لأنه الساروت الذي أرّق النظام منذ اندلاع الثورة، ولأنّها حمص التي نبضت شوارعها بالثورة حتى باتت عاصمتها، كُتب لهما أن يعيشا سويّة تفاصيل حصار حمص الشهير الذي دام نحو عامين وشكّل أحد أهم محطات الثورة بتفاصيله الكثيرة العظيمة بالنسبة لثوار حمص عموما وباسط الرمز على وجه الخصوص.
ففي التاسع من حزيران من العام 2012 أغلقت ميليشيات النظام الطريق الواصل بين حي جورة الشياح المحرر وحي الغوطة المجاور لتعلن بذاك إطباق الحصار على بضعة آلاف من ثوار حمص ومئات العائلات والمدنيين في ثلاثة عشر حياً حمصيّاً، أبرزها حمص القديمة والخالدية والقصور والقرابيص وجورة الشياح.
كان وقع الخبر علينا داخل الحصار صادماً خصوصاً أنّه يترافق مع حملات عسكريّةٍ بريّةٍ تستهدف المنطقة بشكل يومي، ما تطلّب ردّة فعلٍ عاجلةٍ تحتاج لشجاعةٍ لا تغيب عن السّاروت الذي بادر فوراً بتجهيز عشرات المقاتلين لشنّ عمليّةٍ عسكريّة سيكون محورها حيّ البياضة المحتل تترافق مع عملية من الخارج يشنها الثوار من محور حي دير بعلبة.
تسلل الساروت ومعه المقاتلون إلى حي البياضة، وخلال ساعاتٍ بدأ الاشتباك العنيف وتدخّلت ميليشيات النّظام من أكثر من محور فحوصر باسط مع خمسة وسبعين مقاتلاً في بقعةٍ صغيرةٍ لا تتجاوز مساحتها كيلومترين مربّعين فقط.
في تلك الأيام الثلاثة عشر التي قضيتها مع باسط داخل تلك المساحة الضيقة التي تحيط بها ميليشيا لنظام من كل جانب وتستهدف قنّاصاته أيّ حركة، كان الموت هو المصير الأقرب بسبب استهداف طريق الانسحاب الخلفي ورصد النظام له مع محاولات التقدم اليومية لميليشيا النظام، وكان مطلوباً منّا أن نصمد بأي طريقة ريثما يحاول رفاقنا حفر نفق لنا لنخرج منه دون أن تطالنا القناصة، ذلك الصمود كان عرّابه الساروت الذي أدهشنا بكمّ المعنويّات والتفاؤل والثبات الذي كان يمدّنا به في كل ساعة، يرابط ثم يحمل القاذف ويركض به ليتصدّى لإحدى الدبابات المهاجمة، يصرخ متفائلا، ثم وعندما تهدأ وتيرة المعركة تملأ ضحكاته وأحاديثه المكان الموحش، ووسط كل تلك الظلمة كانت حنجرته لا تتوقف عن الإنشاد الذي يشقّ لنا طريقاً من الأمل و النّور.
استمر الساروت بعد نجاتنا عبر الخروج من نفقٍ حفره الرفاق لنا بإشعال جبهات الحصار الأخرى في الخالدية وكرم شمشم، لكنّ طوق الحصار لم يكسر بعد، وقسوته تزداد يوماً بعد يوم.
استطاع الساروت بعدها الخروج عبر أحد الأنفاق خارج الحصار بهدف جلب الذخيرة والطعام لأفراد كتيبته، لكن ميليشيات النظام رصدت النفق وأغلقته بعد خروجه، فبدأ إثر ذلك التجهيز مع كتائب أخرى لعمليّةٍ عسكريّةٍ من خارج الحصار هدفها أيضاً كسر الحصار ومحورها حيّ دير بعلبة الذي شهد في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2012 أشرس تلك المعارك التي أصيب فيها باسط وأُجريت له عمليّةٌ جراحيّة كان يصرخ تحت تأثير مخدرها “ودي افتح طريق للعائلات” بحرقة قلب الثائر الذي لم يعد همّه سوى إنقاذ آلاف المحاصرين في الأحياء المحاصرة.
فشلت تلك العملية التي أربكت النظام، بسبب استخدام قوات الأسد السلاح الكيماوي لأول مرة في سوريا، وبالتحديد في 23 من شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2012، لينتقل السّاروت فور تماثله للشفاء إلى جبهةٍ أخرى في ريف حمص الشمالي هذه المرّة، وتحديداً بلدة الدار الكبيرة القريبة من المنطقة المحاصرة والتي كانت مسرحاً لعملية عسكريةٍ جديدةٍ لتحقيق الهدف ذاته استمرّت لشهور أيضاً دون أن تتمكّن من تحقيق هدفها.
تلك المحاولات المتكررة التي شارك فيها الساروت بشجاعة ولم يكتب لها أن تكتمل بفرحة فك الحصار، عدا عن زيادة أوضاع المحاصرين سوءاً يوماً بعد يوم، دفع باسط لاختيار الخيار الأصعب في مسيرته والأكثر وفاءً وتضحيةً، وهو التسلل إلى داخل الحصار مع عدد من رفاقه ومشاركة المحاصرين مصيرهم، وهو ما حصل فعلاً في تموز من العام 2013، وبعد يومٍ واحد من دخول الساروت إلى الحصار استهدفته إحدى قذائف ميليشيا النظام فأصيب هو واستشهد شقيقه “محمد”.
قدّم دخول الساروت إلى الحصار بهذه الطريقة الفدائية دفعةً معنويةً كبيرةً لنا داخل الحصار الذي يشهد معارك بطولية يومية انضمّ إليها الساروت وشارك وكتيبته في صدّ أعتى محاولات النظام التقدّم واجتياح المنطقة لعدة أشهر، وعندما بدأ الجوع ينهش أجساد المحاصرين ويفتك بهم وبات طعامهم الحشائش وأوراق الشجر، بدأ باسط في الأشهر الأخيرة من هذا العام بالتجهيز وحفر الأنفاق لعمل عسكري جديد سيكون محوره منطقة المطاحن المحاذية لمناطق الحصار، والتي تخضع لسيطرة ميليشيات النظام بهدف جلب الطحين وسد رمق الجوعى من الأطفال والعائلات والمقاتلين داخل الحصار.
وفي الثامن من كانون الثاني في العام 2014 بدأت العملية بإمكانيات بسيطة وأجسادٍ مقاتلين أنهكهم الحصار وسطروا ملحمة عظيمةً في ذلك اليوم، لكن ميليشيات النظام رصدت مخرج النفق الذي يعتبر خط الانسحاب الوحيد، وسيطرت عليه، وأفقدت الثوار عامل المفاجأة، فتمكن جزءٌ من المقاتلين من الانسحاب، منهم باسط، وحوصر نحو ستين مقاتلا رفضوا تسليم أنفسهم، ولم يتجرأ شبيحة النظام على مواجهتهم، فدمرت الدبابات البناء الذي تحصنوا فيه فوقهم واستشهدوا جميعاً، ومعظمهم من كتيبة الساروت، ومن بينهم شقيقاه عبد الله وأحمد.
اعتبر ذلك اليوم أحد أكثر أيام الحصار مأساويّة وحزناً، واستمرّ الجوع القاتل بنهش أجساد المحاصرين الذين لم تتمكن ميليشيات النظام على مدى عامين من هزيمتهم في أرض المعارك، لكنهم أُجبروا بسبب الجوع والخذلان على توقيع اتفاقية تهجيرهم القسري التي نفّذت على دفعتين، الأولى في شباط من العام 2014 بخروج العوائل إلى حي الوعر، والثانية في أيار بخروج المقاتلين إلى ريف حمص الشمالي.
نحو عامين إذاً من الحصار الأقسى والأعظم عاشهما الساروت وفيّاً لثورته مضحّياً بنفسه وأهله لأجل رفاق دربه، خاض فيهما عشرات المعارك البطولية، وأصيب عدة مرات ثم خرج مودّعاً مدينة حمص باتجاه ريفها كما عهدناه منذ بداية الثورة بطلاً مرفوع الرأس شامخاً ترسم الأقدار منه رمزاً أسطوريّاً لثورة الحرية والكرامة.
… يتبع
لقراءة الجزء الأول: لماذا استحق الساروت أن يكون رمزاً (1-4) الجزء الأول: منذ الصيحة الأولى حتى حصار حمص
عذراً التعليقات مغلقة