لم يكن حسن نصر الله، الأمين العام لـ”حزب الله”، هو ذاته في الخطابين اللذين ألقاهما خلال أسبوع واحد، في 1 (أغسطس) 2024 ثم 6 منه، إذ كان الأول إبان تشييع فؤاد شكر، القائد العسكري في حزبه الذي اغتالته إسرائيل في 30 تموز (يوليو) الماضي في الضاحية الجنوبية في بيروت، والتي تعدّ بمثابة العاصمة لهذا الحزب، وتحدث فيه عن اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، في طهران، وهي عاصمة محور “المقاومة والممانعة” في 31 تموز (يوليو) 2024. أما الخطاب الثاني فجاء لمناسبة مرور أسبوع على اغتيال شكر.
في خطابه الأول، بدا نصر الله مأخوذاً باللحظة، أي لحظة تجرؤ إسرائيل على توجيه ضربتين كبيرتين في وقت واحد، في الضاحية الجنوبية وفي طهران ذاتها، ما يقوّض ادعاءات محور “المقاومة والممانعة” عن ردع إسرائيل، وإلزامها “قواعد اشتباك”، وتوازن رعب، وردع متبادل، إذ بدا أن إسرائيل لا تلوي على شيء، بل إنها تواصل حرب إبادة جماعية تشنّها ضدّ فلسطينيي غزة من دون أن تحسب لذلك المحور حساباً، ومن دون أن يستطيع ذلك المحور ترجمة شعاراته عن “وحدة الساحات” التي لم تستطع وقف عدوان إسرائيل، ولا كبح جماحها، ولا تقييد قدرتها على الاستمرار في الحرب، ناهيك عن التهديد بتوسيعها.
كل ذلك واجهه نصر الله في خطابه الأول بلغة غاضبة، وبلهجة التهديد والوعيد، مؤكّداً أن إيران ستردّ، و”حزب الله” سيردّ، و”أنصار الله” الحوثيين سيردّون. وحينها قال نصر الله إن على إسرائيل “انتظار ردّنا الآتي حتماً ولا نقاش ولا جدل وبيننا الأيام والليالي والميدان”.
لكن بعد أسبوع، وفي خطابه الثاني، بدا نصر الله غاية في الهدوء، إذ ضَمّن خطابه العديد من الرسائل، ربما أهمّها، أولاً، أن “محو الكيان من الوجود ليس هدفنا ولكن هدفنا منعه من الانتصار”، وأن الهدف من إسناد “حزب الله” لغزة هو وقف الحرب على غزة. ثانياً، أن إيران وسوريا ليس مطلوباً منهما المشاركة في الردّ، إذ يكفي الإسناد وتقديم الدعم، أي إنه أخلى مسؤولية إيران والنظام السوري، بمعنى أنه سحب إلزامه إيران بالردّ، مبرّراً الأمر بالحكمة، وعدم الانجرار وراء ما تريده إسرائيل. ثالثاً، أكّد نصر الله أن النصر على إسرائيل سيكون بمقاومة طويلة الأمد وبالتدريج.
طبعاً، المشكلة هنا لا تتعلق بما جاء في كلام نصر الله، فهو تحول إلى لغة واقعية وموضوعية، وإن كانت تبريرية، إنما المشكلة أن هذا الخطاب اختلف عن الخطابات السابقة التي درج عليها لعقدين، وأنه أتى من خارج المنظومة الدعائية التي روّجها “حزب الله” لصنع أسطورته، وهي ذات المنظومة التي تروّج لها إيران، في ما يتعلق بالاستخفاف بقوة إسرائيل، ومن ورائها، واعتبارها “أوهن من خيط العنكبوت”، مع التأكيد أن قوة إيران و”حزب الله” تستطيع أن تقوضها في غضون ساعات أو أيام عدة، وأن المقاومة لا يمكن أن تتوقف.
بيد أن هذا الخطاب حمل ادعاءات أخرى، إذ حاول نصر الله أن يقدّم حزبه من جديد، أو في صفحة جديدة، بمخاطبته اللبنانيين الذين استولى على دولتهم، وهيمن على كل مجالات حياتهم، بأن لا خوف عليهم من انتصار حزبه، في حين لا أحد يعرف كيف انتصر، وعلى من، في واقع تقوم فيه إسرائيل في كل يوم باغتيال واحد أو أكثر من قياداته أو كوادره، في لبنان وفي سوريا (بات العدد يزيد على 450)، مع تدميرها العديد من القرى والبلدات في جنوب لبنان، ونزوح نحو 100 ألف من قراهم وبلداتهم، في حين لا تقدّم لهم الدولة ولا الحزب ما يعينهم في محنتهم، في حين أن الإسرائيليين الذين تركوا بيوتهم ومستوطناتهم في الحدود مع لبنان، يحظون بتغطية شاملة من حكومتهم، مع أماكن إقامة في منتجعات أو فنادق أو بيوت.
الأهم من كل ذلك، أن نصر الله في هذا الكلام تناسى أن “حزب الله” نأى بنفسه عملياً عن مقاومة إسرائيل منذ عام 2000، باستثناء لحظة خطف جنديين إسرائيليين في عام 2006، التي استجرّت حرباً إسرائيلية ضدّ لبنان نجم عنها مصرع نحو 1200 لبناني، وتدمير أجزاء من الضاحية الجنوبية وجنوبي لبنان. وهذا يعني أن ثمة ربع قرن تقريباً اشتغل فيه “حزب الله” في تصريف قوته وطاقته العسكرية في فرض هيمنته على لبنان، إلى درجة شلّ الدولة، بشكل كامل: مؤسسة الرئاسة، والوضع الاقتصادي، مع انهيار القطاع المصرفي، وشيوع الفساد، بل وشمل ذلك قمع الانتفاضة الشعبية في لبنان (2019) التي نهضت ضدّ الفساد والطائفية، وضدّ الانهيار والإفقار الاقتصادي.
وكما هو معلوم، فإن “حزب الله” صرف فائض قوته العسكرية، أيضاً، في سوريا، بمشاركته في قتل السوريين، وتشريدهم، بدعوى حماية “محور المقاومة والممانعة”، في حين أن تلك الوظيفة أتت تأكيداً على اعتبار “حزب الله” ذاته جزءاً من الذراع الإقليمية للدفاع عن نفوذ إيران في المشرق العربي، وهو ما أضرّ بمكانته عند السوريين، وكشف طابعه حزباً يشتغل وفقاً لمصالح إيران، لا وفقاً للمصالح الوطنية اللبنانية.
الرسالة المراوغة الأخرى التي وجّهها نصر الله للأنظمة العربية لم تكن موفقة إطلاقاً، إذ لا يوجد أحد يضرب إيران ولو بحجر، لا الأنظمة ولا المجتمعات العربية، في حين أن إيران هي التي تشتغل على تقويض بنية الدولة والمجتمع في المشرق العربي، واليمن، وتصديع وحدتها على أسس طائفية ومذهبية، لتعزيز مكانتها كدولة إقليمية في المنطقة، وتعظيم تموضعها في الإقليم في المساومة على المكانة والمصالح مع الولايات المتحدة.
يمكن تفسير التمايز بين الخطابين أن نصر الله في الخطاب الأول كان مضطراً لمسايرة العواطف والتساؤلات وحالة الغضب التي سادت أنصاره، والتي شملت الشارع العربي، في حين استدرك في خطابه الثاني طبيعة التحدّيات والأثمان التي تواجه إيران و”حزب الله”، والتي تحدّ، وتقيّد، قدرتهما على توجيه ضربة قوية وموجعة لإسرائيل، يفترض أن تضعها عند حدّها.
هكذا، تبين لنصر الله أن الولايات المتحدة، وإن كانت لا تريد حرباً إقليمية يأخذها نتنياهو إليها، فإنها مستعدة لتقديم كل الدعم السياسي والمالي والعسكري لإسرائيل في أية حرب مقبلة، هذا أولاً، وثانياً، أن روسيا تضغط على إيران ليأتي أي ردّ في حدود تقبلها إسرائيل، ولا تستهدف المدنيين، وهذا أمر يبهت من التهديد الإيراني طبعاً، وثالثاً أن الحديث عن محور “المقاومة والممانعة” هو حديث دعائي، فهذا المحور كان يفترض، بحسب ادعاءاته عن القدرة على مواجهة إسرائيل، أن يستغل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ويقوم بما عليه لدعم “حماس”، لكنه فوّت تلك الفرصة، وكل “الإسناد” الذي حصل في ما بعد ظل تحت السقف ولم يحل دون تدمير غزة، بل إنه لم يخفّف من حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين منذ أكثر من عشرة أشهر، ورابعاً، بدا واضحاً أن أي معركة غير محسوبة مع إسرائيل، من قبل إيران و”حزب الله”، ستؤدي، في هذه الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية، ربما إلى خسارة إيران “حزب الله”، وربما تهديد النظام الإيراني في عقر داره، وتضييع كل المكتسبات التي حققتها إيران، في الفترة الماضية، بسبب التقاطعات، غير المباشرة، بينها وبين السياسة الأميركية في المنطقة، فهي اشتغلت على تخريب بلدان المشرق العربي، وكفزاعة ضدّ بلدان الخليج العربي، وخامساً، في هذه الغضون يلاحظ اختفاء الحديث عن عالم متعدد الأقطاب، من روسيا ومن الصين، وخفوت صوت دول “بريكس”، إذ لا وجود في هذا الوضع إلّا لقطب واحد، وهو الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل وضامنة أمنها وتفوقها مع الأسف.
أخيراً، غريب اعتبار نصر الله أن انتظار إسرائيل، التي باتت “تقف على رجل واحدة” (بحسب تعبيره)، “جزء من العقاب”، لكن ليت الأمر على هذا النحو، فهذا انفصام عن الواقع، ومراوغة له، ومن يرَ وضع الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين يعرفْ ذلك، إذ إسرائيل لا تزال تقتل وتدمّر، رغم أنها تقف على رجل واحدة، فكيف إذا كان الأمر مع رجل أخرى، لا سيما إذا كانت أميركية، وفي حرب إقليمية، يريدها نتنياهو، ولا أحد يعرف أين يمكن أن تصل؟
عذراً التعليقات مغلقة