السعودية وباكستان.. شراكة المصالح بين معادلات الداخل ومخاطر الإقليم

لجين مليحان24 سبتمبر 2025آخر تحديث :
السعودية وباكستان.. شراكة المصالح بين معادلات الداخل ومخاطر الإقليم

المصلحة أولا: دوافع متبادلة تشكل تحالف الدفاع السعودي-الباكستاني
تبدو دوافع باكستان في الاتفاق الدفاعي الأخير مع السعودية واضحة للعيان. فهي، على الرغم من كونها قوة عسكرية كبرى، تعاني من هشاشة اقتصادية مزمنة تهدد استقرارها الداخلي وتضعف قدرتها على مجاراة خصمها التاريخي، الهند. ومن هنا، فإن إسلام آباد ترى في الدعم السعودي المالي والاقتصادي فرصة لا غنى عنها لتخفيف حدة أزماتها، خصوصًا في ظل الظروف التي تعصف باقتصادها منذ سنوات.
في المقابل، لا تقل دوافع السعودية وضوحًا. فالمملكة، شأنها شأن بقية دول المنطقة، تعيش حالة قلق متزايد على أمنها القومي. فمنذ سنوات تتعرض لأخطار قادمة من جهة اليمن، حيث تهدد المسيّرات والصواريخ الحوثية أجواءها ومنشآتها الحيوية، بينما تبقى إيران مصدر قلق دائم رغم اتفاق التطبيع الذي رعته بكين في مارس/آذار 2023. وزادت هذه المخاوف مع السلوك الإسرائيلي المنفلت في الأشهر الأخيرة، حين تبادلت طهران وتل أبيب الضربات العسكرية، واضعة الخليج في قلب مرمى النيران. وقد جاء الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطر، وما سبقه من استهداف إيراني لقاعدة أمريكية على أراضيها، ليكشف بوضوح أن دول الخليج باتت مكشوفة أمام الطرفين، في ظل صمت أمريكي لافت.
من هنا، كان بحث السعودية عن مظلة دفاعية موثوقة خيارًا إستراتيجيًا، سواء عبر محاولات متكررة لإبرام اتفاقية دفاع مشترك ملزِمة مع الولايات المتحدة ـ التي لم تفضِ إلى نتيجة ـ أو عبر بناء تحالفات جديدة مع قوى إقليمية وإسلامية. وهنا بالذات تبرز أهمية التفاهم مع باكستان.
أحد محرري فاينانشال تايمز وصف المشهد الإقليمي بأنه ثلاثية خطرة: “إيران الجريحة” التي قد تتحرك باندفاع غير محسوب، و”إسرائيل المنفلتة” التي لا تكف عن التصعيد، و”الولايات المتحدة التي لم تعد موضع ثقة كاملة”. وفي ضوء هذا الواقع، يبدو أن الرياض تسعى إلى تنويع مصادر أمنها القومي، عبر شبكة متعددة الأطراف لا تعتمد على واشنطن وحدها.
بين الرياض وإسلام آباد: لماذا رفضت السعودية دعم باكستان التي امتنعت عن الانضمام للتحالف السعودي؟
لكن العلاقة بين السعودية وباكستان لم تكن يومًا سهلة أو مستقرة. فالتاريخ القريب يقدّم أكثر من مثال على ذلك. ففي عام 2015، رفض البرلمان الباكستاني بالإجماع طلبًا سعوديًا بإرسال قوات لدعم العمليات في اليمن، متمسكًا بالحياد. ذلك القرار ارتبط بمخاوف باكستان من الانجرار إلى صراع طائفي، في ظل وجود أقلية شيعية مؤثرة داخلها، وخشيتها من أن يؤدي التورط العسكري إلى انفجار التوتر الداخلي. ورغم هذا الرفض، أبقت الرياض على قنوات التعاون مفتوحة، وعُيّن قائد الجيش الباكستاني السابق رحيل شريف قائدًا لـ”التحالف الإسلامي العسكري”، في خطوة عكست رغبة السعودية في استثمار الخبرة الباكستانية ضمن أطر غير مباشرة.
وفي عام 2023، برزت أزمة جديدة، حين رفضت السعودية تقديم قرض بلا فوائد لباكستان كما جرت العادة، واشترطت التزام إسلام آباد بإصلاحات يفرضها صندوق النقد الدولي قبل أي دعم إضافي. هذا الموقف كشف عن فتور في العلاقات، وأظهر أن الرياض لم تعد ترى في الدعم الاقتصادي غير المشروط سياسة فعّالة.
اليوم، ومع الاتفاق الدفاعي الجديد، تعود العلاقة لتأخذ بُعدًا إستراتيجيًا مختلفًا. فالسعودية تسعى لتعزيز شبكة أمنها الإقليمي في مواجهة إيران وإسرائيل، وباكستان تحاول أن تترجم قوتها العسكرية إلى مكاسب اقتصادية تضمن لها الاستقرار الداخلي. إنها شراكة تقوم على تبادل المصالح، لكنها تظل محكومة بمعادلات معقدة داخلية وخارجية تجعلها عرضة للاهتزاز كلما تبدلت الظروف.
تحالف الرياض ـ إسلام آباد يربك الحسابات الإسرائيلية
القلق الإسرائيلي من الاتفاق الدفاعي بين السعودية وباكستان يقوم على سببين رئيسيين. فبالنسبة لتل أبيب، قد تكون هناك فائدة وحيدة تتمثل في أن أي تحالف سعودي ـ باكستاني سيُشكّل عامل ضغط إضافيًا على خصمها الأول، إيران. غير أن ما عدا ذلك، يبدو الاتفاق كله سلبيًا على إسرائيل. أولًا، لأنه ينتقص من النفوذ الأميركي على السعودية، وهو أمر بالغ الحساسية بالنسبة لتل أبيب، إذ أن تراجع الدور الأميركي في الخليج يعني بالضرورة تقلص قدرة إسرائيل على التأثير غير المباشر عبر القناة الأميركية. الأمثلة على ذلك عديدة، أبرزها ما جرى عام 2020 حين ربطت إسرائيل بيع مقاتلات “إف-35” للإمارات بتوقيع اتفاقية التطبيع، وهو ما تحقق بالفعل بضغط واشنطن. أما ثاني الأسباب، فيتعلق بحرية الحركة الإسرائيلية في الأجواء العربية. فقد كانت تل أبيب تشعر طوال السنوات الماضية أنها قادرة على العمل العسكري في أكثر من دولة عربية دون عوائق تُذكر، بل وضرب أهداف في العمق كما حدث في التاسع من سبتمبر حين استهدفت الدوحة. لكن دخول باكستان على خط التعاون الدفاعي مع السعودية يفرض ـ في أضعف الاحتمالات ـ قيودًا على هذه الحرية، إن لم يُنهها تمامًا. فوجود مظلة صاروخية باكستانية في الخليج كفيل بإضعاف التفوق العسكري النوعي الذي تسعى واشنطن دوما لضمانه لصالح إسرائيل. من هنا، لا يقتصر القلق من الاتفاق على إسرائيل وحدها، بل يمتد أيضًا إلى الولايات المتحدة، وهو ما يقودنا إلى الموقف الأميركي المتوقع.
واشنطن تحت المجهر: تحالف الرياض وإسلام آباد يكشف تآكل الثقة الخليجية
التزمت واشنطن الصمت تجاه الاتفاق الدفاعي بين السعودية وباكستان، إذ لم تُصدر وزارة الخارجية الأميركية ولا وزارة الدفاع (البنتاغون) أي تعليق مباشر بالترحيب أو الرفض. وهذا الصمت، وإن بدا محايدًا، إلا أنه يعكس في جوهره انزعاجًا مكتومًا. فالولايات المتحدة تدرك أن هذا الاتفاق يكشف تراجع موقعها كضامن أساسي لأمن الخليج، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تُقرّ علنًا بهذه الحقيقة المزعجة.
على النقيض، كان الإعلام الأميركي ومراكز الأبحاث أكثر وضوحًا، إذ قرأت الاتفاق باعتباره دليلًا إضافيًا على تآكل الثقة الخليجية في واشنطن، التي لم تعد ترى في الشرق الأوسط سوى إسرائيل وأمنها. هذا الشعور بالخيانة تراكم على مدى سنوات، بدءًا من امتناع واشنطن عن التدخل لحماية قطر خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير في 9 سبتمبر، مرورًا بمحطة أكثر خطورة عام 2019 حين تعرضت منشآت “أرامكو” في بقيق وخريص لهجوم كبير بالطائرات المسيّرة والصواريخ، اتهمت الولايات المتحدة إيران بالوقوف خلفه، لكنها لم تحرك ساكنًا.
اليوم، يجد الخليجيون أنفسهم أمام سؤال جوهري: هل لا تزال الولايات المتحدة حليفًا يمكن الركون إليه؟ الاتفاق السعودي ـ الباكستاني يبدو كإجابة عملية على هذا السؤال، إذ يعكس توجهًا جديدًا لإعادة رسم خريطة التحالفات العسكرية في المنطقة. لكن تبقى هناك فرضية لا يمكن تجاهلها: واشنطن قد تتحرك إذا رأت في هذا التحالف تهديدًا مباشرًا لمصالحها أو لمصالح “ابنتها المدللة”، إسرائيل. حينها، سيكون الموقف الأميركي أكثر وضوحًا، مع ما قد يستتبعه ذلك من ردود فعل سعودية وباكستانية لا تقل حدة.
تحالف استراتيجي يعزز النفوذ الإقليمي للسعودية وباكستان
ما يميز اتفاقية 2025 بين السعودية وباكستان هو تحويل التحالف التاريخي بين البلدين من علاقة غير رسمية إلى اتفاق دفاع مشترك رسمي، يُلزم باكستان بالدفاع عن السعودية عند الحاجة. وبموجب هذا الاتفاق، يُفترض ألا تتمكن باكستان من اتخاذ مواقف مماثلة لتلك التي شهدناها في 2015، إذ يربط النص المكتوب أمنها مباشرة بأمن السعودية. بالطبع، لكل اتفاق شروطه الخاصة والتزامات محددة، لكن الإطار العام يشير إلى أن باكستان ستكون أكثر التزامًا بالدفاع عن السعودية مقارنةً بالماضي
من جانب آخر، الاتفاقية ليست أحادية الجانب، فهي تلزم السعودية أيضًا بالدفاع عن باكستان، وهو ما يضع التحالف في سياق جيوسياسي أوسع. وبما أن احتمال تعرض باكستان لأي اعتداء مباشر يبقى محدودًا عادةً على الهند، عدوها التقليدي، وأقل احتمالًا من مناوشات محتملة مع إيران، فإن هذا التحالف يفتح أبوابًا لتأثير مباشر على علاقة السعودية بكل من الهند وربما إسرائيل، وهو موضوع يكتنفه التعقيد ويحتاج إلى شرح مفصل لاحق.
مظلة نووية أم غموض استراتيجي؟ السعودية وباكستان تحت المجهر

حتى الآن، لا توجد إجابة قاطعة على هذا السؤال. النصوص المعلنة للاتفاق لم تشر بوضوح إلى أي التزام بتوفير مظلة نووية سعودية من باكستان، كما أن الاتفاق لم يُنشر بالكامل بعد، وقد تتضمن النسخة الكاملة ملاحق سرية. من جهة أخرى، وزير الدفاع الباكستاني صرح يوم الجمعة الماضي بأن “البرنامج النووي الباكستاني سيكون متاحًا للسعودية إذا دعت الضرورة”، لكنه أضاف في تصريحات أخرى أن المظلة النووية ليست مطروحة على الرادار ضمن هذا الاتفاق.

يرى بعض المحللين أن البلدين فضلا إبقاء مساحة من الغموض حول هذه النقطة الحساسة. وفي جميع الأحوال، يظل الاتفاق تطورًا مهمًا في حد ذاته، حتى وإن لم يتضمن مظلة نووية، خصوصًا أن استخدام السلاح النووي يبقى أمرًا يصعب تصوره عمليًا لما ينطوي عليه من تبعات كارثية. وما يبرز هو أن باكستان أظهرت استعدادًا للتزام دفاعي قوي تجاه السعودية، وهو ما يعكس مستوى جديدًا من الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
في كل الأحوال، الاتفاق لا يمثل مجرد حدث عابر، بل تطورًا إستراتيجيًا سيقود إلى مزيد من الاتفاقيات والتحالفات المشابهة في المنطقة، ما يعني أننا أمام مرحلة جديدة تُرسم ملامحها بأدوات مختلفة عما اعتدناه في العقود الماضية.

اترك رد

عاجل