يجمع بين الخطاب الممانع وما يمكن تسميته الخطاب الممانع المعكوس التمركز حول إسرائيل، بينما المهم هو التمركز حول مجتمعاتنا وحاجاتها ومقتضيات تطورها، بما فيها بطبيعة الحال المجتمع الفلسطيني. هذا على أي حال ما تحاول قوله هذه المقالة.
الممانعة خطاب وبنية منتجة له، اسمها محور الممانعة أو المقاومة. وفي الكلمة الأخيرة مصادرة لمدرك تناقض ممارسات المحور المذكور التي هي، بالأحرى، قامعة للمقاومات الاجتماعية والسياسية والفكرية في بلدان سيطرتها، وراعية لضروب من المحافظة المتطرفة ضد تطلعات الديمقراطية والتحرر الاجتماعي. هذا للقول على الفور إنه يستحسن النظر في البنية لفهم الخطاب وليس العكس، الانطلاق من الخطاب لفهم البنية، أي محور الممانعة. مركز البنية/ المحور إيران، وهي قوة قومية طموحة، تعمل على تعظيم وزنها ونفوذها، في جوارها العربي بخاصة. فكرة المحور ذاتها تعطي انطباعاً بتحالف بين أنداد. يتعلق الأمر في واقع الحال بقوى تابعة أو محمية. حزب الله شريك أصغر، النظام العراقي تابع، النظام السوري محمية. القوة المقررة، إيران، تستخدم وزنها المالي والعسكري والديني لاستتباع البلدان المذكورة بأساليب احتلالية، تحول دون قيام حياة سياسية تعددية فعلياً في أي منها، وتتوافق مع تمزيقها طائفياً وتغذية الكراهيات المذهبية فيها. الخطاب موجه نحو حماية بنى تسلط وتمييز مفرطة القمعية وذات كوامن إبادية عالية، رأيناها في تمام ازدهارها في سوريا، وتلامحت بصور مختلفة في كل بلدان المحور. فلسطين هنا ذريعة لشيء آخر، هو السلطة والامتياز والنفوذ، على نحو ما ظهر في سوريا أكثر من غيرها. سوريا تعرض بجلاء فساد قضية المحور لأنها شهدت على يده أول إبادة في القرن الحالي، قبل أن تعقبها غزة على يد إسرائيل. وبينما وفرت العدائية الإسرائيلية المتواصلة للممانعين قضية عامة، إلا أن المحور من جهته عمل على منع قيام عام وطني معافى أو شبه معافى في بلدان التبعية الإيرانية، فوق عداء مركزه الإيراني للعالم العربي. إسرائيل في خطاب المحور هي العدو المعلن الذي تسوغ مواجهته قمع أي مقاومات ومطالب اجتماعية في البلدان المعنية، بما في ذلك إيران. من هذا الباب فإن إسرائيل مفيدة جداً لأنها توفر قضية شرعية لإطلاق يد المحوريين في أربعة بلدان أو خمسة. أو كانت إسرائيل كذلك حتى وقت قريب.
ما هو نقيض الممانعة والممانعة المعكوسة معاً هو نقل السياسة والتفكير والخطاب إلى التمركز حول مجتمعاتنا الراهنة المنهارة أو المشارفة على الانهيار
إذ تبدو الأمور مختلة منذ اندلاع جنون الدم الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر 2023، ثم ما يبدو من عمل إسرائيلي راهن لتدمير حزب الله وشكْم إيران.
على أن هناك تمركزاً آخر حول إسرائيل في المجال العربي، هو بدوره بنية وخطاب: الممانعة المعكوسة أو قوى “التطبيع”. البنية هنا لا تأخذ شكل محور له مركز قومي توسعي مثل إيران. يتعلق الأمر بالأحرى بقوى عربية محافظة، لا تمتنع عن رؤية التكوين الاستعماري والتفوقي والعنصري لإسرائيل فقط، وإنما تبدو معنية بحماس بالتصالح أو حتى التحالف معها. ليس أن هذه القوى تفضل اجتناب الحرب والصراعات المسلحة العنيفة، وتفضل الحلول السياسية، مما يمكن أن يكون وجيهاً اليوم، وربما كل الأيام، بل تبدو على عداء مع أي مقاومات سياسية واجتماعية، مسلحة أو غير مسلحة، ليس في بلدانها فقط، بل وفي عموم المجال العربي. الإمارات العربية المتحدة تبدو طليعة متطرفة لهذا المسعى المحافظ المقاتل، الرجعي بحق، والمغذي لكل ما هو فاسد ومافيوي حولها. وهي قريبة من تبني الخطاب الإسرائيلي عن حرب الإبادة ضد غزة. المدرك المركزي في الخطاب هو الإرهاب، مع توسع في تعريف على الطريقة الإسرائيلية ليشمل أي مقاومات مسلحة، أو حتى غير مسلحة. لكن كما أن الممانعة المعكوسة ليست محوراً، فإن خطاب الممانعة المعكوسة ليس حصراً خطاباً موحداً لدول ومنظمات أو ميليشيات مرتبطة بها. يجد المرء هذا الخطاب على نطاق واسع في صحف ووسائل إعلام القوة المحافظة، كما عند من اهتدوا إلى الممانعة المعكوسة بفعل معاناتهم من إيران وحزب الله والحكم الأسدي. وينزع هذا الخطاب إلى أن يكون معكوس الممانعة لفرط انشغاله بالرد عليها، ولتمركزه هو الآخر حول إسرائيل، أو بقائها مركز النقاش. وبفعل هذه المركزية، للخطابين بنية واحدة، تحول دون أن يكون أي منهما عكس الآخر فعلاً. الممانعة كاذبة بنيوياً في ادعائها المقاومة بفعل منازعها الإبادية ونزعاتها المحافظة اجتماعياً وسياسياً، وتراجع قواها أمام إسرائيل في عز عدوانيتها؛ لكن الممانعة المعكوسة ليست عكسها في ذلك. الأولى تزايد على الجميع، الثانية تُناقض بزعم الواقعية، ويشعر المرء طوال الوقت بأن هناك شيئا مريضاً ومتطرفاً في الطرحين. فضلاً عن ذلك، تتشارك الممانعة والممانعة المعكوسة في ممانعة السياسة كتعدد وتسويات وحلول وسط، في مجتمعاتنا نحن أولاً، كما في السياقات الإقليمية والدولية. دعوة الممانعين المعكوسين للتطبيع مع إسرائيل لا تشمل تطبيع أوضاع مجتمعاتهم على مستوى الحريات العامة وحقوق الإنسان.
ما هو نقيض الممانعة والممانعة المعكوسة معاً هو نقل السياسة والتفكير والخطاب إلى التمركز حول مجتمعاتنا الراهنة المنهارة أو المشارفة على الانهيار. وهو التفكير في فلسطين كقضية حقوق ومساواة وعدالة ونزع استعمار. هكذا فكر فيها إدوارد سعيد في “مسألة فلسطين”، وهكذا يفكر فيها رشيد الخالدي في “مائة عام من الحرب على فلسطين”. ليس كقضية صراع وجودي، أي عدمي، تشارف مجتمعاتنا وحدها فيه على خسارة الوجود والسقوط في العدم. هذا حتى لو لم نقل شيئاً عن اللاإنسانية الجذرية في الصراعات الوجودية، وبالعكس صفتها الإبادية المتأصلة.
وبهذه الدلالة لقضية فلسطين كقضية حقوق وعدالة ومساواة ونزع استعمار، يقترب تصورها من خطاب الربيع العربي الذي يدور حول الحقوق والكرامة والمواطنة والعدالة والحريات السياسية ونزع استبداد. النقيض الحقيقي للممانعة هو الربيع العربي، وليس الممانعة المعكوسة. ومعلوم أن البنية الممانعة أظهرت عداءً عنيفاً للربيع العربي، وخاصة في سوريا حيث انخرطت في حرب الإبادة الأسدية ضد الثورة منذ البداية، لكنها طورت تشككاً قوياً حيال فكرة الديمقراطية والحقوق عموماً في العشرية الماضي.
وفي هذه النقلة في النموذج نحو مجتمعاتنا وسياستها، نستعيد الأبعاد التحررية، الفكرية والسياسية والأخلاقية، لصراعاتنا، بما في ذلك الصراع من أجل فلسطين، ونوطد ذلك في التطلع النهضوي التحضري الذي كان شاغل العرب منذ عودتهم إلى الظهور الفاعل على مسرح التاريخ قبل ما لا يزيد على قرن ونصف القرن. لقد أضعنا طريق الحضارة والنهضة عبر ضخ هائل من الأكاذيب والمزايدات، أو عبر تحطيم شعور عموم الناس بأنهم مستحقون للعدالة والحرية والحق. وظاهر اليوم أننا نواجه ساعة الحقيقة، في أوضاع أشد دماراً في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، واليمن، من أي وقت سبق، فلا يبقى لنا غير أن نقول كلاماً حراً، لا يقبل التأجير، وهذا خلافاً للممانعة والممانعة المعكوسة معاً.
وليس في سياسة تتمركز حول مجتمعاتنا وحقوق وكرامة الناس فيها ما يقضي بإدارة الظهر لفلسطين. فعدا أنها أحد هذه المجتمعات، فإنه ليس في سوريا ولبنان وعراق ويمن موحدة، تعالج مشكلاتها الكثيرة بالسياسة، ولا تقوم على الطائفية، ما يؤذي فلسطين وقضيتها.
نقطة ضعف هذا الطرح هو أنه لا يستند إلى محور مثل محور إيران، ولا حتى إلى كوكبة قوى محافظة بلا مركز. لكنه مشروع، مشروعنا، نحن المتطلعين إلى حرية واستقلال بلداننا مهما تكون أوضاعنا عضالاً اليوم. فإذا كانت فلسطين قضية حرية، وهي كذلك، فالطريق إليها هو حريتنا في بلداننا. ليس بالتأكيد “طريق القدس” التي كانت درب إيران وأتباعها لتدمير حياة ما لا يعد من السوريين، واليوم من اللبنانيين، ودوماً من الفلسطينيين.
عذراً التعليقات مغلقة