أحداث السويداء… مشروع للتقسيم الذي وُلد ميتاً

فريق التحرير 318 سبتمبر 2025آخر تحديث :
أحداث السويداء… مشروع للتقسيم الذي وُلد ميتاً

شهدت سوريا خلال الأشهر الماضية واحدة من أخطر المحطات في تاريخها الحديث، أحداث حملت في طياتها تهديداً حقيقياً لوجود الدولة السورية بشكلها الجغرافي والسياسي المعروف. ما عُرف لاحقاً بـ”أحداث السويداء” لم يكن مجرد حراك احتجاجي عابر، بل بدا منذ اللحظة الأولى جزءاً من مشهد أكبر، يختبئ خلفه مشروع إقليمي ودولي بالغ الخطورة.

قد يظن البعض أن تحليل ما جرى يتطلب الخوض في تفاصيل ميدانية أو استقصاءات قانونية، لكن ما سنقدمه هنا قراءة استراتيجية للتاريخ القريب، بحثاً عن جذور هذه الأحداث وأبعادها الحقيقية.

من أين بدأت الحكاية؟

إذا أعدنا عقارب الساعة إلى عام 2023، سنجد أن هناك ثلاثة أحداث مفصلية تمهد لفهم ما جرى:

أولاً: تعويم النظام المخلوع على الساحة العربية والدولية.
لم يكن خافياً أن النظام المخلوع بدأ يستعيد جزءاً من شرعيته الإقليمية، بعد أكثر من عقد من العزلة. حتى أن الإدارة الأمريكية، بقيادة بايدن، لوّحت برفع بعض العقوبات مقابل التزامات سرعان ما تكشفت خيوطها لاحقاً.

ثانياً: المظاهرات في السويداء.
تزامناً مع محاولات إعادة تأهيل النظام، اندلعت في السويداء مظاهرات اتخذت من “ساحة الكرامة” مركزاً لها. الغريب في المشهد أن توقيت هذه المظاهرات جاء في لحظة كان فيها الأسد يتلقى جرعة دعم سياسي جديدة، بينما لم تخرج مثلها في ذروة الاحتجاجات قبل سنوات. الأغرب من ذلك أن النظام لم يقمعها، ولم يبدِ أي انزعاج، بل بدا وكأنه يراقب بصمت، ما زاد من علامات الاستفهام.

إضافة إلى ذلك، برزت مشاركة الشيخ حكمت الهجري ودعمه لهذه المظاهرات، رغم تاريخه المعروف في التنسيق الوثيق مع أجهزة النظام. فما الذي تغيّر؟

ثالثاً: عرض إنشاء إقليم سني في الشمال.
تصريحات الرئيس أحمد الشرع كشفت عن عرض لإنشاء إقليم سني بقيادته في شمال سوريا، وهو تطور خطير يشي بمخطط تقسيمي كان يُطبخ على نار هادئة.

خريطة التقسيم: من السويداء إلى القامشلي

عند جمع هذه الخيوط، يتضح أن هناك توافقاً دولياً، تقوده واشنطن وتل أبيب، على تقسيم سوريا إلى أربعة أقاليم:

إقليم سني في الشمال.

إقليم درزي في الجنوب.

إقليم كردي في الشمال الشرقي.

إقليم مركزي للنظام في الوسط والساحل.

وثيقة “المناطق الثلاث” (القريا في السويداء، درعا، وريف حلب الشمالي) عززت هذه الشكوك. فبينما ظهرت الوثيقة بمظهر المبادرة للحل، حملت في مضمونها فكرة أن الحل لا يمكن أن يكون ضمن إطار الدولة السورية الموحدة.

أما الشيخ الهجري، فكان يسعى لتحقيق حلم الزعامة المطلقة، ولو على حساب أبناء طائفته، في مشروع يشبه “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة أنطوان لحد، لكن بثوب جديد على أرض السويداء.

معركة ردع العدوان: لحظة قلب الطاولة

ما لم يكن في الحسبان هو دخول معركة “ردع العدوان” التي قلبت كل الموازين. لو نجح مشروع التقسيم لكان الشرق الأوسط اليوم على موعد مع خرائط جديدة تطال حتى العراق وتركيا وربما إيران.

تركيا، التي أظهرت مرونة غير مسبوقة تجاه الأسد بضغط روسي إيراني، لم يكن ذلك حباً ولا ضعفاً، بل كان في إطار منع المشروع التقسيمي. فبالنسبة لأنقرة، بقاء الأسد في دولة موحدة أفضل من تقسيم سوريا. روسيا وإيران شاركتا هذا التوجه، وضغطتا على النظام للقبول بحل سياسي مع المعارضة، لكن تعنت الأسد وغروره جعله يرفض، وهو ما يفسر امتناع الحلفاء عن دعمه في تلك المعركة المصيرية.

أما الهجري وحلفاؤه في تل أبيب، فقد كانوا الخاسر الأكبر. فإسرائيل التي كانت تراهن على إنشاء إقليم درزي يحمي حدودها الشمالية، أدركت أن مشروعها انهار، ما يفسر الضربات الجوية المكثفة التي استهدفت مواقع استراتيجية سورية في الأسابيع اللاحقة.

السويداء بعد الفشل: ماذا بقي؟

اليوم، وبعد سقوط المشروع، باتت إسرائيل تدرك أن لا خيار أمامها سوى التفاهم مع الحكومة السورية الجديدة لضمان أمن حدودها. أما حكمت الهجري، الذي باع كل القيم الوطنية والأخلاقية في سبيل زعامة وهمية، فقد جرّ أبناء طائفته إلى المحرقة، ليكتشف في النهاية أن كل رهاناته سقطت، وأن حلمه تبخر مع أول رياح الحقيقة.


الخاتمة: درس السويداء للعالم

أحداث السويداء لم تكن مجرد حراك محلي، بل كانت فصلاً في كتاب إعادة رسم الشرق الأوسط. المشروع سقط، نعم، لكن الدرس باقٍ: كل من يراهن على الخارج لصناعة زعامته سيجد نفسه في نهاية الطريق وحيداً أمام مرآة الفشل.
سوريا التي أرادوا تقسيمها خرجت من النفق، لتقول للعالم إن جذورها أعمق من كل المؤامرات، وإن حلم التقسيم لن يجد مكاناً على هذه الأرض.

اترك رد

عاجل