واشنطن لأنقرة: باقون في سوريا

عمر قدور3 سبتمبر 2024آخر تحديث :
واشنطن لأنقرة: باقون في سوريا

كان أهم ما جاء به حديث إيثان غولدريتش، المنشور في جريدة “الشرق الأوسط” بتاريخ 31/8/2024، أن قوات بلاده لن تنسحب من سوريا حالياً. غولدريتش يشغل منصب مساعد نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، وهو المسؤول عن الملف السوري في الخارجية الأميركية. وقد ربط في حديثه، وجود القوات الأميركية بعدم ظهور تنظيم داعش مجدداً، وهذا هدف يصعب التحقق من إتمامه، وتحت يافطته أكّد التزام إدارته بالشراكة التي تجمعها مع القوات المحلية “قسد”.

ومن المؤكد أن تأكيده على الالتزام بالشراكة مع قسد لا يسرّ أنقرة، بل إنه على الأرجح موجّه إلى مسؤوليها المواظبين على انتقاد الشراكة بين واشنطن والفرع السوري من حزب العمال الكردستاني. وأهمية التصريح تأتي من سحب واحدة من أهم أوراق التطبيع المنتظر بين أنقرة والأسد، فبوجود القوات الأميركية لن يستطيع الأسد الالتزام أمام أنقرة بمحاربة ما تعتبره إرهاباً كردياً. يُذكر أنه سبق لأنقرة أن أعلنت أربعة شروط للتطبيع التام النهائي، أحدها قيام الأسد بمكافحة الإرهاب وتأمين الحدود بين البلدين.

إذاً، بموجب تصريح غولدريتش، لن يكون هناك قرار مفاجئ يخص السياسة الأميركية في سوريا، خلال ما تبقى من عمر إدارة بايدن. بل يعني، أبعد من ذلك، عدم وجود تغيير في السياسة الأميركية حتى مجيء الإدارة الجديدة في مستهل العام المقبل، والتي ستعكف على إعداد طواقم عملها ومستشاريها الذين قد يقترحون سياسات جديدة أو الإبقاء على تلك القديمة. وبالطبع لا يشغل الملف السوري مكاناً ضمن الصدارة، ولا يُستبعد أيضاً أن يوضع كملحق لملف آخر ذي أولوية.

وكان بشار الأسد، في خطابه الأخير أمام مجلس الشعب، قد تراجع عن شروطه السابقة لقاء التطبيع مع أنقرة، وأفصح عملياً عن اكتفائه بإعلان أنقرة نيتها الانسحاب من أراضٍ سورية، بينما كان من قبل قد اشترط الانسحاب قبل التطبيع. وفي الفترة نفسها كانت التصريحات التركية المتعلقة بلقاء يجمع بين أردوغان وبشار قد تراجعت، وأعلنت أنقرة شروطها الأربعة لإتمام التطبيع، ومنها إقرار دستور سوري جديد وإجراء انتخابات حرة، وضمان العودة الطوعية الآمنة للاجئين ووصول المساعدات، إضافةً إلى شرط مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود.

للوهلة الأولى، يوحي تبدل المواقف في الجانبين، بوجود تناوب على التشدد إزاء التطبيع، ما شجّع على افتراض أن تكون طهران وراء تشدد الأسد، بينما تدفعه موسكو نحو الاعتدال. الافتراض ذاته يضع أنقرة في موقع ردّ الفعل، ومن ضمن سيناريو تتنافس فيه مع طهران على الأسد وتعويمه، وترث ما كان يُحكى عن التطبيع العربي معه، إلا أنه سيناريو عديم الانتباه إلى التأثّر الأكبر للموقف التركي بالتطورات الأميركية.

تزامنت الاندفاعة التركية تجاه الأسد مع تقدّم المرشح الرئاسي ترامب في استطلاعات الرأي الأميركية، ومن المعلوم أن ترامب في ولايته الرئاسية الأولى كان من أنصار الانسحاب من سوريا، وقد أعلن عن ذلك مرتين على الأقل، قبل التراجع، لأن للدوائر العسكرية والاستخباراتية رأياً آخر. الشائع في الولايات المتحدة، منذ ترشّحه مجدداً، أن ترامب لن يهادن العديد من المؤسسات التي هادنها سابقاً، ما يشجع على الاعتقاد بأن قراراً كالانسحاب من سوريا قد يكون من أسهل ما يعارض به توجهات المؤسسة الأمنية والعسكرية.

من المعلوم أيضاً أن بوتين يحظى بتقييم إيجابي لدى ترامب غير المتحمس مثلاً لدعم أوكرانيا في الحرب، وقد لا يمانع في تقديم هدية صغيرة للأول من نوع الانسحاب من سوريا. أما موقف ترامب الحازم من إيران فيبعده عن المساومة معها، وقد قطع عملياً خط التفاوض بانسحابه من الاتفاق النووي. وفق ذلك، لا يكون الملف السوري جزءاً من ملف تفاوضي بين واشنطن وطهران، لأن المفاوضات لن تكون قائمة علناً، أو سراً على النحو الذي حدث أيام أوباما، ثم أيام بايدن.

فَرمَلتْ كامالا هاريس تقدّم ترامب في استطلاعات الرأي، بعدما تنحى بايدن عن ترشيح الحزب الديموقراطي لصالحها، ولا يُعلم حتى الآن ما هو توجهها في العديد من الملفات. لكن، إذا استأنفتْ سياسة الديموقراطيين التي بدأت مع أوباما واستمرت مع بايدن، سيكون الملف السوري تابعاً إلى حد كبير للمفاوضات مع إيران، ولا يُستبعد بالطبع أن يتأثر بتطورات الحرب في أوكرانيا. في كل الأحوال، لن يكون ثمة جديد أميركي في الملف السوري إذا فازت هاريس، على الأقل في شهور اختبارها الأولى.

لقد صار دارجاً أن تُعزى رغبة التطبيع التركية إلى حسابات انتخابية داخلية، وما لم يتم الاتفاق على تقديمها فإن الانتخابات المقبلة مقررة في العام 2028، أي أنها غير ضاغطة حالياً. والأقرب إلى الواقع أن سياسات الحكومة التركية في سوريا لا يحكمها مزاج الناخب، بتقلباته وخضوعه للدعاية، وإنما تحكمها موازين القوى، وأهمها الوجود الأميركي في سوريا الذي أعاق فعلياً العديد من تطلعات أنقرة المتعلقة بالقضاء على حزب العمال الكردستاني. يُذكر أن أنقرة، على أعلى المستويات، حاولت قبل شهور تسويق فكرة حرب قاصمة للحزب، داخل تركيا وعلى جبهتي العراق وسوريا، إلا أنها لم تنل رضا إدارة بايدن في سوريا، ورضا طهران في العراق.

في الواقع، إذا استثنينا الخلاف التركي-الأميركي حول حزب العمال، تنسجم الشروط التركية تماماً مع الشروط الأميركية للتطبيع مع الأسد. فإدارة بايدن دأبت على ربط التطبيع بالمضي في تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، ولا تمانع جدياً في أن يبادر الآخرون إلى التطبيع مع الأسد، طالما بقي ذلك تحت سقف العقوبات الأميركية، سواء تشددت الإدارة أو تراخت في تطبيقها، ومن نافل القول أنها تمسك جيداً بورقة العقوبات التي لا تقل أثراً عن التواجد العسكري.

ولا يُستغرب أن يكون التطبيع التركي مع الأسد مدعوماً بتساهل أميركي، لأن إمكانية التساهل هنا واردة أكثر مما كانت عليه مع التطبيع العربي. فتركيا بلد مجاور، ما يمنحها القدرة على التعامل مع الأسد بموجب صفقات اقتصاد الظل، أي التهريب. وفي ما مضى، أيام العقوبات الاقتصادية على صدام حسين، لعبت تركيا الدور ذاته بالتعاون مع حافظ الأسد وبموافقة ضمنية أميركية، ولعبته أيضاً لتخفيف وطأة العقوبات الغربية على إيران.

في الجانب المقابل، لن يحصل الأسد على تطبيع مجاني، فهو سيطبّع عملياً مع المناطق السورية الخارجة عن سيطرته، والتي ستعبرها الشاحنات التجارية ذهاباً وإياباً. أي أن العملية كلها على الأرجح لن تكون في اتجاه تسوية نهائية في سوريا، وإنما ستكون نوعاً من التطبيع مع انعدام التسوية. وإذا تجاهلنا في ما سبق العاملَ الإسرائيلي، فربما تنبغي الإشارة إليه مع الأخبار الإسرائيلية عن حفر أنفاق في سوريا، الهدف منها إنشاء كوريدورات عبر الحدود اللبنانية إلى معاقل حزب الله وتهريب الأسلحة الإيرانية، والتقرير الذي نشرته جريدة “معاريف” الإسرائيلية، الجمعة، يشير إلى شبكة واسعة جداً من الطرق والأنفاق.

وإن صحّ تقرير “معاريف” فسيكون ما تحت الأرض من نصيب الشاحنات الإيرانية، بينما تنال الشاحنات التركية نصيباً فوق الأرض. أما السماء فهي خاضعة لتفاهمات تمنع الاصطدام بين الطيران الأميركي والروسي والتركي. هذه وصفة أسوأ بكثير من أن تكون مؤقتة!

المصدر المدن

اترك رد

عاجل