- حامد الكيلاني
ساسة العراق من المشاركين في العملية السياسية للمحتل يصابون بالإحباط وحالة من فقدان الوعي أو شبه الإغماء عندما يُجابَهون بالفشل الذريع لأداء الحكومات المتعاقبة التي اعتمدت نظام المحاصصة المذهبية والقومية، وأرست تجربة حكم قائمة على التمييز والفصل العنصري بين المكونات.
العملية السياسية سعت إلى التقسيم منذ اليوم الأول الذي شهدت فيه بغداد شراهة وتدافع وفرض النفوذ بالقوة، للاستحواذ على الأبنية العائدة إلى مؤسسات الدولة العراقية، إضافة إلى القصور المتعددة ورفعوا عليها لافتات لتنظيمات وأحزاب وحركات سياسية كانت مثار استغراب وسخرية واستهجان المواطنين الذين أدركوا، بفطرتهم وخبرتهم، ما ينتظرهم من مشاكل ومصائب قادمة.
لماذا الخشية والذعر ومعه الرفض واتهام الآخر بأنه يحاول إعادة العملية السياسية إلى المربع الأول أو نقطة الصفر؛ وهم بالتجربة والممارسة وعلى مدى سنوات الاحتلال، كما هو شعب العراق، على يقين مطلق بأن ما بني على الباطل مصيره باطل.
المربع الأول في جوهره، كرسي اعتراف للتخلص من أوزار وذمة دماء مليون قتيل والملايين من الأيتام والأرامل والثكالى والمعوقين وأعداد أكبر من النازحين في الخيام الهاربين بعيدا عن إرهاب داعش أو الميليشيات وعمليات الاختطاف والإخفاء القسري ودولة اللاقانون؛ المربع الأول طلب الغفران من شعب العراق ومن تاريخه لإعادة الإمساك بنقطة الصفر وبداية الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل.
من جاء بهم المحتل الأميركي أو الذين جاؤوا به، أعادوا العراق إلى ما تحت الصفر، أي إلى أرض بلا تسوية وبلا نقطة عودة أو بداية محتملة أو منظورة، لأنهم لم تكن لديهم مشاريع أو برامج وطنية أو إنسانية أو رغبة في التسامح أو الطموحات الحضارية، ومن كان يطرح بعض تلك الرؤى سرعان ما وهب نفسه لمجرى المشاريع الأكبر، وتحول إلى أدوات طيعة لتدمير العراق والعبث بمقدراته وركائزه، وأخطر تلك الأدوات كانت الطائفية بالخلط المتعمد بين الولاء للوطن والولاء لولي الفقيه الإيراني وهو ولاء مذهبي طائفي وسياسي، وتحت أي تبرير سننتهي إلى معايير مزدوجة وتقييم بالعمالة لنظم سياسية ودينية خارج الحدود، أي الخيانة العظمى وهي وفق أكثر قوانين العالم تستحق أقصى العقوبات.
درجة الصفر أو المربع الأول في واقع الحال العراقي يعتبر إنجازا سياسيا وطفرة نوعية، المنظومة الحاكمة تحاول طرح رؤاها لإيجاد حلول أو مصالحة للعودة إلى مربع أول لم تكن فيه لإرادة المحتل الأميركي دور في القوانين أو الإقصاء والتهميش والانتقام من الأفراد والمجموعات في حرب الهويات، التي كانت تشكل اندماج الأرومة التاريخية لبلاد وادي الرافدين بجمال نسيجها الخاص.
دون استشعار أو دراية من المنظومة الحاكمة، لكنها ما آلت إليه عملية سياسية من زهايمر وتصلب شرايين كنتيجة منطقية وطبيعية لتصرفات ساسة أسرفوا على أنفسهم بالحماقات والمعاصي الوطنية الكبرى، كأنهم من دون كوابح للشبع، لا من مال أو نفوذ أو رغبة أو سلطة، نَهَم إلى ما يتجاوز مفاهيم التخمة.
14 عاما من عمر العملية السياسية في العراق المحتل، سنوات ليست قليلة من دورات حكم متعاقبة تسارعت على التمدد لغايات فرض إرهاب الدولة الطائفي، ومهدت للميليشيات بإفساح المجال لسيطرة معادلة الإرهاب لتأخذ مداها في المبررات والشحن بين المكونات، لتتسع دائرة التداعي الحر وصولا إلى الدول وإلى أسباب متعددة، فكأن الاحتلال الأميركي والأممي بمعاييره المزدوجة في التعامل بالقرارات وفرض العقوبات فتح الباب لمفاهيم الكيل بمكيالين للسياسات وحتى مع الإرهاب. إرهاب يمكن السكوت عنه، وإرهاب مقبول، وآخر مجبرون على القبول به، وإرهاب مسموح لفترة زمنية محددة.
ما يجري الآن يضع النقاط على حروف العملية السياسية، وكما نعتقد يبدو أن اللاعب الأميركي الجديد سوف لن يبقي للعملاء حروفا أو نقاطا، والعودة إلى المربع الأول أو الصفر باتت حلما بعيد المنال بعد التهور غير المسبوق في التبعية للمشروع الإيراني وبيع العراق إلى المجهول.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومعه الفريق الأكثر معرفة بدور ملالي طهران، على دراية وبالذات من تجربتهم ومن تلك المقايضة المهينة مع باراك أوباما في الاتفاق النووي. دون لبس الإدارة الأميركية تتوجه إلى القضاء على الإرهاب؛ إيران راعية الإرهاب الأول في العالم، يردد ترامب ذلك ويصر عليه في إجابة حول تصريح فلاديمير بوتين للتخفيف من وصف الرئيس الأميركي لإيران.
المربع الأول من العملية السياسية أو نقطة الصفر من خط شروع احتلال العراق، عودة إجبارية وعلى يد الإدارة الأميركية الجديدة، أي أن إدارة ترامب تخوض صراعا مع مخلفات الإدارات الأميركية السابقة وتصفية حساباتها التي أودت إلى مأزق يستشعر معه ترامب وطاقمه بضياع هيبة الدولة العظمى وتبديد الأموال وتقديم التنازلات لنظام سياسي أخرق تمثله مجموعة الملالي التي ارتكبت الحماقات منذ العام 1979، باحتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز الرعايا كرهائن تمت الإساءة إليهم بالعنف الجسدي والنفسي؛ في جعبة ترامب ما يثير السخط عليهم وعلى سياسة وساسة بلاده لتسليم العراق، أرضا وشعبا، ومصيرا إلى حفنة أوغاد ومن دون مقابل سوى ترحيل امتلاك السلاح النووي إلى أعوام مقبلة.
روسيا وإيران والحاكم السوري والسلطة الإيرانية الحاكمة في العراق، استعجلوا تنفيذ نياتهم واختصروا الزمن لتحقيق مآربهم كل في مصلحته وأهدافه؛ دائما تتضح الرؤية بعد انجلاء المواقف وحدوث المتغيرات؛ في الأيام أو الأشهر القادمة ستبدأ التراجعات بحدود مرسومة لتغدو للعيان وللمراقبين كصيغة لتعاط أملته مستجدات السياسة الدولية وعودة أميركا كفاعل إلى العالم وإلى منطقة الشرق الأوسط.
لكن ما ستقف عنده القوى المذكورة بعد انكفائها في سلسلة حوارها أو توسطها أو تجاذبها يكون عند خارطتها المعتمدة سلفا كأهداف لا يمكن التراجع عنها؛ في تلك النقطة تحصل الحرائق أو تحضر المطافئ الوسيطة قبل سريان النار إلى مناطق أخرى.
نائب الرئيس الأميركي مايك بنس نصح إيران بعدم اختبار حزم الرئيس ترامب وأن عليها “التفكير مرتين قبل مواصلة أعمالها العدائية”، سبق ذلك وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس الذي وصف إيران أيضا بأكبر دولة راعية للإرهاب في العالم؛ هل نحن مقبلون فعلا على كسر قوالب المعايير المزدوجة في الحرب على الإرهاب؟ أم أن الصفقة إخراج إيران المحدود من سوريا، وإطلاق يدها في العراق على طريقة جدلية الانتقال السياسي لنظام الحكم في سوريا؟
الأكثر قربا في التوقعات أن الكبرياء الداخلي لإيران سيدفعها إلى تحد محدود ستدفع ثمنه ضربات تأديبية حادة، ستدفعها فعلا إلى التفكير العشرات من المرات لتقليص مفاعلاتها الطائفية في المنطقة والعالم.
ساسة العراق بالغالبية الطائفية التي تسعى إلى الاحتيال بالغالبية السياسية أو التسوية أو قوة قانونها الخاص وقوة حشدها الميليشياوي وانتهاكاتها الصارخة، يتقافزون بمراهقتهم الطائفية من خلف عباءة المرشد الإيراني، مرة بالعبث بمقدرات العراقيين، ومرة بتأخير قدم وتقديم أخرى على استحياء من أميركا وضغط قيادة دولة أصبحت كلمة السيادة فيها بسبب الاحتلال الإيراني والعملاء مثار قهقهة الرئيس ترامب.
حكام العراق كم مرة عليهم أن يعيدوا التفكير للعودة إلى مربع أول ربما لن يعثروا على موطئ أطراف أصابع فيه، أو نقطة صفر من كرامة سفحوها يوم أدخلوا الغزاة إلى العراق؟
عذراً التعليقات مغلقة