في سوريا سقط نظام الأسد، داخليا عندما كسر الشعب جدار الخوف في ٢٠١١، وإقليميا ودولياً عندما تم احتلال البلد بالقوة العسكرية من عدة أطراف إقليمية ودولية. ونضال السوريين لإنجاز مشروع وطني حديث، انتقل الى مرحلة لملمة فوضى الانفجار الكبير، وصياغة عقد اجتماعي وطني جديد، يمكن تأليفه مبدئيا تحت عنوان مقاومة الاحتلالات وطرد الغزاة، واستعادة السوريين لوطنهم، وسيادتهم فيه.
القوى والمؤسسات التي ظهرت مع الثورة، أنجزت مهمتها، وانتهى دورها، عندما استنزفت نظام الأسد، وأنهت دوره الوظيفي سياسيا وأمنيا؛ إنها مع ذلك النظام ترحل إلى صفحات التاريخ، وتنتظر حكمه.
أما دينامية التغيير التي تفجرت في المجتمع السوري، فإنها مستمرة حتى بلوغ هدفها النهائي، وهو دولة عصرية ومجتمع حر، وأحد مظاهر استمرارها هو تعريف هدف الموجة التالية، والذي لن يكون سوى: سوريا محتلة، ويجب أن تعود إلى أبنائها، عبر كفاح وطني تحرري.
ظهور المقاومة أمر حتمي، إذا كان السوريون لم يقبلوا بهيمنة نظام يدعي انه “سوري”، فكيف سيقبل بهيمنة قوى خارجية؟! لن يقتصر ذلك على الثوار وجمهور الثورة، سيمتد إلى الجمهور الذي يؤيد النظام ذاته؛ هذا مثبت تاريخيا وليس بحاجة الى محاججة: الاحتلال يعني المقاومة، مهما كانت قوته، ومهما كان شكله أو مبرراته أو ادعاءاته.
المقاومة لن تكون بحكم تعقيد الحالة السورية محض مقاومة عسكرية، بل إن هذه قد تكون آخر مراحل المقاومة وحصيلتها. المقاومة في المقام الأول ثقافية تضطلع بها النخب المفكرة، وتستعيد من خلالها موقعها الريادي في حياة الشعب؛ وفي المقام الثاني سياسية، تضطلع بها التنظيمات والشخصيات القادرة على بلوغ مستوى اللاعب السياسي، الذي لديه هدف واضح، وإمكانيات يتم تنميتها وتوظيفها أثناء الحركة؛ وفي المقام الثالث هي مقاومة مجتمعية تأتي كاستجابة لنداء المستويين الأولين، وكإسناد صلب لمساعيهما، والعمل العسكري يمكن أن يكون جزءاً من ذلك الإسناد، لكن ليس أكثر.
عناصر استراتيجية المقاومة ومشروعيتها بسيطة التوصيف، ويمكن استنتاجها من المشهد السوري الداخلي، الأرض تخضع لاحتلالات قوى خارجية متعددة، يجب طردها، والشعب ممزق ومتحارب، ويجب أن يتماسك وينهض، من خلال التفافه حول عنوان التحرير الوطني والنضال من أجل الاستقلال السياسي، الذي سيكون التجربة المشتركة الأولى لكامل الشعب السوري، والمدماك الحقيقي الأول في صرح الدولة الوطنية الحديثة، والمجتمع المندمج.
هذه مرحلة القوى الوطنية السورية الديمقراطية، التي لا يجب أن تتأخر في دخول ميدان العمل المقاوم، أو تنتظر أن يفشل الجميع لتؤول الأمور إليها تلقائيا كما فعلت في السابق؛ فالدينيون والقوميون وأمراء الحرب، من مختلف الأطراف، سرعان ما سيكتشفون القيمة المبدئية لفعل المقاومة، وسيحاولون اجتزاءه وركوبه بما يخدم مصالحهم؛ من ناحية ثانية ثبت بعد ثمان سنوات من الصراع في سوريا، أن نواتج أي سيرورة، ليست منفصلة عما حدث خلالها، وأن مستوى التفاعل مع الـ”مايحدث” يحدد موقف كل طرف في نهاية العملية، وأن الانكفاء والحياد، يعني الخروج من اللعبة.
تخوض الدول الحروب، وتصنع الحروب الدول، وما من دولة قوية اليوم لم تخرج من أتون حرب ضروس؛ وحرب الشعب السوري، التي لم تنته بعد، يجب أن تنتج الدولة التي طال انتظارها. إنها مهمة الأجيال الشابة على وجه التحديد، التي لفحها وهج الصراع وصاغ تجاربها، وحدها من يستطيع إنجاز البديل، الذي سيعاد طرح سؤاله بعد حين، عندما تتفسخ جثة نظام الأسد، في مستنقع حالة اللاسلم واللا حرب، وسبيلهم الأوحد هو تجربة المقاومة في مستوياتها المدنية والسياسية والثقافية والدبلوماسية والحقوقية، وربما العسكرية في مرحلة ما.
عذراً التعليقات مغلقة