كيف نشأت المزرعة البعثية

ربا الحمود31 مارس 2019آخر تحديث :
ربا الحمود
المحامية والناشطة السورية ربا الحمود

منذ أن نشأ حزب البعث في العام 1947 دأب على استقطاب فئات الشعب كلها؛ بادئاً بالترغيب عن طريق دعم حركات العمال لنيل حقوقهم، والتغلغل في شريحة الفلاحين مع تبني مبادئ الشيوعية المتمثلة في الاشتراكية والعلمانية وتقليدها؛ حيث كانت الشعوب تنظر إليها بانبهار، لكنه حينها لم يكن يملك قاعدة شعبية تجعله حزباً واعداً.

كان البعث يطلق على حركة انقلاب 8 آذار اسم ثورة، ويعتبرها ظهيراً للفلاح والعامل، وهي لم تحقق لهم أي مكاسب تذكر، بل على العكس تماماً، ويطلق مشاريع خدمية “تلزم البلد”؛ وتعتبرها من منجزات (الحركة التصحيحية) وهي مشاريع لأقل الخدمات تواجداً كالكهرباء والماء؛ مع العلم أن سد الفرات الذي نسب كمشروع إلى الحركة التصحيحية مشروع سوفيتي بالكامل.

كان المجتمع السوري حينها منفتحاً على ثقافات متعددة، وأبعد ما يكون عن الطائفية أو المذهبية، ولم يكن يتبنى فكرياً نهج نظام الحزب وأمينه العام.

سارع الحزب “العلماني” ظاهرياً إلى دعم سلطة رجال الدين عن طريق استجلاب رجال دين متزمتين ووصولين للسيطرة على عواطف الشعب وتسييره نحو الأهداف التي يتوخاها؛ كل على طائفته وملته، وفي الوقت ذاته، حارب “الاخوان المسلمين” واعتبر تنظيمهم ممنوعاً وفق القانون 49 لعام 1980؛ حيث يعد الانتساب لتنظيم الإخوان المسلمين جرماً يستوجب الإعدام، ومع محاولة اغتيال فاشلة، وربما مدبرة، للأسد الأب، وتفجير مدرسة المدفعية ككبش فداء، أُبيدَت قواعد الحركة كلها، كونها كانت ذات قاعدة شعبية ولها مريدوها، ثم تلاها مجزرة حماه المروعة التي ذهب ضحيتها آلاف العائلات.

لكن ذلك لم يمنع الحزب من إنشاء علاقات مشبوهة مع إيران مع أنها ذات نظام إسلامي متشدد، ومع مليشيا “حزب الله” لبسط سيطرته على أجزاء من لبنان، على الرغم من أن ذلك أودى بالبلاد إلى سلسلة من العقوبات الإقتصادية أدت إلى إفقار الشعب.

في مرحلة لاحقة من “علمانية” هذا الحزب، توجه إلى تدريب جهاديين وإرسالهم إلى العراق، حيث فتح لهم الحدود بحجة محاربة الأمريكان ودعم الشعب العراقي، وفي الوقت ذاته، كانت هنالك دعوات مفتوحة للطلاب في المراحل الإعدادية والثانوية من فتيات وشباب لمن يرغبون في القيام بعمليات انتحارية (استشهادية)، حسب زعمهم، ليتقدموا إلى مراكز الحزب لدراسة طلباتهم.

كما أنه دعم حركة حماس الفلسطينية التي تعد حركة دينية أصولية، وافتتح لها مكاتب في دمشق وسمح لأعضاء منها أن يكون لهم مطلق النشاط والحرية في سوريا؛ ليستخدم اللاجئين الفلسطينين ورقة سياسية لا إنسانية.

ولتدعيم الحزب وفرضه كقاعدة أساسية له في المجتمع، استقدم عدداً من الموظفين وأغدق عليهم عطايا الفساد وسمح لهم بالسرقة من دون حسيب أو رقيب ليكونوا يداً وعوناً للأسد وحزبه، وعيوناً لهم في مؤسسات الدولة الفاشلة التي وصلت حد التخمة في التوظيف غير المقنع وسرقة المعدات؛ حتى باتت مؤسسات النظام ومنشآتها تمثل مزارع شخصية للمدراء القائمين عليها، في ذلك الوقت كان امتلاك سيارة بمثابة حلم للمواطن، لكنها كانت تمنح لمن يبدي ولاءه فحسب.

كما أن المهرجانات الخطابية كانت تفرض في المؤسسات ذاتها بشكل شهري ولساعات، ويفرض على طلاب المدارس والجامعات حضورها، وتقام احتفالات عارمة لا يعرف سببها، توضع لها ميزانيات ضخكة لأغراض الزينة، وتُسرق مئات الآلاف حينها تحت بند تزيين الطرق.

ومن ثم وُضِعَت تماثيل ومجسمات للأسد وابنه باسل على مداخل المحافظات والبلدات الصغيرة كلها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأ حملة لتبديل أسماء الشوارع والساحات والمدارس والملاعب والمستشفيات والبحيرات وحتى السدود التخزينية الصغيرة لتكنى بتسميات البعث؛ فأصبحت بحيرة مشقتيا بحيرة تشرين وأغلب السدود التجمعية الصغيرة كانت تسمى بـ سد الباسل أو بحيرة الباسل، وما إلى ذلك من تسميات يعرفها أصحاب المنطقة باسم، ونجدها على غوغل باسماء بعثية أخرى.

ومن ثم ابتدع الحزب بدعة التدشين التي ينسب فيها أي بناء أو عمل إلى الحزب وليس إلى العمال الذي عملوا وتعبوا، وبالتزامن كان أي صوت أو قلم ينتقد أسلوب الحزب ويقوم بخطوات “أكبر من حجمه” يتعرض للاعتقال، ولا يفرج عن أحد إلا بعد أن يوقع تعهداً أنه لن يكتب ما يخالف سياسة الحزب، وقد يُنفى إلى خارج البلاد، أو يبقى مغيباً تحت الأرض.

ولأجل اختراق منظومة الجيش، فتح الأسد أبواب الكليات العسكرية بكل فروعها وعلى مصراعيها للشباب السوري “العلوي”، مع تضييق الخناق على الشباب “السني”، ليضمن أن ترجح كفة الجيش لمصلحته، وسلمهم لاحقاً مناصب رفيعة في الجيش لتمر صفقات السلاح بالسرية التي يريد، مع تنسيب طلاب الكليات العسكرية بشكل روتيني إلى البعث. وكانت تلك الفترة المستنقع الخصب الذي تكاثرت عليه كل أنواع المتسلقين الذين ركبوا موجة الحزب وسرقوا ونهبوا باسمه وهللوا له على تلال من الاستثمارات والنقود.

بعد ذلك، أُعلِنَ بشكل  رسمي عبر “المعلم” في بدايات العام 2000 أن إيران حليف قوي، ومنح لنهج “التشيع” فرصاً استفزت المجتمع السوري، ومن باب اهتمام الحزب بالمرأة السورية كي لاتفلت من زمامه، التفت بداية إلى شريحة النساء لاستقطابهن؛ فأنشأ لهن تجمعاً تحت اسم الاتحاد النسائي الذي لم يقدم أي شيء يذكر للمرأة السورية، ومن ثم ألغاه، لكن ليس لثبوت فشله بل لأنه وجد وسيلة أكثر فعالية منه عن طريق مجتمع جديد للنساء يكنى بـ (القبيسيات).

فالحزب كان يرتدي ربطة عنق العلمانية، كان في الوقت ذاته يضع فوقها عباءة رجل الدين. وما زلت أذكر المفارقة التي حدثت في إحدى خطابات الحزب وتناقلتها الأخبار والألسن حول أحد الناس عندما نادى رئيس فرع حزب إحدى المدن “شيخي”، فهمس له رئيس فرع الحزب “يا ابني شيخي بالجامع هون بتناديلي رفيق”.

ومنذ انطلاق الثورة السورية في العام 2011، وقمع النظام لها بتلك الوحشية المرعبة، وأمام شعور النظام متمثلاً بحزبه المتآكل أنه على أعتاب النهاية، استقدم النظام حثالات الأرض كلها ليجعل من أرضه حلبة للاقتتال، وتصبح البلد ركاماً ولم يبق منها حجراً على حجر، وبات يمارس سياسة النعامة مذعناً للضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية بتنسيق بين روسيا وإسرائيل لأن مصالحهما واحدة ضد المصالح الإيرانية؛ حيث أن مواقع النظام لم يتبق فيها مايستحق عناء القصف.

ورغم كل هذا.. ما زال هذا الحزب يرقص على جثث شعبه ويقمعه حتى في لقمته؛ ولو كلفه ذلك ألا يبقى سوري واحد في بلاده!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل