

في كل سلطة، مهما بلغت نزاهتها أو صدق نياتها، يختبئ العدو الحقيقي في الظل. ليس في صفوف المعارضة، ولا في الخارج، بل في الدائرة الأقرب إلى المسؤول: أولئك الذين يُتقنون فن المديح ويتعيشون من ممارسته. هم ليسوا مجرد مجاملين؛ إنهم مهندسو الوهم، وصنّاع الصورة المزيّفة التي تُغرق صاحب القرار في بحرٍ من الأوهام حتى يفقد قدرته على رؤية الواقع كما هو. إن السلطة التي لا تسمع إلا مديحها تموت اختناقًا داخل فقاعتها.
المسؤول “الشريف”، الذي يدخل الحياة العامة بدافع الخدمة الوطنية، لا يدرك في البداية أن منصبه ليس فقط امتحانًا في الإدارة، بل امتحان في الصمود أمام جيشٍ من المنافقين الذين يتكاثرون حول السلطة كما تتكاثر الحشرات حول الضوء. لا يعنيهم الوطن، ولا المصلحة العامة، بل ما يمكن أن يربحوه من قربهم إليه. وهؤلاء هم من يحوّلون الشرف إلى عبء، والصدق إلى خطر مهني.
إنّ أخطر ما يواجه صاحب السلطة ليس النقد العلني، بل المديح المفرط. فالنقد، مهما كان قاسيًا، يُبقي الحاكم على تماسّ مع نبض الناس. أما المديح، فيخدّره ببطء حتى يعيش داخل فقاعة يرى فيها كل شيء جميلًا ومطمئنًا. فيتحول النفاق إلى مخدرٍ سياسي، يقتل الضمير دون أن يترك أثرًا ظاهريًا.
كل مسؤول، مهما كانت نياته حسنة، حين يُحاط بالمنافقين، يتحوّل تدريجيًا إلى أسيرهم. إنهم يزخرفون له الواقع، يُطربونه بالثناء، يبرّرون أخطاءه، ويفسرون فشله على أنه “سوء فهم من الشعب”. والطغيان يُصنع من كلمات المديح أكثر مما يُصنع من الرصاص. فالنفاق السياسي نزعة بشرية، لكنه يجد بيئته المثالية حين تغيب المساءلة وتُختزل الوطنية في الولاء للحاكم. هناك يبدأ كل انحراف، مهما كان صغيرًا، في النمو حتى يصير قاعدةً سياسية. لكن المفارقة أن النفاق لا يحمي السلطة، بل يعزلها عن الواقع. فالمسؤول الذي لا يسمع إلا المديح يصبح مثل طيّارٍ يقود طائرته في الضباب من دون أجهزة قياس؛ لا يرى الأرض، ولا يسمع التحذيرات، حتى يصطدم بها فجأة.
في الحالة السورية مثلًا، نلمس خطر تحوّل منظومة السلطة الجديدة إلى فضاء مغلق تحكمه الولاءات الشخصية لا الكفاءة. كل مسؤول محاط بحلقة من المصفقين الذين يحجبون عنه حقيقة نبض الشارع. ومع الوقت، يتماهى المسؤول مع هذه الصورة المزيفة التي رسموها له، فيقتنع أنه فوق الخطأ، وأن كل نقد هو مؤامرة، وكل معارض خائن. وحين تنفجر الكارثة، يكون أول المصدومين لأنه لم يعد يرى شيئًا من واقعه منذ زمن.
إن النفاق في أروقة السلطة أخطر من الفساد المالي، لأن الفساد يسرق المال، بينما النفاق يسرق الوعي. وهو ليس عيبًا فرديًا، بل نظام إدارة متكامل، يقوم على قاعدة بسيطة “قل ما يُرضي صاحب القرار، لا ما يفيده.” والنظام في المطلق، ينتج طبقة كاملة من المنتفعين الذين يعيشون على تزييف الحقائق وتجميل الفشل. وحين ينهار كل شيء، يكونون أول من يختفي من المشهد، تاركين صاحب السلطة وحيدًا أمام شعبٍ غاضب وواقعٍ منكشف.
إن النفاق السياسي يقتل المؤسسات قبل أن يقتل الضمائر. فحين تُستبدل الكفاءة بالولاء، ويتحوّل الانتماء إلى سلعة، تفقد الدولة قدرتها على الإصلاح. كل مسؤول يخشى الحقيقة، وكل موظف يتقن لغة التبرير. يصبح الجميع متواطئًا في كذبة جماعية كبرى، عنوانها المألوف: “كل شيء تحت السيطرة”.
ولعل المفارقة أن النفاق لا يحمي النظام من السقوط، بل يعجّل به. فالمجتمع الذي يُمنع فيه النقد يعيش في غيبوبة طويلة، لكنه يستيقظ فجأة على صدمة مدمّرة. إذ لا تنهار السلطة لأن معارضيها أقوياء، بل لأنها لم تعد تعرف ما يجري حولها. المنافقون أخفوا عنها الحقيقة حتى آخر لحظة، ثم فرّوا.
ومع ذلك، هناك مظهر جديد في المشهد السوري، فلقد بات من الممكن اليوم توجيه انتقاد علني لمسؤول، بصوت عالٍ، وبعبارات حادّة أحيانًا. هذه خطوة مهمة، لكنها غير كافية. لأن شجاعة النقد لا تكتمل ما لم تقابلها شجاعة في تقبّل النقد. فالسلطة التي تسمح بالكلام ثم تعاقب من يتكلم، ولو معنويًا، لا تزال في دائرة الوهم نفسها.
من ناحية أخرى، لا يقل خطر مريدي السلطة عن خطر منافقيها. هؤلاء الذين يرفضون أي نقد بحجة “احترام المقامات” أو “الظروف الصعبة”، ويحوّلون كل محاولة إصلاح إلى جريمة فكرية. إنهم الجدار الأخير الذي يحمي النفاق من السقوط، فهم يملكون استعدادًا غريبًا لاتهام أي صوت مخالف بالخيانة أو الكفر أو العمالة، فقط لأنهم يخافون من زعزعة امتيازاتهم الصغيرة. والمجتمع الذي يُخرس صوته النقدي، يخلق طغاته بيديه.
الحقيقة أن السلطة لا تفسد الإنسان بحد ذاتها، بل تكشف ضعفه أمام الإغراء. والمنافقون هم الذين يجرّون صاحب السلطة، مهما كان نزيهًا، نحو حقل الأوهام الذي يزرعونه حوله. يبدأ الأمر بمجاملات صغيرة، ويتحول إلى طقوس دائمة من التبجيل والتقديس، حتى يصبح المسؤول أسير صورتهم عنه، لا ذاته. وبالتالي، فالنفاق السياسي لا يُقاوَم بالقرارات ولا بالشعارات، بل بثقافة سياسية جديدة تضع الصدق في صدارة القيم العامة. ثقافة تجعل المسؤول يسمع أكثر مما يُسمَع، وتُعيد الاحترام للكلمة الصادقة، حتى لو كانت مؤلمة.
فحين يُستبدل المديح بالمصارحة، يعود الوطن إلى رشده. لأن الحقيقة، مهما كانت مُرّة، تظل أقصر الطرق إلى الإصلاح. أما الكذب المتقن والمجاملات الرفيعة، فهي الطريق الأكيد إلى الهاوية، ولو كانت معبّدة بالابتسامات والقصائد.
لقد جُرِّب النفاق ألف مرة، ولم يُنتج إلا الخراب، فلنجرب الصدق مرة واحدة، لعلها تكون بداية الخلاص.