*علياء تركي الربيعو
تصف جميلة، الصومالية الهاربة من الموت عبر البحر إلى اليمن، المعاناة التي تتكبّدها النسوة في هذه الرحلة، وتقول “إن لدى المهربين رمحاً حديدياً مدبب الرأس، يقومون بإدخاله في أحشاء أي امرأة تحاول التذمر من الوضع، أو رفض الأوامر”. وتتابع سرد التفاصيل المرعبة، ضمن شهادةٍ يرويها جلال الشرعبي في نص “رحلة الموت الصومالي: من بصاصو إلى خليج عدن”، قائلة: “لا أستطيع نسيان المشهد المأساوي لاغتصاب أختي أسماء (20 عاما) من قبل اثنين من المهربين وسط ذهولنا وأمام أعيننا جميعاً، وعندما تذمرنا بالبكاء، أدخلوا الرمح الحديدي في أحشائها، ثم ألقوا بها في البحر”. وتضيف جميلة “كنت مع أمي التي انهارت، وأغمي عليها من هول المشهد، فأختي أسماء كانت، قبل اغتصابها، تشتكي من الجوع، فوجدت نفسها أمام وحوش بشرية أفقدوها عذريتها وحياتها أمام أعيننا جميعا”.
أما خديجة محمدوفيتش التي التقيتها في سراييفو عام 2014 في مؤتمر “حشد النساء من أجل التغيير في البوسنة وسورية”، فهي من النساء البوسنيات العديدات اللواتي يحملن ندوب مذبحة سربرنيتشا التي حدثت عام 1995. أخبرتنا في المؤتمر أنها استطاعت، وبعد انتظار طويل دام عشرين عاماً، أن تجد رفات ابنها المقتول ودفنه بمساعدةٍ من اللجنة الدولية للمفقودين. وبالتالي، أصبحت قادرةً على أخذ قتلة زوجها وابنها إلى المحكمة في لاهاي، وتنهدت بأسى: “أصبح في وسعي أن أرتاح الآن”.
في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، وفي كل مرةٍ، تُثار الأسئلة ذاتها عن دور النساء ووضعهن في النزاعات، أتذكر جميلات وخديجات كثيرات، والثمن الذي تدفعه النساء من جرّاء الصراعات والحروب في بلدانٍ، مثل سورية وليبيا واليمن وغيرها، ويستوقفني السؤال المتكرّر: هل تعاني النساء أكثر من الرجال في حالات النزاع؟ ترتسم الإجابة في صورة وصوت صرخات النساء اللواتي يُغتصبن، ويتم استغلالهن جنسياً، والتحرش بهن كيفما اتفق، تليها ردة فعل الأمم المتحدة وممثليها الباردة المنادية بضرورة حماية المرأة، مع العلم أن كلمة “حماية” لا تعني “منعاً” لما تتعرّض له من انتهاكات، وخصوصاً خلال النزاعات المسلحة.
تستمر الأحداث نفسها، غير مباليةٍ بالقوانين الدولية والمعاهدات، وتكشف عن وجهٍ أقبح، كان جديدها القبض على شبكة للاسترقاق الجنسي في لبنان تشمل 75 امرأة، معظمهن سوريات تعرضن للضرب والاغتصاب والاحتقار، يومياً، وبشكل دائم منذ سنوات، وأجبرن على ممارسة البغاء. أين يكمن التواطؤ الأمني والمنفعي وغيرهما في التستر على شبكات الدعارة والمتاجرة بالنساء في بلدان كثيرة في العالم، المتحضر والمتأخر منها، في زمنٍ تستطيع فيه أجهزة الأمن في هذه البلدان اكتشاف أفكار الناس ومراقبتها في رؤوسهم، وقبل أن ينفّذ أي مهووس هنا أو هناك عملية إرهابية أو ما شابه؟
من يحمي المرأة؟
تجعل الأعداد الخيالية للنساء المغتصبات خلال النزاعات المسلحة من قضية الاغتصاب محوريةً في أي نزاع مسلح، ففي الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية وفي أثنائها، كان اغتصاب النساء العبيد من أسيادهن البيض ظاهرةً منتشرة. وعند احتلال اليابانيين مدينة نانكنغ الصينية تم اغتصاب أكثر من عشرين ألف امرأة وتعذيبهن وقتلهن. وتفيد إحصائيات بأنه في أثناء الحرب العالمية حجزت ما بين 100 و200 ألف امرأة كورية في معسكرات الجيش الياباني، حيث تم اغتصابهن وتعذيبهن. كما اغتصبت القوات الروسية أكثر من مليوني امرأة ألمانية بعد سقوط برلين عام 1945، انتقاما لما قامت به القوات الألمانية في روسيا. وتوضح الأرقام الرسمية أن أكثر من 20 ألف امرأة وفتاة اغتصبن في أثناء حرب البلقان في 1992. وفي رواندا بين عامي 1994- 1995 اغتصبت نحو 16 ألف فتاة وامرأة.
في سورية، ووفقاً لتقرير أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2014، ارتكبت القوات الحكومية ما لا يقل عن 7500 حادثة عنف جنسي، بينها قرابة 850 حادثة حصلت داخل مراكز الاحتجاز، وأيضاً بينها ما لا يقل عن 400 حالة عنف جنسي لفتيات دون سن الـ18. وبحسب التقرير، قتل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ما لا يقل عن 81 امرأة، بينهن خمس نساء قتلن رجماً حتى الموت، في كل من دير الزور والرقة وريف حماة الشرقي، فيما قتلت الفصائل المسلحة الأخرى 255 امرأة.
سلسة طويلة لنساء أصبحن مجرد أرقام تمتد من سورية إلى العراق وأفغانستان وغيرها. ولكن، ما الذي يبرر استمرار هذا العنف الجنسي الواقع على المرأة كل هذه العقود؟ وهل يعقل أن كل الحلول نفدت حتى أصبحنا اليوم نرى الاغتصاب متلازمة مرافقة لكل نزاع أو صراع؟ وهل الاغتصاب الأمر الوحيد الذي تعاني منه النساء في النزاعات؟ بالطبع لا، فمعاناة النساء تتسع لما بعد ذلك. فتغير الأدوار الاجتماعية أصبح واقعاً مفروضا اليوم، حيث أن المرأة تضطر، بعد مقتل الزوج أو الابن، إلى اقتحام سوق العمل، والقيام بأعمال هامشية ومضنية، فهي المسؤولة عن العائلة. كذلك يزيد استخدام الأسلحة في المناطق السكنية من المخاطر الصحية على الأفراد المتبقين داخلها، ومعظمها من النساء والأطفال.
مصاعب أخرى تواجهها النساء، تبلغ أشدها داخل مخيمات اللاجئين في مناطق عديدة، حين تضطر النساء للخروج من المخيمات بحثا عن الماء أو الطعام أو الحطب، فإنهن يقعن، في أحيان كثيرة، في حقول ألغام، إما تقضي عليهن أو على أطرافهن. وحتى الطعام يتحول إلى سلعة بيد محتكري الطعام في المخيمات، وجلهم من الرجال الذين يبتزون النساء ويستغلونهن جنسيا. وهذا محزن، أو لم يستطع المجتمع الدولي توفير طعام وخدمات صحية خاصة بالنساء مع مشرفات (نساء) يوزعن الطعام والحاجات الشخصية للنساء، بدلا من تركها بأيدي الرجال؟ كيف يغيب هذا الأمر عن المجتمع الدولي الذي يتشدّق بأنه يهتم بالمرأة؟ أم أن كل قوانين حماية المدنيين، وخصوصاً حماية المرأة، ضرب من الخيال؟ وبالتالي، علينا الاعتراف أن القرار يعود بالأصل إلى فرقاء النزاعات المسلحة الذين لا يلتزمون بحماية المرأة أو تطبيق المعاهدات بخصوص الانتهاكات التي تتعرّض لها، فهم غير مجبرين على ذلك، كما يصرح كثير منهم، فالمرأة لا تشكل أولوية في حربهم! ليبقى السؤال المطروح يكرّر ذاته من دون إجابة، من يحمي المرأة؟
من ضحايا إلى مشاركات
تذكر الكاتبة والباحثة والناشطة نوال السعداوي، في إحدى محاضراتها، حادثة إغلاق جمعية “تضامن المرأة العربية” عام 1991، التي أسّستها، لأنها وقفت ضد حرب الخليج. واستهزأت السعداوي من سؤال الدولة لهنّ حينها “مالكم ومال الحرب؟”. وأضافت: “الجنس له علاقة بالحرب، المرأة في ورطة، سواء في الحرب أو السلم”. وهذا صحيح، حيث تجبر النساء على التحول من ضحايا للحرب إلى المشاركة فيها بالانضمام لصفوف المقاتلين أو بدعوات إليهن للمشاركة في صنع السلام، إذ تقع على عاتقهن المسؤولية الأخلاقية في التحضير لمجتمع ما بعد الحرب. وبالفعل، تقام لهن الدورات التدريبية والورشات والمشاريع الصغيرة. لكن، سرعان ما تسحب صلاحياتها بعد انتهاء النزاع، فظاهرة تمكين المرأة، خلال فترة النزاعات المسلحة، غالبا ما تكون ظرفيةً، تنقضي بانقضاء تلك الفترة، ليعود وضعها إلى التهميش المعتاد سابقا، خصوصاً بعد عودة الرجال من ساحة المعركة. وبالتالي، تفرض عليها مجدّدا العودة إلى أداء الأدوار التقليدية، وذلك باستثنائها من عملية اتخاذ القرار في ما يخص قضايا المساعدات وإعمار البلاد وتحقيق السلام.
في البوسنة، مثلاً، عندما عقدت محادثات السلام قرب دايتون، في أوهايو في الولايات المتحدة الأميركية في عام 1995، لم تشارك النساء في هذه المحادثات، على الرغم من أنهن كن أكثر المتضرّرات فيها. واستغرق الأمر منهن عقداً للوصول إلى مكان وجودهن الآن بمبادرات شخصية في ما يخص انتهاكات حقوق الإنسان ضد المرأة. وقد تكرّر الأمر نفسه في محادثات السلام الخاصة بسورية، والجدل الدائر حول غياب النساء عن هذه المحادثات.
طريق طويل
صدرت قرارات دولية عديدة لمناهضة العنف والتمييز ضد النساء، من أهمها: قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1325 الصادر في عام 2000 حول دور النساء في السلام وحل الصراعات وحمايتهن في أثنائها. قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 52/86 حول تدابير منع الجريمة والعدالة الجنائية للقضاء على العنف ضد النساء. قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 59/165 عام 2004 للعمل من أجل القضاء على الجرائم المرتكبة ضد النساء والفتيات باسم الشرف. قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1820 الصادر عام 2008 حول العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في أثناء النزاعات المسلحة وضرورة حمايتهن. كما أصدر الأمين العام للأمم المتحدة عام 2005 قراراً لتحضير دراسة شاملة حول العنف ضد النساء التي صدرت في 2006 بعنوان: “دراسة متعمقة بشأن جميع أشكال التمييز ضد النساء”.
ومع هذا، ما زالت المرأة تتعرّض إلى أنواع عديدة من العنف الممارس ضدها: عنف داخل العائلة كالضرب والاغتصاب، وفي المجتمع كالعمالة القسرية أو الدعارة، ومن الدولة التي إما تفرض تشريعات تمييزية، أو ترفض توقيع بروتوكولات كثيرة، أو حتى تتغاضى عمّا تسمى جرائم الشرف.
والسؤال المطروح الآن، ما هي القيمة الحقيقية لهذه المعاهدات والاتفاقيات، وكيف نستطيع فرضها على أرض الواقع؟ ولماذا لا نشهد مبادرات جدية تنهي عذاب كثيرات؟ وكيف لنا أن نخفف عن فتيات كثيرات، واجهن الأمر نفسه، مثل جميلة سواء في الصومال، وأخريات في سورية وبلدان أخرى؟
للأسف، أصبحت قضية الاغتصاب والعنف الجنسي واحتياجات النساء من المساعدات والحماية قضايا محملة بشحنات سياسية. ربما تعود أسبابها إلى مدى استجابة المجتمع الدولي لأهمية هذه القضايا، وإلى التابوهات الاجتماعية المحيطة بالاغتصاب، من تستر على الأمر إلى جرائم الشرف وما شابه. كذلك ساعد العنف السياسي المبني على احتكار السلطة في يد الرجال، في غياب تحليل جندري خاص بالمرأة للأزمات، والذي من أسبابه إقصاء المرأة عن القرار السياسي قبل النزاع.
بيد أن الإصرار على فرض رؤية وحلول عامة على النساء جميعها لا يساعد أيضا، فأوضاع النساء وما يقع عليهن من عنف ومعاناة تختلف من امرأة إلى أخرى. وأعتقد أن الحل يكمن في وجود قوانين دولية تفرض عقوبات شديدة، وإعادة تفسير صكوك دولية لحقوق الإنسان، وإيجاد آليات للمعاقبة. للأسف، أصبحت ثقافة الإفلات من العقاب في جرائم ممارسة ضد النساء منتشرة. لذا، بدلا من الشجب والاستنكار والدعوات للحماية التي لا فاعلية لها على أرض الواقع، لماذا لم نشهد حتى الآن أي محاكمةٍ بحق جرائم حرب ارتكبت ضد النساء دوليا، على سبيل المثال؟ ألا يستحق هذا الأمر إعادة النظر فيه، وإدراك أن من شانه أن يساهم في التخفيف من العنف الممارس ضد المرأة؟
تقول الحقيقة إن هناك عنفا ممارسا على المرأة في المجتمعات، قبل النزاع وفي أثنائه وبعده. لذا فنشر الوعي بخصوصه وباستمرار من دون الحاجة إلى تذكره فقط في هذا اليوم، هو ضرورة، وعلى الدول العربية والمجتمع الدولي تبني مسؤوليتها، فكلاهما لديه طريق طويل، لقطعه من أجل تلبية التزاماتهما الدولية لحماية النساء في النزاعات. وحبذا لو يتم ذلك بالتشاور، ليس فقط مع نساء ناشطات وخبراء دوليين، ولكن قد يساعدنا الاستماع إلى نساء عاديات، مثل جميلة وخديجة وسلوى وأمل ونور وغيرهن، ونساء المخيمات اللواتي تعرّضن لانتهاكات جسدية ونفسية، فهن عانيْن، ومازلن يعانين، الأمرّين، حتى نستطيع الخروج بقوانين تعكس أرض الواقع، وتعترف أن حقوق الإنسان تعني حقوق المرأة أيضا. وربما حان الوقت للتخلص من هذا الإرث التاريخي العنيف بما يخص النساء، والتوقف عن تقديمهن قرابين للحرب، وفي أوقات السلم كذلك.
المصدر: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة