التحوّلات العملياتية في السلوك العسكري الإسرائيلي داخل سورية

التحوّلات العملياتية في السلوك العسكري الإسرائيلي داخل سورية: تحليل للخروقات الجوية والبرية بين شهري أيار وتموز 2025

فريق التحرير23 سبتمبر 2025آخر تحديث :
نوار شعبان
الحدود في الجولان السوري المحتل – Getty

مقدمة

نوار شعبان – باحث في المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة

تمثّل الفترة الممتدة من أيار/ مايو حتى تموز/ يوليو 2025 مرحلة مفصلية، في مسار التفاعلات الأمنية بين إسرائيل وسورية، في ظلّ ديناميكيات متشابكة فرضتها تحولات القيادة السياسية السورية، وتبدّل أنماط الانتشار العسكري على مستوى الخارطة الوطنية، لا سيّما في المناطق الجنوبية. وقد اتّسم السلوك العسكري الإسرائيلي خلال هذه المرحلة بتكثيف الخروقات عبر مقاربة عملياتية مزدوجة، جمعت بين الضربات الجوية التي استهدفت ما تبقى من قدرات دفاعية سورية، والتحركات البرية الرامية إلى فرض واقع أمني جديد، خصوصًا في محافظتي القنيطرة ودرعا، حيث استغلّت تل أبيب حالة الفراغ الأمني لتعزيز حضورها، على حساب السيادة السورية.

تركّز هذه الورقة على تحليل تلك الانتهاكات خلال الأشهر الثلاثة المذكورة، من خلال إبراز خصائصها الميدانية وتطورها الزمني، وربطها بالسياقَين الإقليمي والداخلي المتغيرين. وتهدف إلى استخلاص أنماط التدخل الإسرائيلي ودلالاتها في ما يتعلق بإعادة رسم حدود الاشتباك، إلى جانب استشراف الخيارات المتاحة أمام الحكومة السورية الانتقالية، سواء عبر أدوات سياسية ودبلوماسية أو من خلال تعزيز آليات التوثيق والمساءلة، في ظلّ محدودية القدرة على المواجهة العسكرية المباشرة.

أولًا: الاستهدافات الجوية

بدأت إسرائيل مرحلة جديدة من العمليات الجوية داخل سورية، مع سقوط النظام السوري في كانون الأول/ ديسمبر 2024، استهدفت خلالها في الأشهر الأولى من عام 2025 مجموعة واسعة من المواقع العسكرية والمستودعات الدفاعية، ومن ضمنها نقاط كانت تتمركز فيها إيران سابقًا ومواقع تُشكّل بنى تحتية عسكرية تقليدية[1].

عكست هذه الاستهدافات توجّهًا إسرائيليًا لإفراغ المشهد الميداني السوري من أي تهديد كامن أو محتمل، في ظل حالة السيولة الأمنية والسياسية التي رافقت المرحلة الانتقالية. إلا أن شهر أيار/ مايو 2025 مثّل بداية لتحوّل ملموس في نمط هذه الضربات، سواء من حيث التوزع الجغرافي أو نوعية الأهداف؛ إذ توسّعت العمليات لتشمل مناطق جديدة، كالساحل السوري، وتغيّرت طبيعة الأهداف نحو بنى دفاعية أكثر حساسية. ويستعرض هذا القسم تطوّر هذه الضربات، خلال ثلاثة أشهر (أيار/ مايو، حزيران/ يونيو، وتموز/ يوليو)، كمدخل لفهم التغير التدريجي في قواعد الاشتباك التي بدأت إسرائيل بفرضها، في ظل غياب الفاعلين الإقليميين التقليديين وبروز ترتيبات أمنية محلية جديدة.

توسيع جغرافي وتحديث في نوعية الأهداف خلال أيار/ مايو 2025

شهد شهر أيار/ مايو 2025 تحوّلًا ملموسًا في نمط الغارات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية، سواء من حيث التوزع الجغرافي أو نوعية الأهداف المستهدفة. ففي ليلة 2 أيار/ مايو، نُفّذت سلسلة من الضربات الجوية على مواقع عسكرية واسعة الانتشار، وشملت الضربات أربع غارات على محيط مستشفى تشرين العسكري والفوج 41 على طريق برزة–حرستا، وغارات على موقع في ريف حماة الشمالي بالقرب من بلدة شطحة[2]، إضافة إلى مواقع عسكرية في مدينة إزرع ومنطقة موثبين، بمحافظة درعا.

استهدفت الغارات بشكل مباشر منصات صواريخ أرض-جو، ومدافع مضادة للطائرات، وتجمعات للدبابات، ما يشير إلى محاولة تعطيل البنية الدفاعية المرتبطة بقدرات الردع الأرضي في مناطق متعددة. وسقط في الغارات ضحايا مدنيون نتيجة قرب الأهداف العسكرية من مناطق سكنية، مما يعكس استمرار الإشكالية المرتبطة بتداخل الأهداف العسكرية والمدنية في السياق السوري، وفي ليلة 30 أيار/ مايو، عادت إسرائيل لتكثيف نشاطها الجوي مستهدفة مواقع في محافظتي اللاذقية وطرطوس، حيث قصفت مستودعات أسلحة، يُعتقد أنها تحتوي على صواريخ أرض-بحر قرب قرى زاما وبرج إسلام، إضافة إلى مناطق قريبة من مرفأ طرطوس وريف جبلة[3].

يُظهر سلوك إسرائيل خلال أيار/ مايو تغيرًا ملحوظًا، مقارنة بالأشهر الأولى من عام 2025، إذ كانت الغارات خلالها أكثر تركيزًا على أهداف مرتبطة بنقل السلاح أو بمراكز عمليات لإيران أو حزب الله، ضمن نطاقات جغرافية محدودة (غالبًا في جنوب دمشق أو على الحدود السورية اللبنانية). في المقابل، شهد أيار/ مايو انتقالًا واضحًا نحو توسيع نطاق العمليات ليشمل الشمال والجنوب والساحل، مع تصعيد في نوعية الأهداف لتشمل بنى تحتية دفاعية ساحلية ومنصات تهدد أمن الملاحة البحرية. يعكس هذا التحوّل سعيًا إسرائيليًا لتوسيع نطاق “الخطوط الحمراء” التقليدية، مع اعتماد مبدأ الاستهداف الاستباقي متعدد الاتجاهات، بوصفه أداة مركزية في إعادة ضبط التوازنات العسكرية داخل سورية بعد تغير المعادلات الداخلية.

تطور نمطي للهجمات الجوية الإسرائيلية خلال حزيران/ يونيو 2025

شهد الجنوب السوري، في مطلع حزيران/ يونيو 2025، سلسلة من الضربات الجوية التي نفذتها إسرائيل، تُعدّ الأولى في المنطقة منذ نحو شهر، كردة فعل على إطلاق قذيفتين من الأراضي السورية سقطتا في مناطق مفتوحة من هضبة الجولان المحتلة، من دون حدوث أضرار ملموسة. تم تنفيذ الهجوم الإسرائيلي في ليلة 3-4 حزيران/ يونيو، واستهدف مواقع عسكرية للحكومة السورية في الجنوب ومحيط دمشق، حيث شملت الضربات مخازن أسلحة ومواقع دفاع جوي، إضافة إلى قصف مدفعي استهدف أراضٍ زراعية في منطقة حوض اليرموك قرب الحدود. وقد فسّرت إسرائيل هذه العمليات بأنها رد تصعيدي لتحييد التهديدات الناجمة عن المقذوفات التي أطلقت من الطرف السوري[4]، محمّلةً الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع مسؤولية مباشرة عن أي تهديد ينطلق من الأراضي السورية تجاه إسرائيل. من جانبها، أدانت دمشق الغارات ووصفتها بأنها تسببت في خسائر بشرية ومادية، مشيرة إلى أن الجهات التي أطلقت المقذوفات قد تكون فصائل غير منضبطة ترتبط بإيران[5]، الأمر الذي يُستغلّ للتصعيد في ظل محاولات دبلوماسية رفيعة المستوى خلال الفترة السابقة، مثل اللقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في أوائل أيار/ مايو 2025، والاتصالات المباشرة بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين بوساطات دولية.

يعكس سلوك إسرائيل في حزيران/ يونيو تحوّلًا من الضربات المسبقة إلى ردود فعل مشروطة بالأحداث الحدودية، مع استثمار هذه اللحظات لإعادة تعريف قواعد الاشتباك، ولا سيّما مع وجود مسارات دبلوماسية موازية، وتُبرز هذه الوقائع مزيجًا من التقدير الأمني الدقيق والسعي لتوسيع السيطرة العملياتية، من دون المجازفة بتصعيد واسع النطاق.

تكثيف استهداف البنية العسكرية وانتقائية التدخل خلال تموز/ يوليو 2025

نفذت القوات الجوية الإسرائيلية، ابتداءً من 16 تموز/ يوليو 2025، سلسلةً من الضربات استهدفت تشكيلات وآليات عسكرية تابعة للقوات السورية، توزعت على نطاق جغرافي واسع شمل أطراف محافظة السويداء، وريف درعا، وصولًا إلى العاصمة دمشق. تضمّنت الأهداف مواقع ذات طابع استراتيجي، من بينها مبنى هيئة الأركان ومحيط منطقة قطنا، وأسفرت الضربات عن خسائر بشرية موثقة: ثلاثة قتلى مدنيين و34 مصابًا، وفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الصحة السورية[6]، وتركّزت تلك الضربات على البنية التحتية العسكرية النظامية[7]، حيث مراكز القيادة ومواقع التخزين والتحرك، وهو ما يتسق مع أنماط سابقة من الاستهداف المرتبط بمراقبة وتعطيل تحركات الجيش النظامي أو ما تبقى من هياكله، بعد سقوط السلطة المركزية. في المقابل، غاب التدخل الإسرائيلي خلال أحداث 18 تموز/ يوليو التي شهدت اشتباكات مسلحة بين مجموعات عشائرية وميليشيات محلية داخل محافظة السويداء، في ظل غياب تام للوجود العسكري الحكومي.

يسلّط هذا التباين الضوء على الطابع الانتقائي للتدخلات الإسرائيلية، حيث تُوجَّه الضربات إلى الفاعلين النظاميين أو ذوي البنية العسكرية الرسمية، في حين تُترك النزاعات المحلية لتأخذ مسارها من دون تدخل. ويُفهم من هذا السلوك أن الاعتبارات الإسرائيلية لا تُبنى على معايير متعلقة بحماية المدنيين أو الاستقرار المحلي، بل تستند إلى تقييمات أمنية ترتبط بتموضع القوى المسلحة ومدى ارتباطها بمصادر تهديد محتملة، على المستوى الحدودي أو الإقليمي[8].

الخريطة (1)

الخريطة (2)

ثانيًا: الانتهاكات البرية في الجنوب السوري

برزت الانتهاكات البرية الإسرائيلية كأحد أبرز مظاهر التوتر في جنوب البلاد، في سياق التصعيد الأمني الذي أعقب سقوط النظام السوري في كانون الأول/ ديسمبر 2024 [9]، لا سيّما في محافظتي القنيطرة ودرعا. وقد شهدت الفترة الممتدة بين شهري أيار/ مايو وتموز/ يوليو 2025 سلسلة متصاعدة من الخروقات الميدانية، تمثلت في توغلات عسكرية متكررة، وعمليات اعتقال، وتموضع ميداني في مناطق قريبة من خطوط وقف إطلاق النار، فضلًا عن الأنشطة الهندسية التي غيّرت من طبيعة المشهد الجغرافي الحدودي.

يستعرض هذا القسم طبيعة هذه الانتهاكات، خلال الأشهر الثلاثة المذكورة، من خلال تقسيمها الزمني، وتحليل أنماطها الميدانية، ومدى تأثيرها في الواقع الأمني والاجتماعي في المنطقة، بوصفها مؤشرات على تحوّل متدرج نحو تثبيت واقع ميداني جديد، من قبل الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي السورية[10].

الانتهاكات البرية الإسرائيلية وإشارات التموضع في جنوب سورية خلال أيار/ مايو 2025

شهد شهر أيار/ مايو 2025 تصاعدًا في الأنشطة البرية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، داخل الأراضي السورية، ولا سيما في مناطق محافظتي القنيطرة ودرعا. فقد شملت هذه التحركات عمليات توغل ضمن عدد من القرى والبلدات الحدودية، كمدينة السلام، الصمدانية الشرقية، جباتا الخشب، مجدوليا، ومعربة، وهو ما يشكل خرقًا واضحًا لخطوط وقف إطلاق النار. وقد رافقت هذه التوغلات إجراءات ميدانية مباشرة، تضمنت تفتيش المنازل واستجواب السكان.

واتخذت القوات الإسرائيلية خطوات تُشير إلى نية تموضع في تلك المناطق، مثل إقامة نقطة تفتيش في ريف القنيطرة الشمالي في 1 أيار/ مايو، وإغلاق مداخل بلدة حضر بسواتر ترابية، إضافة إلى تنفيذ توغل في منطقة تلال الحمر بين بيت جن وحضر. ومن جهة أخرى، بدأ في هذا الشهر نشاط هندسي إسرائيلي في مناطق حدودية سورية تمثّل في إزالة الأشجار والعوائق الطبيعية، وتجريف أراضٍ قرب بلدة حضر وتحويلها إلى مناطق مكشوفة، ما يعكس محاولة لتحسين القدرات الميدانية والرؤية العملياتية في المناطق المتاخمة للحدود.

الانتهاكات البرية الإسرائيلية في جنوب سورية خلال حزيران/ يونيو 2025

شهد شهر حزيران/ يونيو 2025 تطورًا نوعيًا في طبيعة الأنشطة البرية الإسرائيلية داخل جنوب سورية، حيث اتخذت الانتهاكات شكلًا أكثر اندماجًا بين الردّ العسكري التكتيكي والعمليات الميدانية الوقائية. ففي أعقاب إطلاق قذيفتين من الأراضي السورية باتجاه مناطق غير مأهولة في هضبة الجولان المحتلة مطلع الشهر، باشرت القوات الإسرائيلية تنفيذ سلسلة من التدخلات العسكرية، شملت غارات جوية وتوغلات برية، تمركزت في محافظة درعا، لا سيما في محيط بلدة تسيل. وأسفرت هذه التحركات عن وقوع اشتباك محدود بين عناصر إسرائيلية ومجموعات من سكان البلدة، في حادثة تُعدّ من الحالات القليلة التي شهدت فيها هذه التوغلات مقاومة مباشرة من السكان.

في موازاة ذلك، واصلت القوات الإسرائيلية نمطها المتكرر في تنفيذ عمليات تجريف هندسية، ضمن المناطق المحاذية للحدود، لا سيما حول ثكنة المريعية العسكرية في منطقة “الهون” بحوض اليرموك، حيث أنشئت سواتر ترابية، وأدخلت تعديلات ميدانية على البنية الطبوغرافية للموقع. وتشير هذه الأنشطة إلى مسعى واضح لإعادة تشكيل البيئة الحدودية باتجاه نموذج أمني مغلق، يحدّ من حرية حركة السكان، ويُسهّل مراقبة التحركات داخل العمق السوري القريب.

وسُجلت خلال منتصف حزيران/ يونيو حوادث اعتقال محدودة، رافقت بعض هذه التوغلات، من بينها توقيف شابين في قرية كودنة في 14 حزيران/ يونيو، أعقبها مداهمة في قرية الحُرية في اليوم التالي، اقتصرت على عمليات تفتيش دون تنفيذ اعتقالات إضافية. وتُظهر هذه الإجراءات استمرار اعتماد إسرائيل على نمطٍ من التدخلات الاستخباراتية الميدانية منخفضة التصعيد، بهدف فرض الوقائع الأمنية من دون انخراط واسع في مواجهة مباشرة، وذلك في ظل غياب قدرة ردع محلية أو إقليمية فعالة ضمن نطاق الجنوب السوري.

تصاعد وتيرة الخروقات البرية الإسرائيلية في جنوب سورية خلال تموز/ يوليو 2025

شهد شهر تموز/ يوليو 2025 تصعيدًا ملحوظًا في حجم ونطاق الخروقات البرية التي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضمن مناطق ريفي القنيطرة ودرعا، حيث سجلت عشرات حالات التوغل، والاعتقال، ونصب الحواجز، وارتكاب اعتداءات بيئية ممنهجة، الأمر الذي يعكس تحولًا مقلقًا في نمط التدخل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، وتراجعًا في ضوابط الالتزام بخطوط وقف إطلاق النار.

على مستوى العمليات البرية، تنوّعت التوغلات بين اقتحام قرى مأهولة بالسكان (رسم الحلبي، بريقة، عين ذكر، الرفيد، وطرنجة..)، وتوغلات نوعية استهدفت مواقع عسكرية سورية سابقة كموقع الكتيبة الرابعة قرب نبع الصخر، والسرية التابعة للواء 112 قرب عين ذكر. وترافقت هذه التوغلات غالبًا مع نصب حواجز مؤقتة، وتفتيش السيارات والمنازل، واستجواب السكان، وتوثيق بياناتهم الشخصية عبر التصوير وجمع بيانات ميدانية، وهو ما يعكس وجود نشاط استخباراتي ميداني مكثف في هذه المناطق.

ونفّذت القوات الإسرائيلية عدة عمليات اعتقال تعسفي، شملت أكثر من 15 شخصًا، بينهم قاصرون، وتركزت هذه العمليات في قرى مثل رويحينة، كودنة، سويسة، والدواية الكبرى. وتمت معظم الاعتقالات من دون أي تهم أو مذكرات قانونية، وغالبًا ما انتهت بإخفاء مؤقت أو الإفراج بعد ساعات، مما يشير إلى استخدامها كأسلوب ترهيبي واستعراضي، أكثر من كونه إجراءً أمنيًا موجّهًا.

إلى جانب العمليات البرية، برزت ظاهرة متكررة تمثلت في إشعال حرائق متعمدة في الأراضي الزراعية والرعوية، كما حدث في مناطق الرفيد، بريقه وبئر عجم، حيث التهمت النيران مساحات شاسعة من المزروعات، في ظل عجز واضح من قبل قوات الأمم المتحدة عن احتواء هذه الحرائق، نظرًا لضعف الإمكانات اللوجستية. ورُصدت تحركات لجرافات إسرائيلية تقوم بأعمال تجريف وحفر سواتر ترابية، قرب قرى مثل رسم الرواضي وبئر عجم، ما يعزز فرضية وجود استعدادات هندسية لتوسيع رقعة التمركز العسكري أو إعادة تشكيل التوازنات الجغرافية في المناطق المحاذية لخط فض الاشتباك. من جهة أخرى، تكررت حالات إطلاق نار مباشر، كما في حادثة إطلاق النار من تل الأحمر الغربي باتجاه نظيره الشرقي، الأمر الذي ولّد حالة من الهلع في أوساط المدنيين، ورفع منسوب التوتر الأمني في القرى المحاذية.

تشير هذه المعطيات مجتمعة إلى تحوّل نوعي في مستوى النشاط الميداني الإسرائيلي داخل الجنوب السوري، سواء من حيث الكم أو النوع، بما يتجاوز الأطر التقليدية للمراقبة أو الاستطلاع، إلى نمط تدخل مباشر ومتعدد الأوجه. ويعكس هذا التصعيد محاولة لفرض وقائع أمنية جديدة على الأرض مستفيدة من الفراغات الأمنية الناتجة عن ضعف السلطة المحلية، بعد انهيار النظام السابق، إضافة إلى غياب أي ردع فعّال إقليمي أو دولي يحدّ من هذا السلوك التصعيدي.

ثالثًا: السيناريوهات المتوقعة لتحولات السلوك العسكري الإسرائيلي في سورية بعد تموز/ يوليو 2025

تشير المؤشرات الميدانية والسياسية، بين شهري أيار/ مايو وتموز/ يوليو 2025، إلى تحوّل نوعي في طبيعة التدخلات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، يقوم على الجمع بين التصعيد العسكري المباشر عبر الضربات الجوية والأنشطة البرية، وبين التموضع غير المباشر عبر استغلال الفواعل المحلية في مناطق رخوة أمنيًا. وتكشف هذه التدخلات عن انخراط مرن يتكيّف مع خصائص كل منطقة، حيث تستهدف الضربات الجوية مراكز الثقل العسكري والبنى الدفاعية التقليدية، في حين تتركّز التحركات البرية على محيط خطوط التماس الجنوبية، ضمن أنشطة استطلاع وتجسس وهندسة ميدانية تحمل طابعًا أمنيًا واضحًا.

ويبرز ملف محافظة السويداء في هذا السياق كجزء من هذه المقاربة الجديدة، لا كحالة منفصلة، إذ يجري فيه توظيف أدوات تدخل غير تقليدية، مثل الدعم اللوجستي لشبكات محلية مسلحّة، في إطار سياسة “التأثير عن بعد” التي تمكّن تل أبيب من تكريس نفوذها، من دون تدخل مباشر دائم. وتعكس هذه الأنماط توسعًا في أدوات السيطرة، وتُظهر تهديدًا متزايدًا لبنية السيادة السورية. ومن هنا، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار هذا السلوك في المرحلة المقبلة.

السيناريو الأول: ترسيخ مقاربة الاحتواء اللامركزي عبر أدوات محلية

قد تستمر إسرائيل في اتباع نهجها الانتقائي عبر الضربات الجوية والأنشطة البرية، مع توسيع الاعتماد على فواعل محلية لضبط الواقع الأمني، خصوصًا في السويداء وبعض قرى القنيطرة، وذلك دون الدخول في مواجهة مباشرة مع القوى المجتمعية الكبرى أو مع قوات وزارتي الدفاع والداخلية السورية. ويهدف هذا النمط (من منظور إسرائيلي) إلى تعظيم النفوذ بأقل كلفة عملياتية. إلا أنّ هذه المقاربة تحمل في جوهرها مخاطر على الاستقرار السوري، إذ تُرسّخ التدخل الخارجي، وتضعف فرص بناء منظومة أمنية وطنية مستقلة في مرحلة انتقالية يغلب عليها الغموض السياسي.

السيناريو الثاني: تكثيف العمليات العسكرية الاستباقية ضمن قواعد اشتباك جديدة

في هذا السيناريو، قد تُصعّد إسرائيل من عملياتها عبر توسيع نطاق الضربات جغرافيًا، وتنوع طبيعة الأهداف، بحيث تشمل مواقع قيادية وعسكرية كبرى، إلى جانب استمرار التوغلات البرية وتعزيز النشاط الاستخباراتي في الجنوب. ويستند هذا النمط (من منظور إسرائيلي) إلى قراءة مفادها ضعف الردع السوري، وغياب توافق دولي على خطوط حمراء واضحة، ما يفتح المجال أمام تل أبيب لمحاولة فرض تعريف جديد لحدود تدخلها داخل سورية. غير أن هذا التصعيد، إن تحقق، يكرّس اختلال السيادة السورية، ويضاعف من تعقيد المشهد الأمني، ويحمل مخاطر انزلاق المنطقة إلى مواجهة أوسع، تتجاوز الحسابات التكتيكية لإسرائيل.

السيناريو الثالث: ضبط السلوك العسكري ضمن صفقة إقليمية مؤقتة

يفترض هذا السيناريو احتمال دفع ضغوط دولية أو تفاهمات مع الدول الراعية للمرحلة الانتقالية نحو تسوية مؤقتة تُقيّد النشاط العسكري الإسرائيلي، مقابل التزام سوري غير مباشر بعدم السماح بتموضع فصائل يُنظر إليها كتهديد للحدود. وعلى الرغم من أن مثل هذه الترتيبات قد تخفّف من حدة التصعيد العسكري على المدى القصير، فإنها تعكس استمرار التدخلات الخارجية في رسم معادلات الأمن السوري، وتؤجل بناء مقاربة وطنية مستقلة لمعالجة ملف الجنوب. ويبقى هذا المسار هشًّا، إذ إن غياب إطار تفاوضي شامل ومستدام يجعل أي تفاهمات مؤقتة عرضة للانهيار مع أول خرق أو تبدّل في موازين القوى.

خاتمة

يكشف تحليل التدخلات الإسرائيلية في سورية، بين أيار/ مايو وتموز/ يوليو 2025، عن مسار تصاعدي يتجاوز الأطر التقليدية للردع، من خلال توسيع رقعة الضربات الجوية وتكثيف الأنشطة البرية، خصوصًا في الجنوب، بما يفرض واقعًا ميدانيًا جديدًا يخدم أولويات تل أبيب على حساب السيادة السورية. ولم يقتصر هذا التدخل على استهداف القدرات العسكرية النظامية، بل تداخل أيضًا مع الترتيبات المحلية الناشئة (كما في السويداء)، عبر أشكال دعم غير مباشر لفواعل مسلحة محلية، ما يزيد من تفكك البنية الأمنية الوطنية.

هذه التحولات تمثّل تحديًا مركّبًا أمام الحكومة السورية الانتقالية، التي تواجه قيودًا عملياتية تمنعها من الرد العسكري المباشر، وتفرض عليها اعتماد مقاربة بديلة متعددة المستويات. ويشمل ذلك تعزيز أدوات التوثيق القانوني لتكوين ملفات محاسبة مستقبلية، وتفعيل القنوات الدبلوماسية لإدراج هذه الانتهاكات ضمن الأجندات التفاوضية، إضافة إلى دعم المجالس المحلية في المناطق المتأثرة، ومنحها نوعًا من الحماية الرمزية للسيادة الوطنية، في ظل غياب أدوات الردع الصلبة.


[1] العمليات العسكرية الإسرائيلية في سورية بعد سقوط النظام 8-9 كانون الأول/ ديسمبر 2024، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، نشر في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، https://shorturl.at/GuTbv

[2] Al Jazeera, More Israeli strikes on Syria reported after Damascus warns of escalation, Published on 2 May 2025, https://shorturl.at/wAbn4

[3] سوريا.. قتيل وجرحى في قصف إسرائيلي استهدف 3 مواقع في اللاذقية وطرطوس، TRT Global، نشر في 30 أيار/ مايو 2025، شوهد في 28 تموز/ يوليو 2025، https://shorturl.at/1qWni

[4] Reuters, Israel strikes Syria after projectiles fired, holds Sharaa responsible, Published on 4 June 2025, https://shorturl.at/YHQVR

[5] الجزيرة، توتر الجنوب السوري.. ماذا وراء القصف المتبادل بين “كتائب محمد الضيف” وإسرائيل؟، نشر في 5 حزيران/ يونيو 2025، شوهد في 29 تموز/ يوليو 2025، https://shorturl.at/sLUsy

[6] عدوان إسرائيلي عنيف على دمشق.. ثلاثة قتلى و34 مصابًا، العربي الجديد، نشر في 16  تموز/ يوليو 2025، شوهد في 18 تموز/ يوليو 2025، https://shorturl.at/p5NCq

[7] توضح الخريطة (1) تفصيل الضربات الاسرائيلية التي استهدفت العاصمة دمشق وريفها في 16 تموز/ يوليو 2025، فيما توضح الخريطة (2) أبرز الغارات التي استهدفت الجنوب السوري في 16 و17 تموز/ يوليو 2025.

[8] السويداء بين التدخل العسكري والفراغ الأمني: تموضع وانتكاس، المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، نشر في 20 تموز/ يوليو 2025، https://shorturl.at/JurgX

[9] خريطة تحليلية: التوغل الإسرائيلي في سورية بعد سقوط نظام الأسد، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، نشر في 11 كانون الثاني/ يناير 2025، https://shorturl.at/l6ami

[10] تم إجراء ثلاث مقابلات مع ناشطين ميدانين في منطقة القنيطرة بتاريخ 22 و23 تموز/ يوليو 2025، ومقاطعة معلوماتهم مع ما تم نشره في وسائل الإعلام الموثوقة، فيما يتعلق بالخروقات البرية لقوات الاحتلال الإسرائيلي.

المصدر المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة

اترك رد

عاجل