الحرب الروسية على أوكرانيا مستمرة، والدعم العسكري الغربي لأوكرانيا مستمر هو الآخر. واللافت هو أن هذه الحرب تمتلك طابعها الخاص، فهي ليست نزاعاً بين دولتين سينتهي بمجرد التوصل إلى توافق ما حول المختلف عليه. وهي في المقابل لم تصبح بعد حرباً إقليمية أو دولية مفتوحة رغم وجود مؤشرات توحي بذلك. ولكن البيانات والتصريحات والتحركات والاصطفافات الدولية توحي بأننا أمام مواجهة شبه مفتوحة بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وروسيا والدول القريبة منها أو المرتبطة معها باتفاقيات اقتصادية وعسكرية، أو تلك التي تشاركها توجهاتها الجيوسياسية، من جهة أخرى.
فهناك دعوات لبلورة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهناك حديث في المقابل عن ضرورة استنزاف روسيا، حتى تصبح غير خطرة على الأوروبيين وغير ذات تأثير في المنافسات الاقتصادية، وربما الصراعات العسكرية، التي قد تحدث إذا ما استمرت سياسات التصعيد مع الصين.
ولكن الأمر الذي لا جدال حوله هو أن هذه الحرب باهظة التكاليف بالنسبة للأوكرانيين أولاً، فهم الذين يتعرض بلدهم للتدمير، وشعبهم للقتل والتهجير. كما أنها مكلفة بالنسبة إلى الروس نتيجة العقوبات الغربية غير المسبوقة التي طبقت في انتظار المزيد؛ هذا بالإضافة إلى تكاليف الحرب نفسها في الجانبين المادي والبشري.
ولكن خسائر هذه الحرب لا تقتصر على أوكرانيا وروسيا وحدهما، بل تشمل الدول الأوروبية خاصة الغربية منها، كما تشمل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بالإضافة إلى العديد من الدول في مختلف القارات. ويتجلى ذلك بصورة خاصة في ارتفاع نسب التضخم والبطالة، وحدوث أزمات مستعصية الحل في ميادين الطاقة والمواد الزراعية واللجوء. أما في منطقتنا فإن ملف الحرب الروسية على أوكرانيا يتفاعل مع جملة من القضايا والصراعات الإقليمية التي تستوجب الحل. وهي قضايا ذات أولوية حيوية بالنسبة إلى شعوب ودول المنطقة، ومن أهم هذه القضايا: الفلسطينية والسورية والعراقية والحرب اليمنية والوضع المتأزم في لبنان، والقضية الكردية بمختلف خصوصياتها في عدد من دول المنطقة (تركيا، العراق، إيران، سوريا).
وهي قضايا أنهكت مجتمعات ودول المنطقة، وفتحت المجال أمام التدخلات الأجنبية بكل أشكالها، بما في ذلك العمليات القتالية التي تقوم بها الجيوش الوافدة والميليشيات التابعة لها. ويُشار هنا على سبيل المثال إلى الوجود العسكري الإيراني والتركي والروسي والأمريكي، إلى جانب المجموعات المسلحة المرتبطة بكل طرف من هذه الأطراف. هذا بالإضافة إلى الدور العسكري الإسرائيلي الذي يأخذ في معظم الأحيان طابع القصف الجوي والصاروخي.
وبغض النظر عن مظاهر التصعيد الني نجدها اليوم بين كل من إسرائيل وإيران، بات من شبه المؤكد أن النزعة التوسعية العدوانية الإيرانية قد أفادت إسرائيل كثيراً من ناحية أنها مكّنتها من تطبيع علاقاتها بصورة رسمية علنية مع عدد من الدول العربية، وأظهرت اتصالاتها العلنية مع دول عربية أخرى، وذلك تمهيداً لعمليات تطبيع جديدة.
من جهة أخرى، عززت السياسة الأمريكية التي تمحورت حول فكرة الانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط، والتركيز على الشرق الأقصى، وهي السياسة التي تم الترويج لها، وتطبيقها في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، الشكوك لدى الدول الإقليمية التي كانت تقليدياً، وما زالت، تدور في فلك السياسة الأمريكية، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى السعودية وتركيا، ومصر إلى حدٍ ما. فقد شعرت هذه الدول بتراجع أهميتها في حسابات الجانب الأمريكي، وذلك لأسباب مختلفة. وما كرّس هذا الشعور هو أن الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب لم تبذل الجهود لتبديد مخاوف الحلفاء والشركاء في المنطقة. بل على العكس من ذلك، كانت هناك تصريحات وإجراءات أسهمت في خلخلة الثقة بالموقف الأمريكي، ودفعت بعدد من دول المنطقة نحو البحث عن بدائل على أساس المصالح المشتركة. وكانت روسيا والصين في مقدمة هذه البدائل، وذلك لتجاوز تداعيات الانكفاء في الموقف الأمريكي الذي اتخذ هو الآخر مظهر الراغب في الوصول إلى تفاهمات وصفقات مع الجانب الروسي محورها تنسيق المواقف وتوزيع المهام. وهذا ما لاحظناه بوضوح في الموضوع السوري الذي تحول بفعل التدخل الروسي من قضية شعب ثائر على الاستبداد والفساد والإفساد إلى قضية محاربة الإرهاب، وذلك بعد تعليق، إن لم نقل إلغاء، موضوع هيئة الحكم الانتقالي الذي نص عليه بيان جنيف 1 عام 2012، وتركيز الجهود على اللجنة الدستورية العبثية البدعة الروسية.
من جهة أخرى، كان للصمت الأمريكي إزاء الهجمات التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية من قبل الحوثيين بتوجيه وأوامر من رعاتهم الإيرانيين مفعوله من ناحية تراجع مستوى ثقة القيادة السعودية بالوعود والتسويفات الأمريكية.
في هذه الأجواء، وضمن إطار الجهود الحثيثة التي تقوم بها راهنا الولايات المتحدة الأمريكية لاستعادة الثقة والتنسيق بينها وبين حلفائها، عقدت قمة جدة التي جمعت بين قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن والرئيس الأمريكي.
لقد قيل وكتب الكثير حول هذه القمة والقمم الأخرى التي عقدت بمناسبتها في جدة، قبل انعقادها وبعد انعقادها، وتراوحت التقديرات بين التبشير بتحولات نوعية استراتيجية في المنطقة، وبين التشكيك في إمكانية الوصول إلى توافقات واضحة ملموسة، مدعومة بخطة عمل واضحة، ترمي إلى تطبيق ما تم الاتفاق حوله بخصوص القضايا المطروحة على أرض الواقع.
أما النتائج التي أسفرت عنها القمة فلم تكن بمثابة الوصفة السحرية لمعالجة جملة القضايا المطروحة المعقدة التي تحتاج إلى تفاهمات إقليمية ودولية أوسع وأعمق. وبعيداً عن حالة الاستقطاب التي يعيشها العام راهناً، وتتأثر بها منطقتنا بصورة مباشرة وغير مباشرة.
ولكن ما يسجل للقمة أنها فتحت المجال أمام إمكانية النهوض بعمل عربي مشترك، من شأنه الإسهام في استعادة التوازن المختل بين القوى الإقليمية الأساسية، ووضع حدٍ للمشاريع التوسعية التي أنهكت مجتمعات ودول المنطقة.
وفي الوقت ذاته، كانت القمة فرصة لتأكيد ضرورة تفهم الجانب الأمريكي لطبيعة قضايا المنطقة، والتحديات التي تواجهها سواء من ناحية الملف النووي الإيراني، أم من جهة تآكل موضوع حل الدولتين الذي ما زالت الولايات المتحدة تعتبره الحل الممكن اعتماده بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
كما أن التمدد الإيراني في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن لم يعد من المسائل الداخلية الخاصة بكل دولة من هذه الدول، وإنما بات يمثل حالة إقليمية أسهمت، وستساهم مستقبلاً، في زعزعة الأمن والاستقرار في الإقليم كله.
وطالما لا توجد استراتيجية أمريكية واضحة في كيفية التعامل مع هذا الخطر المستمر منذ عقود، فمن الصعب ترسيخ أسس الثقة المتبادلة بين الطرفين، وهي الثقة التي تزعزعت في عهد الرئيس أوباما الذي أسفرت سياساته عن الكثير من الأخطاء الاستراتيجية، وهي الأخطاء التي اعترف الرئيس جو بادين بجانب منها، ووعد بتجاوزها.
وفي سعي واضح من جانب روسيا وإيران للتقليل من أهمية قمة جدة، والتشكيك بجدوى نتائجها؛ كانت الدعوة إلى قمة طهران بذريعة أنها قمة خاصة بأطراف مسار أستانا، وهو المسار الذي فرضته روسيا بهدف نسف مسار جنيف، وإلغاء فكرة هيئة الحكم الانتقالي التي جاءت في بيان جنيف 1 عام 2012 الذي توافق عليه مجلس الأمن من أجل إيجاد حل للموضوع السوري. فقد تمكنت روسيا عبر تفاهماتها مع إدارة أوباما، ومن ثم إدارة ترامب من تهميش موضوع الهيئة المقترحة، وركزت في المقابل على موضوع مكافحة الإرهاب المصطنع الذي كان لصالح سلطة بشار الأسد.
ولكن الذي تبين من خلال اجتماعات طهران الأخيرة أن الموضوع السوري كان مجرد ذريعة لعقد القمة المذكورة التي يبدو أن روسيا وإيران كانتا في حاجة إليها لتجاوز العزلة، ومحاولة إقناع الداخل بإمكانية حدوث انفراجات عبر العقود الاقتصادية التي تم التوقيع عليها بين الجانبين، ومن خلال الاختراقات التي قد تخفف من حدة تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة.
أما بالنسبة إلى تركيا فقد حاولت قدر الإمكان الاستفادة من القمة على المستويين الاقتصادي والسياسي، وحرصت على الاستمرار في دور الوسيط بين روسيا أوكرانيا لحل مشكلة تصدير الحبوب، وربما إمكانية الدفع نحو مفاوضات سياسية على أمل الوصول إلى حل ينهي الحرب القائمة اليوم بين الطرفين.
ولكن تركيا هي الأخرى تعاني من تحديات داخلية وأخرى إقليمية، وهي تحتاج في هذا المجال إلى تطوير علاقاتها مع بقية الأطراف الإقليمية، خاصة مع الدول العربية من أجل الحفاظ على التوازنات، وتمهيد الأرضية لتوافق إقليمي عام، لن يتحقق ما لم تتراجع إيران عن مساعيها التوسعية، وجهودها على صعيد خلخلة مجتمعات ودول المنطقة.
ولعل القاسم المشترك بين مجمل التحركات الإقليمية والدولية، هو تركيزها على مصالح وحسابات القوى الدولية العظمى والإقليمية الكبرى. أما تضحيات شعوب المنطقة وتطلعاتها، لا سيما تلك التي تخص الشعب السوري، فهي بالنسبة إلى تلك الحسابات قد باتت في الوقت الحالي مجرد تفصيل أو مادة للمساومات والصفقات.
بازار الصفقات في ظلال الحرب الروسية الأوكرانية
المصدر
القدس العربي
عذراً التعليقات مغلقة