يعتبر صعود الدول وهبوطها سنة طبيعية أثبتتها تجارب التاريخ، فللدول أيضًا أعمار وفترات قوة وازدهار تليها فترات هبوط وانحسار تفقد فيها الدولة هيمنتها ونفوذها بأشكال مختلفة..
وبطبيعة الحال تختلف أدوات النفوذ والقوة بين المظاهر العسكرية والاقتصادية والتي تنعكس على وضعها السياسي وتموضعها الإقليمي والدولي.
في المشهد الدولي الحالي نجد الصراع يحتدم بين واشنطن وبيكين بشكل يطرح تساؤلات جديّة حول وضع أمريكا “القطب الأوحد في العالم” وعن استمرار هيمنتها وسيطرتها المباشرة وغير المباشرة أمام خصومها الجديدين وعلى رأسهم الصين الذي تسير بخطوات عملاقة في فرض وجودها على المشهد الدولي. وما احتمالات وخطط أمريكا لعرقلة ومواجهة التهديد الصيني المتصاعد؟!
كما تدرك الصين أهمية تعزيز موقفها الدولي بعد نجاحها الاقتصادي، فإنها تسعى لتعزيز نفوذها السياسي بمختلف الأدوات المتاحة عسكريًا واقتصاديًا لمزاحمة واشنطن والتخلص من الطوق الأمريكي المفروض عليها فنجدها تتوجه – ضمن خططها الحالية – نحو منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الجيو استراتيجية الكبرى.
لتحقيق خطوات فاعلة في ذلك الصدد، يبدو أن القيادة الصينية تريد ملء فراغ قد تتركته واشنطن في المنطقة أو تسعى لإزالتها هناك، ولعل أبرز مثال على ذلك هو القاعدة العسكرية الصينية في الأراضي الإماراتية وهي خطوة تحمل خطورة ورفضًا أمريكيا غير مستغرب نظرًا لطبيعة التحالف بين أبو ظبي وواشنطن وتصنيف الإمارات كدولة ضمن المنظومة الأمريكية.
تجدر الإشارة أن الإمارات ليست الوحيدة في خطوتها تلك، فقد حذت السعودية حذوها وبقية دول الخليج.. بل إن إسرائيل – ربيبة واشنطن وطفلها المدلل- عملت على توطيد علاقاتها مع الصين في السنوات الماضية رغم التحذير والطلب الأمريكي المغاير لهكذا تحركات.
بالعودة لقضية التغلغل العسكري الصيني في الإمارات، كشفت صحيفة “ذا وول ستريت جورنال” في الـ 19 من نوفمبر الماضي قصة صادمة للامريكان مفادها أن المخابرات اكتشفت منذ شهور أن الصين تسعى لإقامة منشأة عسكرية سرية في منطقة ميناء “الشيخ خليفة” في دولة الإمارات.. وأنها تواصلت مع كل المسؤولين الإماراتيين لمدة شهور حتى تم وقف العمل في هذه المنشأة.
وبحسب تقرير الصحيفة، لم يستيقن الأمريكان من علم أبو ظبي ببناء هكذا قاعدة سرية تحت ستار الميناء الذي استثماره الصين التي لها سوابق بالاستخدام المزدوج (اقتصادي علني وعسكري سري) للموانئ الخاضعة لإشرافها..
الموقف الإماراتي الرسمي أكد أن أبو ظبي ليس لديها أي إتفاقيات مع الصين لإقامة منشآت أو قواعد عسكرية على أراضيها، أما الصين فرفضت التعليق.. ليشكل الإنكار الإماراتي نقطة لصالح واشنطن ضد الصين بوجهة نظر الأمريكان الذين يدركون بعمق، ازدياد العلاقات الاقتصادية بين الصين والإمارات.
تجدر الإشارة أن ميناء خليفة الذي جعلت منه اتهامات واشنطن قاعدة عسكرية صينية سريّة.. هو ميناء عاهدت الإمارات شركة صينية كبيرة “شركة cosco” مهمة تطويره والإشراف عليه لمدة 35 سنة.. ضمن خطة تعاون أوسع وأعمق يشملها مشروع “الحزام والطريق” الذي يعتبر مشروعًا عالميًا عملاقًا للصين تسعى من خلاله لإقامة مشروعات ضخمة في كل دول العالم الراغبة بالتعاون مع الصين فتتحول تلك المشروعات لنقاط ارتكاز وعبور تجري فيها كل البضائع الصينية إلى كل دول العالم وتأتي منها كل السلع والمواد الخام الضرورية لتشغيل ماكينة الاقتصاد الصيني العملاقة.. ويبدو أن الإمارات – كحال بقية دول الخليج وكثير من دول العالم – حريصة جدًا على الاستفادة من هذا المشروع، لا سيما أن الرؤية الخليجية ترى في مشروع الصين الجديد فرصة مهمة وتاريخية لتخفيف اعتماد اقتصادها على النفط الذي تتراجع أهميته في المستقبل. ولهذا قد تربط واشنطن بين المشاريع الاقتصادية والأنشطة الاستثمارية وبين قضية المنشأة العسكرية كشرط لازم وحتمي.
بذلك ونتيجة التقاطعات السابقة يمكن أن نقف أمام قضايا رئيسية ثلاثة..
الأولى: هي إستراتيجية الصين للتواجد في منطقة الشرق الأوسط، فبكين اعتمدت استراتيجية التوجه إلى الغرب (الغرب المقصود به الشرق الأوسط) وهذه الاستراتيجية سماها wang jisi بـ “marching westwards”. في حين نجد أمريكا ومنذ عهد أوباما اتبعت استراتيجية ” الانتقال إلى آسيا “.
الثانية: المعضلة الخليجية ومأزق دول الخليج التي تعتمد بشكل كبير ومتزايد اقتصاديًا على الصين بالتوازي مع حاجتها لواشنطن عسكريًا وأمنيًا.
أما القضية الثالثة: صراع الأولويات بالنسبة لواشنطن الذي جعلها في مأزق متصاعد بعد رؤية حلفائها يتعاونون مع الصين بشكل يصعب إيقافه أو التحكم به، خصوصاً وأن الولايات المتحدة تسعى لتخفيف التزاماتها في بعض مناطق العالم وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط لتركز جهودها على إجهاض الصعود الصيني في جواره الحيوي (جنوب شرق آسيا بحر الصين الجنوبي والشرقي والمحيط الهندي والهادي) ويبدو أن امريكا مستعدة لذهاب إلى أبعد مدى لضمان وقف الصعود الصيني الذي جعل من التنافس مسألة حياة أو موت من وجهة نظر أمريكية.
ولتخفيف حدّة المنافسة المباشرة وتغيير قواعدها، عمدت الصين إلى تهدئة المواجهة في المناطق الحيوية المجاورة لها والالتفاف وراء أمريكا والذهاب إلى المناطق التي لا ترغب واشنطن فيها بأي تواجد الصيني (مناطق نفوذها وحلفائها).
وبين حاجة الصين بالتواجد في الشرق الأوسط والرغبة في استنزاف واشنطن في ذات المنطقة، يتضح تكتيك الصين المزدوج لضمان التموضع في وسط وجنوب آسيا بالإضافة للشرق الأوسط.
هذا ويمكن القول إن رغبة الصين بالتواجد في المنطقة تلاقت مع رغبة خليجية دفينة حركتها وعززتها رغبة بكين بتقديم خطط كثيرة للمنطقة تعين الخليجيين على موازنة نفوذ أمريكا القوي وتحكمها في تلك الدول..
إلى ذلك، تتحمس دول الخليج للتعامل مع الصين التي تشكل التهديد الأساسي للولايات المتحدة ببساطة لأن الصين هي الشريك التجاري الأول لدول المنطقة كما أنها الشريك التجاري الأول لمعظم دول العالم، وهي متعطشة للمواد الخام واقتصاد دول المنطقة يقوم على تصدير المواد الخام خصوصًا النفط والغاز التي تعتبر الصين أكبر مستهلك لها.. أما الصين فتقدم التكنولوجية المتقدمة والرخيصة والأهم، أنها بدون شروط سياسية..
وعليه، بدأت تتعاظم العلاقات الصينية الخليجية الشرق أوسطية على حساب العلاقات الأمريكية.. كالعلاقات الصينية السعودية والتي كانت في عام 2001 تقدّر بـ 4 مليار دولار أما في عام 2020 قفزت 15 ضعف لتصل إلى 60 مليار دولار، نصفهم واردات من الصين ونصفهم صادرات من السعودية وبالمقابل تراجعت العلاقات الأمريكية السعودية إلى أقل من 21 مليار دولار.. وذلك ينطبق في العلاقات بين الصين والامارات بأرقام كبيرة وغيرها من دول الخليج والمنطقة. الصين متنفس جديد وأمل لدول المنطقة ذات الاقتصاد الريعي بالمقارنة مع تراجع نفوذ وقدرات واشنطن.
إن علاقة دول المنطقة مع أمريكا ذات طبيعة معقدة سببت مشاكل متراكبة، خصوصا مع تعامل واشنطن مع المنطقة بعقلية التاجر الذي ضمن وجود الزبون، فكانت دول الخليج هي الزبون الذي وافق مضطرا على رؤية واشنطن بسبب:
- أمريكا أكبر اقتصاد عالمي وهي الشريك التجاري الأكبر لتلك الدول.
- كانت واشنطن هي الضامن الأكبر والأهم أمنيا وعسكريا للمنطقة.
الجزء الاقتصادي بدأ يتضعضع مع تراجع السيطرة الاقتصادية الأمريكية لصالح الصين ودول أخرى بالإضافة لتزايد الشكوك في نقطة الحماية الأمريكية العسكرية والأمنية لتلك الدول كما حدث بعيد الاتفاق النووي الإيراني الذي لم يراع مخاوف دول الخليج.. في تقاطعات استغلتها الصين ببراعة لضمان استقطاب تلك الدول نحوها.
لكن يجب القول إن الخليجيين يعانون من كلا الحليفين، رغم احتمالية تغير موازين القوى الذي سينتج تغيرا في الحسابات الأمنية والعسكرية مع التذكير بنقطة مهمة (واشنطن تفاوض إيران، في حين تعتبرها الصين حليفا).
مأزق أمريكا واضح ويمكن تلخيصه برغبة واشنطن بإبقاء نفوذها في الشرق الأوسط دون التورط بمشاكله ما عقّد خططها ورغباتها في ظل تربص صيني واضح لملء أي فراغ تتركه واشنطن، لتقع واشنطن بين خيارين مريّن.
أما دول الخليج، فيتوقع أنها ستواجه مشاكل هي الأخرى، تتمثل في احتمالية وجوب الاختيار والاصطفاف مع إحدى القوتين على حساب الأخرى وعدم نجاح سياسة الموازنة بينهما..
وفي خضم ذلك كله، تمشي الصين بخطوات مدروسة بصبر وروية ودراسة تفصيلية للخصم الأمريكي وتكتيك يسعى للفوز بالحرب دون أي مواجهة تكلف الكثير، يبدو أن بكين تطبق ذلك خطوة بخطوة.
عذراً التعليقات مغلقة