بعد عامين على حصار حمص.. غادر السّاروت ورفاقه حمص إلى ريفها الشمالي عبر باصات التهجير في أولى رحلاتها القاسية الظالمة، ليمضي في الريف نحو عامٍ ونصف من القتال والكفاح بيقينٍ لم يتزعزع رغم كلّ ما لاقى، ورغم قسوة هذه المرحلة وتعقيداتها استطاع الساروت تجاوزها كما عرفته الثورة.. بطلاً لم يرفع سلاحه إلا في وجه ميليشيات النظام.
ففي أيار من العام 2014 وصل عبد الباسط ونحو ألفي مقاتل إلى بلدة الدار الكبيرة بريف حمص.. الاستقبال كان رائعاً والناس كانت متعاطفةً معنا بشكلٍ كبيرٍ فور وصولنا، نحن الذين أنهك الجوع أجسادنا وغيّر ملامحها، لكنّه ما زاد أرواحنا إلا صلابة.. وتسابق الأهالي والثوار لاستضافتنا، واستضيف باسط وكتيبته في بلدة تيرمعلة لأيام، ثم انتقل إلى الدار الكبيرة، ولم تكد تمضي أيامٌ على الوصول إلى الريف حتّى بدأ الإعداد لمعركةٍ جديدةٍ استهدفت تحرير قرية أم شرشوح في الريف الشمالي، وهو ما تمّ فعلاً، وكعادة الأبطال كان باسط ورفاقه في مقدّمة اقتحامييها وأصيب عددٌ منهم في تلك المعركة.
ثمّ تلتها معركة الهلاليّة التي لم يغب الساروت عنها أيضاً، إذ كان يستحيل أن تبدأ معركةٌ دون أن يكون على رأس مقاتليها وصوته يصدح وسط الرصاص معلناً أن لا هزيمة لثائرٍ مهما تجبّر الظالمون.
بعد أشهرٍ قليلةٍ من وصول الساروت إلى ريف حمص انتقل إلى جبهةٍ جديدة هي الجبهة الشّرقيّة الطويلة المطلّة على أتستراد حمص – سلمية، الذي يعتبر أحد أهم الطرقات التي يعتمدها النظام في تنقّلاته وسط سوريا، وهو ما سيفرز تكتيكاً عسكريّاً جديداً سيتبّعه الساروت في هذه الفترة، إذ انتقل – وهو الذي أكسبته المعارك الكثيرة خبرةً عسكريّةً وقتاليّة – إلى أسلوب حرب العصابات والغارات والكمائن، مستفيداً من جغرافيا المنطقة وموقعها الاستراتيجي، فبدأ أولى معاركه بمشاركة فصائل أخرى باستهداف حاجز “دلّاك” قرب سلمية، موقعاً خسائر كبيرة في صفوف النظام، إضافة لاغتنام أسلحةٍ ثقيلة ومتوسطةٍ من بينها دبّابة، أتبعها بمعركةٍ استهدفت رتلاً عسكرياًّ لميليشيا سهيل الحسن على الأتستراد أسفرت عن مقتل عشرات الشبيحة واغتنام أسلحةٍ من بينها صواريخٌ نوعيّة، إضافةً لمعارك متتالية كثيرة كرّس من خلالها جدوى هذه العمليّات وأثبت قدرة الثوار على الاعتماد على أنفسهم وبرهن عمليّاً نظريّة القدرة على الاستغناء عن الدعم المشروط والمسيّس والاعتماد في الحرب على الغنائم التي تكسبها من عدوّك.
وخلال أشهرٍ فقط أضحى الساروت وكتيبته أبرز الكتائب الفعّالة في ريف حمص واستطاع بشجاعته أن يصبح من جديد تهديداً حقيقيّاً للنظام ومصدر رعبٍ لميليشياته.
جمود باقي الجبهات وتقاعس الفصائل وتجاوزاتها وحلم تحرير حمص الذي لم يغب عن ثوارها الحقيقيين يوماً، والهالة الإعلاميّة الكبيرة لمعارك تنظيم الدولة في تلك الفترة،كل ذلك شكّل بيئة خصبةً لمحاولة التنظيم السيطرة على المنطقة مجدّداً، عبر إرساله سرّاً عدداً من شرعييه وقادته، أبرزهم المدعو “أزميراي” ومحاولتهم التأثير على عددٍ من القادة البارزين في الريف ومن بينهم باسط وإقناعهم بمبايعة التنظيم.
لكنّ وجود عددٍ من القادة سيئي الصيت بين من ينوي البيعة، ونية التنظيم التمركز في بلدات وسط الريف بدلاً من جبهاته وعزمه مواجهة الفصائل التي ترفض البيعة، وتمسّك الساروت بشرط عدم قتاله أحداً سوى النّظام، كل ذلك شكّل لديه نفوراً منهم وتراجعاً عن نيّته بيعتهم، لتتوقف الأمور هنا، بينما تعاظمت شرارة المواجهة في بلدتي الزعفرانة وتلبيسة بين فصيلين اتّهما ببيعة التنظيم من جهة، وباقي فصائل الريف من جهةٍ أخرى، لتندلع في أيار من العام 2015 أعنف المواجهات في البلدتين، وأسفرت عن خسائر كبيرة من الطرفين، وإنهاء الفصيلين.
وخلال القتال توجه وفدّ من الفصائل إلى الساروت للتأكد من موقفه حيال الأحداث فأكّد لهم مجدّداً عدم مشاركته في القتال أو مساندته لأي فصيل يعلن بيعته للتنظيم، رغم أنه لو أراد المشاركة لغير الموازين، وهو ما اعتبر يومها نفياً قاطعاً ونهائيّاً لجميع الاتهامات التي طالته في تلك الفترة.
بعد انتهاء تلك المحطّة المؤلمة التي عاشها ريف حمص، عاد الهدوء إلى المنطقة لكنّه لم يدم طويلاً بإعلان المحتل الروسي تدخّله العسكري المباشر إلى جانب ميليشيا النظام وتنفيذه أولى غاراته الجوية في سوريا باستهداف قرى وبلدات الريف الحمصي، ولتبدأ في منتصف تشرين الأول من هذا العام أشرس الحملات العسكريّة التي استهدفت اقتحام الريف عبر محاور قرى تيرمعلة وجوالك، شارك الساروت وكتيبته ببسالة في التصدي لها.
وطوال فترة ما قبل المعركة وخلالها لم تتوقّف استفزازات ومضايقات جبهة النصرة للساروت وكتيبته، وكيلها الاتهامات له، وهي ما دأب الساروت على نفيها مراراً بجميع الوسائل، وحاول حل الموضوع قضائياً، لكن النصرة تجاهلت الجلسات ولم تحضرها وتابعت تحشيدها وتجهيزها لقتاله، وهو ماتم فعلاً في تشرين الثاني من هذا العام عبر اعتقال عددٍ من مقاتلي كتيبة الساروت ثم محاصرة مقرّاته في الجبهات الشرقية التي كانت السيطرة عليها هدفاً استراتيجياً للنصرة يومها.
تراجع الساروت ورفاقه رغم قدرته على المواجهة لو أراد وتكبيد النصرة خسائر فادحة، لكنه تورع عن ذلك وآثر تجنيب الريف مقتلةً جديدة، لتنتهي العملية بسيطرة النصرة التي قتلت ثمانية من رفاق الساروت على مقرات وسلاح الكتيبة.
تخفّى باسط ورفاقه بعد ذلك لفترةٍ وجيزة ثم خرج سرّاً إلى الشمال السوري ومنه إلى تركيا مودّعاً حمص التي أحبها وضحى من أجلها ودفن في ثراها إخوته ورفاق دربه، دون أن يعلم أنه لن يعود إليها لاحقاً ولن يدوس أرضها التي بذل كل ما يملك دفاعاً عنها وبُحّت حنجرته من فرط عشقه لها.
شكّلت تلك المرحلة التي عاشها الساروت في ريف حمص مرآة لتحولات وهموم وتجاذبات الثورة في تلك المرحلة، وكان خروجه من الريف نقطة انطلاقةٍ جديدةٍ لبطلٍ لا توقفه المصاعب والأهوال عن متابعة طريق حلمه نحو الحرية، ليبدأ محطّةً ثوريّةً جديدة سيعيشها الساروت في الشمال السوري هذه المرة.
… يتبع
لقراءة الجزء الأول: لماذا استحق الساروت أن يكون رمزاً (1-4) الجزء الأول: منذ الصيحة الأولى حتى حصار حمص
لقراءة الجزء الثاني: لماذا استحق الساروت أن يكون رمزاً (2-4) الجزء الثاني: ملحمة المطاحن وفراق أحياء حمص
عذراً التعليقات مغلقة