بعد خمس سنواتٍ من الكفاح المتواصل في مدينته حمص، أُجبر عبد الباسط الساروت على الخروج منها ملاحقاً، ليكون على موعدٍ من محطّات جديدةٍ، ابتدأت بوصوله إلى تركيا حيث أمانٌ ودعةٌ وبعدٌ لم يوائم روحه التواقة لميادين الكفاح، ثمّ عودةٌ إلى الشمال السوري وفاءً للعهد وبرّاً بالقسم الذي لطالما صدحت به حنجرته: “أقسم بالله العظيم أن لا نتراجع عن هذه الثورة حتى آخر قطرة دم “.
ففي مطلع العام 2016 غادر السّاروت ريف حمص متخفّياً إلى الشمال السوري بعد صدامه مع جبهة النصرة آنذاك، وآثر أن يتوجّه إلى تركيا مباشرةً بهدف مخاطبة جمهوره إعلاميّاً بأريحيّة تمكّنه من شرح وجهة نظره حيال الأحداث التي واجهته في ريف حمص وتفنيد الاتهامات التي وجّهتها النصرة له وتبيان بطلانها، وظهر في عدّة لقاءات إعلاميّة موضّحاً للرأي العام تفاصيل ما جرى وردوده على محاولات إلصاق عدة تهم به ظلماً وزورا.
وخلال هذا العام دُعي إلى العديد من المؤتمرات الثوريّة وعُرض عليه تزويده بدعمٍ عسكري لإعادة تشكيل كتيبته، لكنّه رفضه بسبب ارتهان أموال الدعم تلك للدول والأجندات، كما دُعي إلى كرنفالات وحفلاتٍ لأطفال المخيمات كان يلبيها دائماً، هتف من وراء الحدود وغنّى للثورة وزار المشرّدين، لكنّ صوتاً في داخله لم يفارقه كان يؤنبه ويدعوه يوميّاً للعودة رغم خطورتها بسبب سيطرة الفصيلين الرئيسيين اللذين يلاحقانه وهما “النصرة وأحرار الشام” على معظم الشمال المحرر في ذلك الوقت.
خلال العام الذي قضاه الساروت في تركيّا ولعفّةٍ عظيمةٍ في نفسه كانت سمةً بارزةً في شخصيته، عمل في ورشةٍ للخياطة رغم صعوبة وقوفه الطويل خلف آلة الخياطة بسبب إصابةٍ قديمة، ثمّ انتقل إلى ورشةٍ لصيانة السيارات عمل بها لمدّةٍ أيضاً، كان يؤمن أن أي عملٍ شريفٍ مهما كان أفضل من التنازل عن مبادئه والارتزاق باسم الثورة عبر العمل ضمن أجندات وجهات لا تمثلها.
وبعد محاولاتٍ كثيرةٍ من رفاقه ووساطاتٍ فشلت جميعها في إقناع خصومه في الشمال بالسماح له بالعودة، ولأن روحه كانت تزداد نزفاً مع المقاطع المؤلمة لحصار حلب الذي تزامن يومها مع وجوده في تركيا، حسم أمره وقرّر الدخول إلى سوريا رغم تحذيرات رفاقه له بخطورة ذلك.
بعد وصوله الأراضي المحررة بفترة وجيزةٍ شارك في إحدى التظاهرات معلناً عودته لمكانه الذي يليق به، فاستقبلته جماهير الثوار بحفاوةٍ ومحبّةٍ، لكنّ خصومه من الفصائل أصرّوا على حضوره لجلسات محاكمة لديهم، قالوا بأن مدتها لن تتجاوز الثلاثة أيام، فتوجه إليهم غير آبه لإنهاء هذه المسألة التي لا تزال تعيقه عن وصوله إلى جبهات القتال، فتمّ اعتقاله في سجون النصرة لسبعةٍ وثلاثين يوما، خرجت خلالها العديد من المظاهرات الشعبية في إدلب وريفها للمطالبة بالإفراج عنه، ليخرج بعدها تحت شروط، من بينها منعه من تشكيل أي فصيل عسكري مستقل يتبع له.
بعد خروجه توافد إليه عشرات الشبان بسلاحهم للقتال تحت إمرته، فتشكل لديه خلال فترة قصيرة مجموعة من عشرات المقاتلين الذين انضم معهم إلى فصيل جيش العزة، أحد أبرز فصائل الجيش الحر العامل في أرياف حماة.. أسخن جبهات القتال في الشمال، والأقرب إلى محبوبته حمص، ليعود الساروت بذاك من جديد شعلةً لا تنطفئ وقائداً يلهم المقاتلين في ساحات المعارك والمتظاهرين في ميادين التظاهر على حدٍّ سواء.. تبرق عيناه بالحماس وينبض قلبه بالوفاء ويحيطه التواضع من كل جانب ومكرّساً كل وقته للثورة ونصرتها بشتى الوسائل، وبين الفينة والأخرى كان يستغل شيئاً من وقت فراغه ليظهر في ملاعب الشمال السوري لاعباً لم ينعتق يوماً من حبّه للكرة.
كانت جذوة المظاهرات العارمة تتقد بين فترةٍ وأخرى في الشمال المحرر ليكون باسط دوماً في مقدّمتها مكرّساً نظرية تكامل وسائل المقاومة وموازناً بين حنجرةٍ تصدح بالحماس والثقة بالنصر وبين يدٍ ضاغطةٍ على الزناد لا تفتر.
وفي العام 2018 كان الشمال السوري على موعدٍ مع وصولأ أفواجٍ متلاحقةٍ من المهجّرين قسراً من محافظات ريف دمشق وحمص ودرعا، كان الساروت حاضراً في استقبال أعدادٍ من رفاقه فيها، بغصة صوته الشجي الذي لم يتوقف عن بث الأمل في النفوس المهجرة المتعبة.
وفي العام 2019 بدأت أضخم العمليات العسكرية لمليشيا النظام مدعومةً بقوى الاحتلالين الروسي والإيراني مستهدفة الشمال المحرر انطلاقاً من ريف حماة الشمالي الذي يرابط فيه الساروت وكتيبته، وكعادته لم يغب عن خطوط الجبهة الأولى مبشّراً بالنصر ورافعاً للهمم مقاتلاً على جبهات الريف الحموي ببسالة، وظهر في المقطع المصوّر الأخير له على جبهة قرية “تل ملح” فرحاً بتحريرها متوعداً أعداء الثورة بأن لا ظلم يبقى ولا ثائر سيفنى.
وخلال الشهر الأخير من رحلة كفاحه غنّى للثورة أيضاً أنشودةً بعنوان “سوريا ظلي واقفة” وكأن قلبه أخبره بدنوّ موعد رحيله الذي سيهزّ سوريا، فأوصى سوريّته أن تبقى واقفةً شامخةً في وجه الطغاة والمحتلين، وبشّرها أنّه ورغم المحن التي تواجهها “لابدّ يلفي العيد” عيد النصر الذي قاتل الساروت من أجله طويلا.
وفي الثامن من حزيران من عام ألفين وتسعة عشر، وفي إحدى المشافي التركية التي نُقل الساروت إليها إثر إصابته في المعارك الدائرة بريف حماة ارتقى بطل الثورة السورية وحارسها وبلبلها شهيداً جميلاً، بطلاً كما عهدناه، وفيّاً كما عوّدنا، شهيداً كما أحبّ، ورمزاً وأيقونةً كما يستحقّ، ليشيعه الملايين في سوريا وخارجها بالدموع والرثاء، وليوارى الثرى في مدينة الدانا شمال إدلب على أرض وطنه الذي تعطّر بسيرته وتخضّب أخيراً بدمائه الطاهرة.
** *** **
لقراءة الأجزاء السابقة:
الجزء الأول: لماذا استحق الساروت أن يكون رمزاً (1-4) الجزء الأول: منذ الصيحة الأولى حتى حصار حمص
الجزء الثاني: لماذا استحق الساروت أن يكون رمزاً (2-4) الجزء الثاني: ملحمة المطاحن وفراق أحياء حمص
الجزء الثالث: لماذا استحق الساروت أن يكون رمزاً (3-4) الجزء الثالث: في ريف حمص الشمالي
عذراً التعليقات مغلقة