الأسد على المعارضة التي سعت للقضاء على نظامه، ونجاحه في استعادة الأراضي السورية (مع استثناء نسبة 28% من البلاد التي تخضع للأكراد المدعومين من قبل الحكومة الأمريكية)، سيواجه الأسد وضعا لا يحسد عليه، إذ إن أمامه أزمة دولية إنسانية حادة تحتاج حلا سريعا وناجعا، في ظل شح الموارد التي قد تمكنه من إعادة بنائها، إضافة إلى مواجهته مجموعات جهادية مدربة، هدفها الوحيد هو القضاء على حكمه بطريقة واحدة، هي العنف.
ترجمة: زينب سمارة – حرية برس
هذا التقرير مترجم عن: haaretz
Sorry Comments are closed