سورية.. استحقاقات ما بعد نيويورك

عبد الباسط سيدا30 سبتمبر 2025آخر تحديث :
سورية.. استحقاقات ما بعد نيويورك

حدث غير عادي مشاركة الرئيس السوري، أحمد الشرع، في اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وإعلانه أمام قادة العالم التحوّلات في الأوضاع الداخلية والتوجّهات الأساسية في السياسة السورية منذ وصول الإدارة الجديدة إلى دمشق. كما أن اللقاءات التي جمعته مع مسؤلين عديدين من دول عديدة، بالإضافة إلى مقابلات أجرتها معه المؤسّسات المؤثرة والمراكز البحثية ووسائل الإعلام المعروفة على المستوى الدولي… ذلك كلّه يُستشفّ منه أن العالم مستعدّ للانفتاح على الدولة السورية ودعمها، وهو متعاطف مع شعبها الذي عانى الأمرّين جرّاء عقود من الممارسات الاستبدادية لسلطة “البعث” (1963 – 2024) في مختلف مراحلها، لا سيّما في المرحلة الأسدية الطويلة، الأكثر ظلامية ووحشية (54 عاماً). كما أن الاهتمام الأميركي بالزيارة، والاحتفاء الخاصّ بالوفد السوري كان لافتاً، ولكن ما ينتظره السوريون هو أن تُترجَم هذه المواقف واقعاً عملياً تتمظهر نتائجه الإيجابية الملموسة في الأرض عبر إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية تماماً، ومن دون شروط، ووضع خطّة واضحة مع خريطة طريق بتوقيتات محدّدة. خطّة مدعومة بميزانيات مُعلَنة، تلتزم بها الأطراف الدولية الحريصة على مسألة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وسورية على وجه التخصيص، من خلال مؤتمر دولي هدفه دعم الشعب السوري، وتمكينه من النهوض على المستوى المجتمعي والعمراني والسياسي، ليكون قادراً على ترميم نسيجه المجتمعي الوطني، وإعادة بناء دولته وبلده.

السوريون مقتنعون بأن موضوع العلاقة مع إسرائيل لا بدّ أن يحلّ سياسياً في نهاية المطاف على أساس قرارات الشرعية الدولية

ولم يعد سرّاً في هذا السياق أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشدّدة، بقيادة نتنياهو، تحاول استغلال الوضع السوري غير السويّ بالأساليب كلّها، لفرض اتفاقات استثنائية تكبّل الإدارة السورية الراهنة، والحكومات المُنتخَبة المُقبِلة بعد المرحلة الانتقالية، سواء من جهة منع الطيران السوري من التحرّك ضمن مناطق واسعة في المجال الجوي السوري السيادي، والإقرار في المقابل بحقّ الطيران الإسرائيلي في التحرّك والقصف ضمن كامل الفضاء السوري، أو من ناحية الموافقة على وجود نقاط مراقبة عسكرية إسرائيلية داخل الحدود السورية المعترف بها دولياً، مع تجاهل موضوع الجولان المحتلّ بحجّة أن الظروف تستوجب ترحيل هذا الموضوع إلى مفاوضات لاحقة، ستودّي إلى اتفاق آخر، أو اتفاقات أخرى، كما صرّح بذلك المسؤولون السوريون والأميركيون، واستناداً إلى ما تسرّب من أخبار عن الاجتماعات الثلاثية بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين والأميركيين. ولعلّنا لا نأتي بشيء جديد إذا قلنا إن هذا الموضوع (عقد اتفاقية أو اتفاقيات أمنية وربّما سياسية مع إسرائيل) حسّاس للغاية على المستوى الوطني الداخلي السوري، والعربي، وعلى المستوى الجيوسياسي الإقليمي، بالإضافة إلى انعكاساته وتبعاته الدولية.
السوريون بصورة عامّة على قناعة بأن موضوع العلاقة مع إسرائيل لا بدّ أن يحلّ سياسياً في نهاية المطاف على أساس قرارات الشرعية الدولية، ولكن ذلك يستوجب إجماعاً وطنياً سورياً صريحاً، تجسّده سلطة شرعية مُنتخَبة تقود الدولة السورية بدعم غالبية السوريين بموجب انتخابات فعلية نزيهة شفافّة، لقطع الطريق على القيل والقال، وإبعاد المجتمع السوري عن شرور المزيد من الانقسامات والتوجّسات. ونظراً لانعكاسات هذا الموضوع على واقع علاقات سورية بمحيطها العربي وجوارها الإقليمي، سيكون من المفيد جدّاً التشاور حول هذا الموضوع مع الدول العربية، ودول الجوار السوري (الأردن ولبنان والعراق وتركيا)، ولكن القرار في نهاية المطاف لا بد أن يكون سيادياً سورياً، يستمدّ قوته من التوافق الوطني السوري. فهذا الموضوع الشائك المعقّد، المحاط بشحنة قوية من الحساسيات والمشاعر الجيّاشة والذكريات الأليمة السورية هو أكبر من أن يعالجه فريق بعينه، مهما كان معتدّاً بنفسه، لأن موضوع المناطق المحتلة، وبناء علاقات متوازنة مع إسرائيل على أساس الحفاظ على الحقوق، من الأمور التي تهم السوريين جميعهم، الذين دفعوا ضرائب باهظة بمختلف الأشكال خلال الحروب مع الاحتلال منذ 1948.
كانت زيارة الرئيس الشرع نيويورك، ولقاءاته هناك، خطوة دبلوماسية لافتة، ومن المهم توظيفها الآن لصالح معالجة الجروح العميقة في النسيج المجتمعي الوطني السوري، بالانفتاح الفعلي، لا الشعاراتي المهرجاني، عليهم. وذلك يقتضي استمرارية الحوار الوطني المعمّق الصريح البنّاء بين ممثلي سائر المكوّنات والتوجّهات السياسية. أمّا أن نظلّ نسوّق الاجتماع المُستعجَل الذي انعقد في دمشق مدّة ساعات تحت اسم مؤتمر الحوار الوطني، أو أن نروّج عملية تعيين أعضاء مجلس الشعب، سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، على أنها انتخابات تكون نتيجتها سلطة تشريعية، في أصعب مرحلة تمر بها البلاد في تاريخها المعاصر، فهذا معناه أننا ما زلنا بعيدين من عقلية تأسيس الدولة على أركان راسخة تمكّنها من الانطلاق بكل قوة، لتكون قادرة على مواجهة سائر التحدّيات، ومعالجة سائر القضايا والمشكلات بما يرمّم النسيج المجتمعي السوري ويعزّز الوحدة الوطنية.
الأوضاع في المنطقة مضطربة جداً، والصراعات المحمومة بين الدول الكبرى لا تلتزم بأيّ منطق، ولا تُعطي أيّ قيمة للوثائق والمعاهدات الخاصّة بحقوق الشعوب وسيادة الدول. وحدها المصالح العارية تحدّد السياسات وتتحكّم بالقرارات. ومنطقتنا هي في منظور هذه القوى مجرّد مادّة تتمحور حولها المصالح التي لا تكترث بمعاناة وتطلّعات شعوبها. ولعلّ ما جاء في مقابلة توم برّاك مع “سكاي نيوز” حول أولويات الإدارة الأميركية الحالية في منطقتنا، يلقي ضوءاً ساطعاً على هذه الحقيقة المُرّة (بكل أسف!). فبرّاك الذي يذكّر كثيرين ببطل مسرحية “زيارة الملكة”، للمبدع السوري الراحل ممدوح عدوان، “بقّ البحصة” كما يقال في موروثنا الشعبي، وأعلن صراحةً أنه لا يثق بأحد ولا يضمن أحداً. وفي أجواء كهذه يبقى الضمان الأكيد الأكثر استقراراً واستمرارية، هو تعزيز الوحدة الوطنية عبر الاعتراف بالتنوّع السوري المجتمعي والسياسي والفكري واحترامه، وإدارته بحكمة وبعد نظر، والقطع النهائي مع النزعات التمييزية والثأرية والاستعلائية، وتجريم كل أشكال الخطابين الطائفي والعنصري المقيتين. فالتنوع المجتمعي، الذي يعد جزءاً أصيلاً من الهُويَّة السورية على مرّ العصور، لا يمكن تجاهله وتقزيمه بجمل ضبابية أو مجاملات خاوية من أيّ مضمون واقعي، وإنما بالشراكة الحقيقية في الإدارة والموارد بموجب عقد اجتماعي وطني يتوافق عليه السوريون. عقد يستمدّ مشروعيته من موافقة السوريين الصريحة عليه، وذلك بموجب استفتاء شعبي شامل شفّاف أمام مرأى ومسمع العالم أجمع.

شروط نهوض سورية في حالة الكمون، نحتاج لتفعيلها أن نتفاهم ونتوافق، وأن نتحرّر من العقد وضغوط الذكريات الأليمة

هناك توجّس عام بين السوريين على مستوى الشعب والسلطة ينبغي الإقرار به. السلطة منغلقة على ذاتها تخشى الانفتاح على الآخر المختلف بكل صيغه لأسباب متباينة. والمكوّنات المجتمعية السورية (بما فيها أوساط واسعة ضمن المكوّن العربي السُّني نفسه) لديها هواجس، وهي في مواجهة مستقبل غير واضح معالم. وللخروج من دائرة هذا التوجّس المزدوج (والمركّب) يحتاج السوريون (موالاة ومعارضة) إلى الحوار المعمّق مع الآخر المختلف على قاعدة الاحترام المتبادل، بغية وضع كل المخاوف والمؤرّقات والمظالم والمطالبات على طاولة الحوار العقلاني الهادئ وتركيز الجهود بغية التوصّل إلى الحلول لا إثارة المشكلات. حلول هدفها الأساس ترميم النسيج المجتمعي السوري، وتعزيز الثقة المتبادلة بين سائر مكوّناته، لتتبلور وحدة وطنية قوية تمكّن السوريين من العمل معاً بجدّية وحماس لتوفير الأمان، وتأمين الحدّ الأدنى الممكن من المقومات الأساسية للعيش الكريم في هذه الظروف المعقّدة. فالقسم الأكبر من السوريين يعانون من ظروف معيشية بالغة الصعوبة، خاصّة أن الشتاء على الأبواب. وفي مثل هذه الأوضاع، لا يمكن إقناع الجائع والمريض والمشرّد بوعود تبشيرية تسويفية من دون أن تلوح في الأفق علائم تنمّ عن وجود جهود ملموسة تبذل بغرض التخفيف عنهم، تمهيداً لمعالجات معقولة ترتقي إلى مستوى تضحيات وتطلّعات السوريين؛ ويتحقّق هذا الأمر من خلال ترتيب سلم الأولويات على الصعيد الداخلي، والتركيز على الملحّ المستعجل، ثمّ المهم… وهكذا، والقطع مع عقلية كل شيء أو لا شيء، الرومانسية العدمية، فغالبية المشاريع الكبيرة على مستوى الأفراد والدول هي حصيلة تراكمات نجاحات المشاريع الصغيرة التي تتحوّل بفضل الإدارة الرشيدة النزيهة مشاريعَ نوعيةً كبيرة.
شروط نهوض سورية متوفّرة، لكنّها في حالة الكمون أو الوجود بالقوة. كل ما نحتاجه لتفعيلها هو أن نتفاهم ونتوافق، ونتحرّر من العقد وضغوط الذكريات الأليمة. لقد واجه السوريون في مختلف مراحل تاريخهم القديم والوسيط والحديث كثيراً من التحدّيات والعراقيل، وتحمّلوا آلاماً كثيرة، إلا أنهم نهضوا دائماً بكدّهم وعرقهم واعتزازهم بكرامتهم، وسينهضون هذه المرّة أيضاً بكل تأكيد، ولكنهم يحتاجون إلى تضميد الجراح وتوحيد الصفوف. وهذا لن يتحقّق من دون وجود سلطة يشعر الجميع بأنها تمثّلهم، وتحرص عليهم جميعاً من دون أيّ تمييز أو امتياز.

المصدر العربي الجديد

اترك رد

عاجل