سردت خلال المقالات السابقة من السلسلة بعضاً من حكايات سوريّة، وهي – أي الحكايات – توضح الأسباب المختلفة التي أوصلتنا لما نحن عليه الآن – حسب وجهة نظري – من انسداد الأفق والدم الغزير الذي سال في سورية بسبب الاستبداد، وإقصاء السياسية من المجتمع، وبسبب إجرام العائلة الحاكمة في سوريا، وتآمر قوى الغرب، وأخطاء المعارضة السياسية، وتتحمل الأخيرة جزء من المسؤولية بنظري. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال تبرير إجرام عائلة الأسد، لكن هذا لا يعني أبداً أن المعارضة السياسية من جنس الملائكة، بل كانت متفرقة وانتهازية تبحث عن مصالحها الحزبية الضيقة الآنية، نقلت صراعاتها على الهيمنة وأمراضها إلى الثورة، وبهذا لم ترتقي لتكون على قدر المسؤولية الوطنية، وكانت بسبب أخطاءها شريكة في الدماء التي سالت في سوريا.
لقد افترضت عدد من قوى المعارضة في بداية الثورة أن النظام سيسقط خلال أشهر، وعملت انطلاقاً من هذا الافتراض الخاطئ لتبحث عن الهيمنة والنفوذ، وكانت الشكل المقابل لنظام الأسد، فقد كان النظام يحتكر العمل السياسي دستورياً من خلال المادة الثامنة من الدستور، والتي تنص على أن البعث قائد للدولة والمجتمع، وكان المجلس الوطني “الممثل الشرعي للثورة” وورثه الائتلاف بادعاء واحتكار التمثيل، أي أن العقلية التي سادت في أوساط المعارضة هي عقلية اللاهث وراء تحصيل السلطة، وليس تحقيق الاصلاحات التي نادت بها جماهير الشعب المنتفضة، أو بعد تعديل شعارات الثورة لتصبح اسقاط النظام بدلاً من إصلاحه. هذه القوى التي سارعت لاهثة تبحث عن السلطة لم تستطع تقدير قوة النظام، ولم تفهم طبيعته الخاصة وتركيبته، ولم تفهم طبيعة الجيش والأمن، ولم تدرك الدعم اللامحدود من أصدقائه روسيا، وإيران، والصين.
هذا الافتراض الخاطئ الذي بنت عليه قوى المعارضة خططها، أربكها في التعامل مع التطورات المختلفة خلال الثورة، فلقد ظهر الإرباك جلياً حين تحولت الانتفاضة الشعبية من شعاراتها المنادية بالإصلاح إلى شعار إسقاط النظام، فلم أرى أي خطط أو برامج وضعت لتحقيق هذا الهدف، بل فقط شعارات وصراخ واستجداء التدخل العسكري الغربي من على شاشات التلفزة، ووسائل الاعلام المختلفة، كما أخفقت هذه المعارضة في التعامل مع ظاهرة الانشقاقات المختلفة عن النظام، وخصوصاً ظاهرة الضباط المنشقين، ثم ومع تطور الثورة، وانتقالها للعسكرة لم تشعر بضرورة التحالف مع باقي أفرقاء المعارضة، وكان التقرب من الضباط المنشقين والتقاط الصور معهم، ضرورة ثورية، لا بل أصبحت خيمة بعضهم كالكعبة، يحجون إليها طلباً للشرعية، كما فشلت في التعامل مع ظاهرة المناطق المحررة، مما أدى لانتشار الفساد واللصوصية، وظاهرة أمراء الحرب، وهو الذي سهل على التطرف الإسلامي الدخول إلى هذه المناطق، مستغلاً هذا الفساد، ومستغلاً عاطفة الناس الدينية.
لقد أدت الصراعات البينية بين أفرقاء المعارضة السياسية إلى إهمال التعبئة الشعبية، وتنظيم الشعب السوري في مؤسسات ثورية، توزع الجهد، وتستفيد من الخبرات، ليتم بدلاً من ذلك الاستغراق في الاستجداء، واللهث وراء قوى الخارج للتدخل، والاستقواء بها إما على النظام أو لنصرة فريق منهم على الفريق الآخر، فكان جلّ العمل المعارض عبارة عن صراخ على وسائل الاعلام التابعة لهذه الدولة أو تلك، أو مراسلات وزيارات للسفارات والحكومات.
هذه العلاقات غير المتكافئة مع القوى الدولية، أدت لهيمنة هذه الدول وتحكمها في القرار، فتراجع الاهتمام الشعبي بالسياسة، وانفض الناس من حول السياسيين باتجاه العسكريين، متوهمين أن الحل العسكري هو البديل الأفضل في ظل غياب معارضة وطنية شريفة، وهذا ما سهل التحول من الثورة الشعبية المدنية التي أحرجت النظام والعالم، إلى ثورة عسكرية مسلحة، أنتجت في ظل غياب القيادة السياسية والعسكرية الموحدة أمراء الحرب، وهم بدورهم أنتجوا التطرف وساهموا في انتشاره.
رغم ملايين الدولارات التي وصلت للمعارضة السياسية، إلا أنها لم توظف بشكل صحيح، فالسعي لشراء الولاءات الحزبية وتوسيع النفوذ والهيمنة، تسبب في ضياع وبعثرة هذه الأموال، ولم تستفد منها الثورة، فمثلاً لم نرى هذه الأموال تساهم في إنشاء فرق فنية تقدم الأناشيد الثورية، وتضفي علامة مميزة من علامات الثورة، ولم نرى انعكاس هذه الأموال في مشاريع إنتاج مسلسلات وأفلام تلفزيونية وسينمائية تنشر قيم الثورة، وتخلد نضالات الشعب وثواره، ولم نرى محطة فضائية أو اذاعة ثورية، ولم توظف طاقات المبدعين من الثوار في نشر فكر المواطنة في مقابل الفكر المتطرف، سواء كان تطرفاً مذهبياً أو دينياً أو قومياً أو قبائلياً، أو حتى مناطقياً، وهذا إن استمر فإنه سيشكل خطراً على سوريا ككيان موحد، فحين يغلب الانتماء ما قبل الوطني كالانتماء للقبيلة أو المذهب أو القومية أو المناطقية، فستكون النتيجة تقسيم سوريا.
عذراً التعليقات مغلقة