الهروب من الواقع عرضٌ عادي من أعراض العجز، من أعراض اليأس، والقصور ربّما، ولكنَّه عرضٌ خطيرٌ لأنّه قادرٌ على إعادة إنتاج نفسه بصورة مدهشة؛ فالعاجز عادةً يُرضِي ذاته العاجزةَ بالمساهمة في ظاهرةٍ خطيرةٍ، صنعها العجز نفسه، هي ظاهرة الهجوم على العمل، وصولاً إلى الاستخفاف بالعمل، وتحطيم من يفكّر في عملٍ ما. العجز نفسه، في واحدٍ من أكثر معانيه أهمّيةً، فقدانُ الإيمان بقيمة العمل في التغيير، وانتظار فعل الدول، أو انتحاريين جسورين، أو المعجزة. العمل في سورية بحثٌ عن واقع ملائم، والعجز هروبٌ من واقعٍ غيرَ ملائم. مصيبة العجز، وخطورته، أنّه يُلغي محاولاتِ العمل، ولولا ذلك لما كان العجز عجزاً؛ فليس للعجز من آليةٍ للتعبير عن وجوده سوى أنّه ينهي الفِعل الحرّ، ويُحوِّل العاجزَ مفعولاً به، أو قاصراً بصورة أو بأخرى. ولهذا القصور طرائق كثيرة للتعبير عن وجوده، ولكنّ أبرزها تسفيه غير القاصرين بحُجَّة أنّ مشكلاتنا أكبرُ منَّا، وعلينا أن ننتظر من يتولّى أمرنا ويحلّها (يعني الدول الأخرى)، وإلى حينه، كلّ عملٍ لا قيمة له، ولا يُقاوِم العجزَ الجاثمَ على الوضع الراهن إلا الفعلُ في دائرة الممكن الباقي بين أيدينا، أي فعلُ الذي لم يتمكّن العجزُ منه إلى الآن، بل وتضخيم هذا المُمكن وتوسيع حدوده وصولاً إلى واقعٍ جديدٍ. الفعل الذي لا ينال منه العجز أبداً هو البحث عن واقعٍ جديدٍ ملائمٍ، هذا البحث يبدأ بالفكرة، بالتفكير، وابتكار الجديد المُمكن الذي نستطيع القيام به. وربّما نقول إنّه يبدأ بالقبول، عن طيب خاطر، بأنّ العجزَ لا يقف متفرجّاً أمام أيّ عملٍ فيه شيء من ابتكار، بل يعمل في تقوية ذاته، ومَدِّ نفوذه بوساطة عديد من السوريين الذين باتوا لا يفعلون شيئاً إلّا الهجوم على الذين يعملون. وهؤلاء كلّهم من العاجزين أمام هول ما حدث كلّه، أو منهجيّاتهم عاجزة. ومع أنّ نيّاتهم في غالبية الأحيان طيّبة، إلّا أنّهم ناقمون على الأعمال؛ والأعمال هي التي تكون بالنيّات، أمّا محاربة العمل فلا علاقةَ تربطها بالنيّات إلّا عرضاً، لأنّ علاقتها الوثيقة والعضوية تظلّ مع فقدان الأمل، واستفحال الشعور بالخسارة، والعجز أمام الواقع. واستناداً إلى ذلك، قد نقول إنّ الأفعال الجيّدة كلّها تبدأ من فعل التفهّم، أو من حمل النفس على التفهّم، تفهّم هجوم “الذين لا يعملون” على “الذين يعملون من أجلهم”، بوصفه هجوماً طبيعياً يأتي بعد أن قضى العجز على فعل المبادرة، ولم يبق له إلّا أن يُجهِز على العمل، وأيّ ظاهرةٍ فيها فِعل. ولذلك لا ينبغي أن نأخذ أيَّ هجومٍ يشنّه “سوريٌ لا يعمل” على “سوري يعمل” في سياقٍ شخصي، فنبني ردَّة فعلٍ، وهجوماً مضادّاً من النوع نفسه، بل الأجدى، والأصح، أن نراه عرضاً عادياً من أعراض العجز السوري وانتشاره الذي لا يداويه إلّا مزيدٌ من ثلاثة: العمل، والفعل، والتفهّم.
على النُخّبة السياسية السورية أن تكف عن الحرب الشعواء التي تشنّها على التلقائية السورية باسم النقد
في هذا السياق، قد نقول أيضاً إنّنا لا نزال نثور وكأنّنا آخرون، أو نقلّد الآخرين، كأنّنا ماركسيون، أو حداثيون، وما إلى ذلك. ومن جهةٍ أخرى، نحن لا نزال نثور هُووياً، عرباً، أو مسلمين، أو مسيحيين، أو دروزاً، أو أكراداً، أو إلى ما هنالك من هذا القبيل. الوقتُ قد حان لكي نكفّ عن تقديم أنفسنا بوصفنا مُقلّدين أو نمطيّين؛ فتقليد الآخرين فعلُ القاصرين الأثير على قلوبهم وأنفسهم، حتّى لو كان هؤلاء الأخرون أجداداً. يعني على الإسلاميين أن يفهموا أنّنا لا نثور في هذا الموضع لإعلاء كلمة الله، وعلى القوميين العرب أن يفهموا أنّنا لا نثور من أجل “أمّةٍ عربيةٍ واحدةٍ”، وعلى العلمانيين أن يفهموا أنّنا لا نثور بوصفنا غربيين، وعلى الأكراد أن يفهموا أنّنا لا نثور من أجل “روج آفا”، إلى ما هنالك. نحن نثور بوصفنا سوريين، شرق أوسطيين، يعيشون هنا، الآن (في الحاضر)، لديهم فرصةٌ تاريخيةٌ لتطوير أسلوبهم الخاص في توطين أنفسهم على الاختلاف في الوطن الواحد، وتطوير حداثتهم الخاصّة بهم من دون وصاية أحد. نثور بوصفنا توَّاقين، طموحين، حالمين، إلى مستقبلٍ حرٍ ومشرق لنا ولأبنائنا. أهم ما يعني ذلك هو أن تكف النُخّبة السياسية السورية (تحديداً المتعالية والقاصرة منها) عن الحرب الشعواء التي تشنّها على التلقائية السورية باسم النقد، لأنّ أكثرية هذا النقد “زعبرة” واستعلاء مريض؛ فالتلقائية السورية مادّة هذه الثورة السورية العظيمة منذ 2011. وإضعاف هذه التلقائية هو الذي يرجّح إمكان أن تتحوّل الثورة مُجرَّد حربٍ أهلية عبثية، بينما دعمها بالعقل والفكر والعمل هو الذي يجعل الثورة تنتصر. الحلّ يبدأ من إعلاء قيمة هذه التلقائية، وبناء فلسفة سياسية تستند إليها، تترجمها، وتعمل فيها فعل “بومة منيرفا” بعد أن يحلّ الظلام، أي بعد أن تأخذ الأحداث مداها الأقصى من التلقائية، ويرسم الواقع أحداثه كلّها. يعني الآن وفوراً، لأنّنا صرنا في ظلام حالك لم يعد ينفع البصر للمشي فيه، بل لا تنفع معه إلّا البصيرة.
نثور بوصفنا سوريين لديهم فرصةٌ تاريخيةٌ لتطوير أسلوبهم الخاص في توطين أنفسهم على الاختلاف في الوطن الواحد
وأيضاً، يمكن فهم التعصّب بوصفه عرضاً من أعراض العجز، وما يمكن أن نسمّيه “التناحة” في السلوك والنقاش بوصفها نوعاً من تصلّب الذهن الذي يصيب غالبية الذين “احترقت نفوسهم”؛ فالتعصّب هو الشكل الوحيد من أشكال الإرادة الذي يمكن تلقينه للضعفاء، ومن يشعرون بغياب الأمان (بتعبير نيتشه). وعليه، إنّ التعصّب هو إرادة العاجزين. هذا ليس دفاعاً عن التعصّب أو تسويغاً لوجوهه، لكنّها مقاربة موجهةٌ نحو أسمى فاعلية يمتلكها الذهن، وهي إيقاظ ذاته (بتعبير غوتّه).
يطرد العجز كلَ شعورٍ بالمسؤولية وينبذه، والعاجز يهرب من تحمل المسؤولية، ويميل إلى تحميلها غيره دائماً، ولأنّه يعرف أنّ هذا الـ”غير” يتمّ اختياره من الذين يعملون؛ فإنّه يهرب من العمل دائماً، ولكنّه مع ذلك يحرص على التصدّر تصدرَ مسؤولي “البعث”، وأعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. العجز هو التوجّس من العمل المُفيد، ومن ثمّ تأثيم أيّ فعلٍ إيجابي قد يساهم في مساعدة العاجزين.
مرةً، كان رجلا دينٍ يمشيان إلى جانب نهر، صادفا امرأةً يهدّدها الغرق، فحملها أحدهما حتّى عبر بها إلى برّ الأمان، وعاد ليكمل سيره مع رفيقه الذي بدا عليه عدم الارتياح، وسأله مستنكراً: كيف تقوم بحمل امرأةٍ وأنت رجل دين؟ فقال له: أنا حملتها إلى الضفّة، ووضعتها بأمانٍ هناك، وانتهى الأمر، أمّا أنت فلا تزال تحملها.
عذراً التعليقات مغلقة