يكثر الحديث عن تراشق إسرائيلي – إيراني محتمل بسبب ارتفاع وتيرة شحنات المسيرات والصواريخ المرسلة من إيران إلى سوريا ولبنان، ويعتقد البعض أن الكابح الروسي كان نوعاً من الضمانة لمنع اندلاع اشتباك مباشر بين الجانبين.
لكن هل تستطيع إيران بالفعل التورط في خوض حرب مباشرة مع الإسرائيليين؟ هناك عوامل عديدة تمنع ذلك، بقدر ما يمكن أن تنزلق القدم الإيرانية بسهولة وبشكل غير محسوب، في مستنقع العنف الذي أنشأته من حولها.
ما تزال نظرية رئيس المجلس الوطني الإيراني – الأميركي تريتا بارسي صالحة وذات فعالية، خاصة إذا علمنا أن تلاميذه هم الذين شكلوا فريق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لإعداد النسخة الأولى من الاتفاق النووي مع إيران. قال بارسي إن “إيران هي الصديقة الحميمة لإسرائيل، ولذلك علينا أن نحافظ على هذه الصداقة. لن تصدقوا هذا، كانت تلك الكلمات لرئيس وزراء إسرائيلي، ليس بن غوريون ولا غولدا مائير في عهد الشاه، بل إنه إسحاق رابين والحاكم الإيراني الذي عاصره كان أحمدي نجاد”.
لا شيء يمنع من استمرار “الحلف الغادر” كما أسماه بارسي ذات يوم، فهو من وجهة نظره حلف عابر للأيديولوجيا، لا يتوقف على من يحكم في العواصم الثلاث؛ واشنطن وتل أبيب وطهران، لأن الضرورة هي التي تتحكم في صلابة هذه العلاقة الوثيقة التي تقوم على مصالح مشتركة حتى من دون اتفاق.
لا يمكن لذلك الحلف، بحسب بارسي، أن ينهار، فانهياره سيعني ضرراً كبيراً ستتلقاه الولايات المتحدة وإسرائيل قبل إيران.
إسرائيل تكثر اليوم من نشر الوثائق والمعلومات عن شبكة انتشار مصانع الأسلحة الإيرانية في سوريا.. للضغط على الولايات المتحدة
فالنووي الإيراني كان قد تأسس بالأصل على أيدي الخبراء الأميركيين في الخمسينات، وإضعاف وتهلهل الدول العربية المحيطة بالإسرائيليين والإيرانيين مسألة مشتركة الأهداف وتحقق للطرفين الغرض ذاته. فلماذا سيصطدم الإيرانيون بالإسرائيليين بشكل مباشر؟
إن اصطداماً مباشراً سيعني نهاية حقبة ذلك الحلف، وبداية حقبة جديدة لا يمكن لها أن تقوم إلا استناداً إلى سلام عربي – إسرائيلي، ولهذا يرسل الإسرائيليون التطمينات المباشرة إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد، موضحين له أنه ليس المستهدف من العمليات العسكرية الإسرائيلية على الأراضي السورية.
المنطق الجيوسياسي هو الذي يتحكم بطبيعة العلاقة ما بين إيران وإسرائيل، وفي محكات معينة نجده يكسر صبغته المألوفة، ليخرج إلى العلن، كما شهدنا خلال الحرب العراقية – الإيرانية وتقدّم الجيش العراقي، حين قلقت إسرائيل من انتصار عراقي يلوح في الأفق، فشرعت في تقديم المساعدات لجيش الخميني وتزويده بقطع الغيار ليصمد في الحرب، بالإضافة إلى تزويده بأسلحة أميركية من صنع “الشيطان الأكبر”. وحينها ضغطت إسرائيل على الولايات المتحدة، كما يقول بارسي، لتفتح جسرا سياسيا مع إيران الجديدة، وتزود إيران بالتكنولوجيا العسكرية، قائلة إنه لا مشكلة في الأيديولوجيا المعادية التي يعلنها نظام الملالي الإسلامي ضد الغرب وإسرائيل “ليبلغ هذا ذروته في فضيحة إيران – كونترا في الثمانينات”.
قبل ثماني سنوات كتبت عن هذه العلاقة في هذه الصحيفة، متتبعاً ما تصوره الإيرانيون عن “الهندسة الأمنية للمنطقة العربية” بعد غزو العراق للكويت، فقد قدموا حينها مساعدة عسكرية ذات قيمة للقوات الأميركية وقوات التحالف، لكن الولايات المتحدة أرادت إبقاء الأوضاع على حالها، فقرر الإيرانيون استخدام الورقة الإسرائيلية من جديد.
إن تعريض أمن إسرائيل للخطر، بشكل غير مباشر، وعبر الوكلاء العرب، حزب الله، حماس، الجهاد الإسلامي، كفيل بتحريك القرار الأميركي مجدداً ليصب في صالح الإيرانيين ويكسر عزلة طهران ويرفع عنها العقوبات.
سياسة “فرض التكلفة” التي طبقها الخبراء الإستراتيجيون الإيرانيون، جلبت لهم الأميركيين من آذانهم بالفعل، ولهذا قال مارتن إنديك وقتها إن “الإيرانيين فهموا الدرس بشكل صحيح”.
بعد انتخاب رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو في العام 1996 حاول الاتصال بالإيرانيين لكي يعيد الحياة إلى ما وصفه بـ”عقيدة المحيط الجغرافي السياسية والأمنية”، فماذا فعلت إيران عند ذاك؟
أهملت الطلب الإسرائيلي، لأن استثمارها في المعادلة العدائية للإسرائيليين أكثر ربحاً من استثمارها في أي صفقة سلام.
لكن بعد سنوات، وحين بدأت إيران تشعر أن هناك مبادرة عربية تلوح في الأفق، وصل الرد الإيراني الذي عرضاً أرسلوه إلى الرئيس جورج بوش الابن يقول بأن إيران على استعداد تام لإعادة العلاقات مع إسرائيل كما كانت عليه أيام الشاه، فكان جواب إدارة بوش التجاهل. بالطبع لأن استثمار الولايات المتحدة بدورها للتوتر ما بين الإيرانيين والإسرائيليين أكثر مردودية.
تعريض أمن إسرائيل للخطر، بشكل غير مباشر، وعبر الوكلاء العرب، حزب الله، حماس، الجهاد الإسلامي، كفيل بتحريك القرار الأميركي مجدداً ليصب في صالح الإيرانيين ويكسر عزلة طهران ويرفع عنها العقوبات
ومع تطورات العالم العربي بعد العام 2011، وجدت إيران نفسها أمام فرصة تاريخية، لتفعيل التحالف الجيوسياسي الملزم، أما إسرائيل فبقيت تعتمد في نظرتها إلى إيران على “عقيدة الطرف” الذي يكون بعيدا عن “المحور”، فيما تعتمد إيران على المحافظة على قوّة “العصر السابق” أو التاريخ حين كانت الهيمنة “الطبيعية” لإيران تمتد لتطال الجيران القريبين منها.
العقيدة التي تحكم نظرة الإيرانيين إلى المنطقة هي عقيدة “الدولة المتفوقة” على جيرانها من العرب، ويؤمن الإسرائيليون بالعقيدة ذاتها، فهم الأكثر تقدما عسكريا وتكنولوجيا، والذين انتصروا في جميع حروبهم مع العرب، كما أن الإيرانيين الشيعة، المحاطين ببحر من العرب السنة، والإسرائيليين الذين لا يزالون يشعرون أنهم مستوطنون أوروبيون وروس قدموا إلى الشرق الأوسط، يشعرون أنهم بشكل ما منفصلون عن هذه المنطقة، ثقافياً وحضارياً، وهذا الانفصال طائفي وعرقي وديني لكليهما، ويمكن العثور على نقطة تقاطع بين الإسرائيليين والإيرانيين في المسألة العربية، وهي أن الطرفين يفضلان دوما سياسة “لا سلم ولا حرب”، ومن هنا يأتي دور الوكلاء، وكذلك دور تصعيد العنف في سوريا بدفع إيراني، لأن من شأنه أن يؤجج الانقسام الطائفي، ويشعر إسرائيل بالتهديد الدائم.
إلا أن إسرائيل تكثر اليوم من نشر الوثائق والمعلومات عن شبكة انتشار مصانع الأسلحة الإيرانية في سوريا، وليس من قبيل الصدفة إعلانها بعد سنوات عن تفاصيل تدمير المفاعل النووي السوري في منطقة الكبر في دير الزور، تفعل هذا بدافع آخر، للضغط على الولايات المتحدة التي ذهبت بعيداً في ما يمكن أن يخلخل تلك العلاقة الجيوسياسية الدقيقة، فمنح إيران المزيد سيجعلها في تموضع آخر.
تقصف إسرائيل المطارات السورية لإعادة الدقة إلى ميزان تلك العلاقة، لا لفتح حرب مع الإيرانيين الذين لا يستطيعون شن حرب مباشرة على إسرائيل، فهذا قد يكتّل من حولهم جميع أعدائهم العرب، ليجدوا أن أعداء إسرائيل السابقين أنفسهم، في طور جديد، يدافعون عنها ضد عدوان من تحولوا إلى التهديد الأكبر في المنطقة أي الإيرانيين.
وهكذا يصبح بإمكان إسرائيل زيادة التصعيد إلى حدوده القصوى، فالرد الإيراني لن يكون خارج التوقعات. ولن تكون الضربات الحالية ولا القادمة سوى كما وصفها رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، رام بن باراك في مقابلة مع “راديو يديعوت أحرونوت” بأنها “رسالة إلى الأسد، تسببت في شل قدرة بعض الطائرات على الهبوط، ليأخذ الأسد بعين الاعتبار أن الطائرات (الإيرانية) التي تحط في مطار حلب تؤدي دوراً ضد إسرائيل”.
وفي مثل هذا المناخ المعقد، سيكون ضروريا جداً أن تقوم شركة الاستخبارات الفضائية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة من شهر أغسطس الماضي بنشر صور أقمار اصطناعية تظهر تفكيك الروس ونقلهم لمنظومة الـ”إس – 300” من سوريا إلى أراضيهم، وقد أكدت ذلك صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” وبينت أن نظام الدفاع الجوي المذكور تم نقله إلى ميناء طرطوس الذي تسيطر عليها روسيا، ثم تم شحنه إلى ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود.
إسرائيل سبق وأن أعربت عن غضبها من الروس حين نشروا منظومة “إس – 300” في سوريا عام 2018، ليأتي سحبها الآن من الأراضي السورية بمثابة ضوء أخضر إضافي للإسرائيليين لمواصلة شن الضربات الجوية ضد الأهداف الإيرانية التي يرون فيها تهديداً لهم.
عذراً التعليقات مغلقة