سقوط الفاشر.. بوابة التقسيم الثالث للسودان

لجين مليحان30 أكتوبر 2025آخر تحديث :
سقوط الفاشر.. بوابة التقسيم الثالث للسودان

يبدو أن السودان يعيش اليوم أخطر مراحله منذ استقلاله، فمع سقوط مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، تدخل البلاد مرحلة جديدة قد تمهّد لتقسيم ثالث بعد انفصال الجنوب، وتفتح الباب أمام سيناريو قيام دويلة دارفور المستقلة.

الفاشر، التي كانت لسنوات مركزاً رمزياً لدارفور، باتت اليوم تحت سيطرة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”. هذه القوات ذات التكوين القبلي العربي، تضم مقاتلين من مناطق تمتد من النيجر وتشاد ودول غرب إفريقيا، جُنّد معظمهم ضمن مشروع حرب طويل أُشعل في غرب السودان.

ومع دخول قوات حميدتي إلى الفاشر، يرى مراقبون أن الطريق بات ممهّداً لتأسيس كيان سياسي جديد في الإقليم، تكون الفاشر عاصمته المفترضة، في مشهد يعيد للأذهان الانفصال الأول للسودان عام 2011، حين أُعلن استقلال الجنوب، وبهذا التطور الخطير، يمكن القول إن السودان يتجه نحو تقسيمه الثاني فعلياً، وربما الثالث مستقبلاً، إذا استمرت موازين القوى على هذا النحو.

في المقابل، يواصل الجيش السوداني سيطرته على الخرطوم وبعض المناطق الشمالية والشرقية، بينما تظل الحرب مفتوحة على مصراعيها، إذ ما تزال حركات مسلحة إفريقية تسيطر على جيوب محدودة داخل الإقليم.

ويبرز هنا بعدٌ جديد للصراع، إذ يسكن مدينة الفاشر مسلمون من أصول إفريقية، فيما تتكون قوات حميدتي من قبائل عربية، الأمر الذي يجعل النزاع يأخذ منحى عرقياً ودينياً خطيراً يهدد وحدة السودان ويغذّي خطاب الكراهية بين مكوّناته.

خلفيات الصراع في دارفور

تعود جذور الصراع في دارفور إلى بدايات الألفية، حين تفجّرت التوترات بين القبائل العربية والقبائل الإفريقية على خلفية التهميش الاقتصادي والسياسي الذي عانى منه الإقليم لعقود.

عام 2003 اندلعت الحرب رسمياً بعد تمرد حركتي العدل والمساواة وجيش تحرير السودان ضد حكومة الخرطوم، متهمتينها بتهميش الإقليم. وردّت الحكومة حينها بدعم ميليشيات محلية عُرفت باسم الجنجويد، وهي النواة الأولى التي تطورت لاحقا لتصبح “قوات الدعم السريع”.

هذه الحرب خلّفت مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين، واتُّهم النظام السوداني بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، ما دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السابق عمر البشير عام 2009.

ورغم توقيع اتفاقات سلام متكررة، بقيت جذور الصراع قائمة: فقر، تهميش، وانقسام عرقي حاد، سرعان ما انفجر مجددًا بعد سقوط البشير عام 2019.

من هم قوات الدعم السريع؟

تُعد قوات الدعم السريع واحدة من أكثر التشكيلات العسكرية نفوذاً وإثارة للجدل في السودان.

تأسست رسمياً عام 2013 بمرسوم من نظام عمر البشير، بهدف “ضبط الأمن في دارفور” ومحاربة التمرد، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى قوة شبه مستقلة تملك تمويلها وتسليحها وسلسلة قيادتها الخاصة.

يتكوّن أغلب مقاتليها من أبناء القبائل العربية الرحّل المنتشرين في دارفور، إضافة إلى عناصر من تشاد والنيجر ومالي.

تتراوح تقديرات عدد عناصرها بين 70 إلى 120 ألف مقاتل، وهي قوة ضخمة مقارنة ببنية الجيش السوداني التقليدي.

وتُتهم هذه القوات بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين في دارفور والخرطوم، تشمل القتل الجماعي، الاغتصاب، والنهب، ما جعل صورتها مشوّهة أمام الداخل والخارج رغم خطابها “الوطني”.

من يدعم حميدتي وقواته؟

يحظى حميدتي بدعم خارجي متنوع، اقتصادياً وعسكرياً، جعل قواته تصمد في وجه الجيش السوداني رغم تفوق الأخير النظامي.

تشير تقارير دولية إلى أنّ الإمارات لعبت دوراً محورياً في تمويل قوات الدعم السريع، من خلال تجارة الذهب السوداني الذي يسيطر حميدتي على جزء كبير منه في دارفور.

كما استفادت قواته من علاقات غير معلنة مع مرتزقة فاغنر الروسية، الذين زوّدوها بالأسلحة والخبرات اللوجستية، في إطار تبادل مصالح يتعلق بالذهب والنفوذ في الساحل الإفريقي.

في المقابل، يحظى الجيش السوداني بدعم من مصر وبعض القوى الإقليمية المحافظة التي ترى في حميدتي تهديداً لوحدة السودان واستقراره.

وبين هذين المحورين المتصارعين، يجد السودان نفسه اليوم في قلب حرب إقليمية بالوكالة، تتقاطع فيها مصالح الذهب والنفوذ مع صراع الهويات والعرقيات.

الإسلام بين الصورة والممارسة

لقد قدّمت الحرب في دارفور، للأسف، صورة مشوّهة عن الإسلام والعرب في نظر كثيرين داخل الإقليم وخارجه.

فالأعمال الوحشية والانتهاكات التي ارتكبت باسم الدين أو القبيلة شوّهت القيم الإسلامية التي ترفض العدوان والتمييز، وأعطت مبرراً لبعض القوى المحلية لتصوير الإسلام على أنه أداة قهر، لا رسالة عدل ورحمة.

وفي ظل هذه الصورة القاتمة، يبرز تساؤل جوهري: أين الإسلام من كل ما يحدث؟ وأين الضمير الإنساني من جرائم تدمّر المجتمعات باسم الهوية؟

المؤشرات الحالية تنذر بأن السنوات المقبلة قد تشهد حرباً أهلية جديدة في دارفور، بين المكوّن العربي ممثلًا في قوات حميدتي وحلفائه، والمكوّن الإفريقي الذي يرى نفسه ضحية “احتلال عربي أو ديني” كما تروج بعض الخطابات المحلية.

هذه الحرب، إن اندلعت مجدداً، ستقود إلى مأساة إنسانية جديدة، وربما إلى تفكك السودان نهائياً إلى كيانات ضعيفة متناحرة.

وفي الختام

إن سقوط الفاشر ليس مجرد حدث عسكري، بل إنذار وجودي للسودان كله. فإما أن يواجه السودانيون واقعهم بشجاعة، ويعيدوا بناء دولتهم على أسس جديدة عادلة وشاملة، وإما أن ينزلق البلد إلى انقسام لا عودة منه، تحكمه الميليشيات والقبائل، وتغيب عنه الدولة إلى الأبد. إن دارفور اليوم ليست فقط معركة على الأرض، بل اختبار للضمير، ولقدرة السودان على البقاء دولةً موحدة بعد أن مزقته صراعات الداخل وتقاطعات الخارج.

اترك رد

عاجل