تصدرت الأزمة الأوكرانية صدارة الأنباء العالمية مع تزايد الحشود والمناورات العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية؛ بشكل أثار تساؤلات عن محركات الروس ودوافع موسكو بغزو جارتها وعن الموقف الغربي المحتمل من أي غزو للأراضي الأوكرانية في ظل تصاعد التهديد ضد أوكرانيا التي يبدو أن أهميتها تزايدت لكلا الجانبين، روسيا وحلف الناتو للدرجة التي تنذر بمواجهة عسكرية بينهما.
أوكرانيا التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق منذ عام1921م وحتى انهياره واستقلالها.. دون نسيان تاريخها في روسيا القيصرية.. هذا الماضي ترك آثاره بعد الاستقلال مع تشكّل تيارين أساسيين في أوكرانيا المستقلة؛ الأول يرى أن المستقبل الأفضل للبلاد مع الإبقاء على العلاقات قوية مع روسيا في حين يرى التيار الثاني أن المستقبل يتمثل بإقامة علاقات متميزة مع الغرب وصولًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحتى حلف الناتو.
صدام التيارين وصل ذروته أواخر عام 2013م عندما كانت أوكرانيا تعيش أزمة اقتصادية كبيرة، رأى أحد الفريقين أن حلها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي واعتبر الفريق الآخر أن الحصول على حزمة مساعدات من روسيا كفيل بمعالجتها.. وكان الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانكوفيتش، من أنصار التيار الموالي لروسيا ما جعله يرفض التوقيع على اتفاقية شراكة تمهد لانضمام أوكرانيا في المستقبل إلى الاتحاد الأوروبي وفضّل الحصول على مساعدات من روسيا.
خطوة يانكوفيتش أطلقت احتجاجات واسعة من التيار المؤيد للتقارب بين أوكرانيا والغرب، اندلعت في نوفمبر 2013 واستمرت حتى فبراير 2014 أدت بالإطاحة بالرئيس الأوكراني وفراره إلى روسيا التي اعتبرت تلك المظاهرات انقلابًا دبره ودعمه الغرب للاستحواذ على أوكرانيا أولًا لضمان تهديد أمن روسيا بشكل مباشر، حيث يتمثل هدف الغرب – من وجهة نظر الروس- هو أن يستقطب أوكرانيا ثم يضمها إلى الاتحاد الأوروبي ثم إلى حلف الناتو ليجد الروس الحلف على أبواب موسكو.
الرد الروسي كان سريعًا على التغيرات التي حصلت في أوكرانيا فاستولوا على شبه جزيرة القرم خلال أيام قبل نهاية شهر فبراير 2014 وخلال أيام من شهر مارس التالي أعلنوا ضم شبه جزيرة القرم رسميًا إلى روسيا عبر استفتاء الانضمام إلى روسيا والذي لم تعترف به كييف ولم يعترف به الغرب، دون أن يغيّر هذا الرفض من الأمر شيئاً، وحتى هذه الأيام تصنف شبه جزيرة القرم “أرض روسية”.
الرد الثاني الروسي كان عبر دعم جماعات انفصالية داخل أوكرانيا ما ولّد حرب أهلية في منطقتين في شرق أوكرانيا “دونباس” التي أعلنت انفصالها -ﺩﻭﻧﻴﺘﺴﻚ ﻭﻟﻮﻏﺎﻧﺴﻚ- عن أوكرانيا كجمهوريتين منفصلتين مدعومتين من روسيا.
في القلب من تلك الأزمة، تظهر رغبة الحكومة الأوكرانية بالانضمام إلى حلف الناتو الذي تأسس عام 1949م بهدف مجابهة الاتحاد السوفيتي واحتوائه ويضم هذا التحالف في الوقت الحالي 30 دولة وتنص مادته الخامسة على أن الاعتداء على أية دولة عضو في حلف الناتو هو اعتداء على كامل الحلف ويجب التصدي له.
لتبرز تساؤلات محتملة عن مشكلة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وما الذي يميزها عن باقي الدول الأخرى التي انضمت.. وهنا نجد أن أوكرانيا تمثل خطًا أحمر بالنسبة لروسيا وعمقًا استراتيجيًا لها مع حدود مشتركة تتجاوز الألفين كم، فانضمامها إلى حلف الناتو يعني أن صواريخ وجنود الحلف يمكنها أن تكون على الحدود المشتركة وتهدّد العمق الروسي، لذلك فاقتراب الحلف منها مسألة تثير حفيظة الروس، من جهة ثانية تعتبر أوكرانيا بالغة الأهمية تاريخيًا واستراتيجيًا واقتصاديًا لموسكو التي تعتبرها روسيا الصغرى.
تتميز الأزمة الأخيرة عن سابقتها، بأن الروس -من وجهة نظرهم- أصبحوا الآن في وضع أقوى مما هم عليه في السنوات الماضية وأكثر قدرة على رفض المخططات الغربية لمحاصرهم، كما أن الأزمة الحالية ذات تاريخ طويل، لكن تقطنها الأبرز تاريخيًا تتمثل بسقوط جدار برلين 1989، الذي اعتبر ممهدًا لانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، فبعد سقوط الجدار، بدأت المحادثات بين الروس بقيادة غورباتشوف والغرب بقيادة جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر لإعادة توحيد الالمانيتين (اتفاق مالطا).
في تلك المحادثات يؤكد الروس أنهم خدعوا لأن الولايات المتحدة وحلفاؤها وعدوهم بأنهم إذا وافقوا على توحيد الألمانيتين تحت مظلة حلف الناتو فيعدهم حلف الناتو بأنه لن يتقدم إلى الشرق، أي لن يضم أية دولة ما بين ألمانيا وروسيا، صدّق الروس – أو ربما اضطروا لتصديق- الوعود الغربية لكن الغرب لم يلتزم بوعوده وبدأ يتمدد إلى ما وراء ألمانيا وضم الكثير من الدول الواقعة في هذه المنطقة.
من زاوية غربية فإن جديد الصراع في 2021 و2022 هو وصول بايدن الى السلطة، فقبل وصوله كان الرئيس الأوكراني الحالي مضطراً إلى التفاهم مع موسكو إنه كان واقعاً بين موسكو الراغبة في مد نفوذها على كامل أوكرانيا ووجود رئيس أمريكي “ترامب” غير المتعاطف مع الأوكرانيين، والذي كان يعتقد أن أوكرانيا لعبت دورًا مع الديمقراطيين لمحاولة الإطاحة به بالتوازي مع قناعته أن الروس لا يشكلون خطر على المصالح الأمريكية وبالتالي لم يكن متعاطف مع أوكرانيا، ومع ذهاب ترامب ومقدم بايدن -المعادي لروسيا- تشجّع الرئيس الأوكراني زيلينسكي على أن يتخذ مواقف اعتبرتها روسيا مواقف معادية ومهددة لمصالحها.
وبدأ زيلينسكي ملاحقة وسائل الإعلام والأحزاب الأوكرانية الموالية لموسكو وأطلق حملة علاقات عامة في الغرب لمساعدة جهات أمريكية لإعادة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ثم بدأ مرة أخرى في حملة لإعادة تحرير شبه جزيرة القرم واستعادتها – هو ينكر رسميًا بعض النقاط خصوصًا اتخاذ خطوات عسكرية في ذلك- ثم بدأ يلعب دورًا فاعلاً في سياسات تراها موسكو معادية لها مثل محاولة وقف إتمام خط غاز ( نورث ستريم 2) الذي تعتبره روسيا بالغ الأهمية اقتصاديًا وعسكريًا لنقل غازها إلى ألمانيا لكنه يهدد المصالح الاوكرانية وسيحرمها من الغاز الروسي الذي يعبر من أراضيها إلى أوروبا، وبالتالي يقلص من أهميتها ويضر بها اقتصاديا، كما أن اوكرانيا بدأت تتسلح استعداد إلى هجوم روسي أو استعداداً لاستعادة شرق اوكرانيا. كل هذه السياسات كانت مقلقة للروس وبالتالي أصبحت الآن الأزمة تتصاعد حتى وصلت لمستواها الحالي.
إلى ذلك، تتضارب المواقف من الأزمة الحالية، فمنذ ديسمبر الماضي تقول المخابرات الأمريكية والغربية والناتو إن هناك مئة ألف من الجنود الروس على الحدود الأوكرانية كما أنها تقول إن تحركات القوات الروسية غير معتادة وتشي بأن الروس يستعدون لغزو قريب، قُدّر بأنه سينطلق في الأسابيع الأولى من العام الجاري في نظرة تشاؤمية غربية مردها تباعد المواقف بين روسيا وبين الولايات المتحدة وأوروبا.. فالروس تقدموا بمجموعة من المطالب لإنهاء الأزمة في مفاوضات جنيف 10 يناير الماضي كان على رأسها ثلاثة مطالب أساسية: أن يتعهد الناتو خطيًا بعدم ضمّ أي دولة جديدة على الحدود الروسية؛ وثانيها أن يتوقف حلف الناتو عن نشر أسلحة في الدول المجاورة لروسيا، أما الثالثة أن يتوقف الحلف عن إجراء مناورات عسكرية على أراضي الدول الواقعة بين ألمانيا وروسيا.
بدوره، اعتبر الغرب أن تلك المطالب تعجيزية لا يمكن الموافقة عليها وعرضوا بدلا من ذلك حلولًا أقل حدة.. ومن محركات الرفض الغربي للمطالب الروسية أن الموافقة على تلك المطالب يعطي روسيا حق الفيتو على الدول التي يمكن أن تنضم إلى حلف الناتو، كما أن حلف الناتو بطبيعته حلف معادي لروسيا لذلك فإن مطالب روسيا تعني عملياً منحها منطقة عازلة ومنطقة نفوذ على كامل الدول التي كانت واقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي.. ومن جهة ثانية تعني تلك المطالب أن روسيا تناقش أحقيتها في العودة إلى اتفاقية توحيد الألمانيتين إبان انهيار الاتحاد السوفييتي، وكذلك فإنه حتى لو وافق الغرب على عدم انضمام اوكرانيا – والتي بطبيعة الحال لن تنضم إلى حلف الناتو إلا بعد سنوات لأنها لم تستوف الشروط- حتى لو سمحوا للروس بضم أوكرانيا فالمخاوف قالمة أن ذلك سيكون بمثابة سياسة استرضاء ” فاشلة ” تذّكر بما فعله الغرب مع هتلر في الثلاثينات من القرن الماضي حين غضوا الطرف عن رغبته في ابتلاع بعض الدول الأوروبية فشجعه ذلك على ابتلاع المزيد..
من زاوية أخرى يمثل الخوف من الصين محفزًا آخر للرفض، فبكين التي تراقب الموقف من بعيد وتنظر إلى رد فعل الغرب، والتي إن وجدت ردًا غربيًا متساهلًا سوف يشجعها ذلك على التوسع في منطقة بحر الصين الجنوبي وضم تايوان على الفور بالقوة الأمر بشكل سيغير يغير النظام العالمي القائم ويخلّ موازين القوى لصالح روسيا والصين على حساب الولايات المتحدة والغرب.
بالتالي فإن رفض الغرب المطالب الروسية ليس مفاجئًا، لكنه ترك فرصًا للحوار عبر التأكيد على استعداده القيام بعمليات بناء الثقة وتعزيز التفاوض وترك الأبواب مفتوحة لخفض التسلح في أوروبا بحيث يكون الطرفين أقل قلقاً.. لكن الروس وعلى لسان وزير خارجيتهم أكدوا أن مطالبهم احزمة كاملة وليس قائمة بخيارات الغرب المناسبة منها؛ ليؤكد لافروف أن مفتاح كل شيء من مطالب موسكو يبدأ بعدم التوسع شرقاً ويجب أن يكون ذلك خطيًا لأن الروس جربوا ذلك شفهيا وتم خداعهم.
الرد الغربي على تعنت الروس تمثل بتهديدات كبيرة بأنهم سيفرضون عقوبات اقتصادية غير مسبوقة وستعانون من عزلة سياسية ودبلوماسية بالإضافة أنهم سوف يمدون الجيش الاوكراني بالأسلحة الهجومية.
المؤكد – وفق تقاطع مؤشرات مختلفة- أن الولايات المتحدة في حيرة فإن أقدم بوتين على غزو أوكرانيا وأصر على مطالبه فسوف تجد أمريكا نفسها أمام خيارين صعبين؛ الأول التصدي لبوتين وبالتالي ستجد نفسها في صراع مفتوح مع روسيا بعد خروجها من حرب أفغانستان.. أما الخيار الثاني أن تغض الطرف والذي يعني تشجيع بوتين على ابتلاع المزيد من الأراضي الأوروبية التي يعتقد الكرملين أنها حق قديم لروسيا.
عذراً التعليقات مغلقة