ملحمة الرصافة.. الحدث المفصلي في تاريخ الثورة في ديرالزور

عهد صليبي19 مارس 2019آخر تحديث :
عهد صليبي
عهد صليبي

حفلت الثورة السورية بكثير من الأحداث، منها ما كان مفصلياً، ونقلتها من ضعف إلى قوّة، ومن تستر وتخفي إلى ظهور وعلن، وبالعكس مع فارق الزمن.

وكما هو معروف في تاريخ الحروب أن التاريخ يكتبه المنتصر، وقد قال القدامى: إنَّ الثورة يُخطّط لها العباقرة، يخوضها الشجعان ويقطف ثمارها الجبناء، وأضيف على ذلك أن الثورة يكتب تاريخها الجبناء، ولأننا ثوار موقنون بالنصر ولو بعد عشرات السنين يتوجب علينا كتابة تاريخنا بأيدينا، وإلا سيضيع التاريخ ويزوّر، ويكتبه الجبناء، الذين سيخرجون من أقبيتهم بعد انتهاء الحرب سواء كانت الثورة منتصرة أو مخمدة.

حدث مفصلي في تاريخ ثورة ديرالزور:

في هذا اليوم لديرالزور ذكريات كثيرة على مرّ تاريخها الثوري، فقد خرجت أول مظاهرة في ديرالزور في التاريخ ذاته، في الثامن عشر من آذار/ مارس 2011، وفي التاريخ ذاته من العام 2012 كانت النقلة النوعية في تاريخ ثورة ديرالزور، وإعلان الثوار قوَّتهم العسكرية تحت مُسمّى “الجيش السوري الحرّ”.

عندما أرادت قوَّات الأسد مهاجمة المقرات السرية للجيش الحر في حي الرصافة، وكانت هناك مقاومة شرسة من الجيش الحر المنضوي تحت كتيبتيّ “عمر بن الخطاب” و”عثمان بن عفان”، الذي هاجمته قوّات الأسد بعشرات العربات الثقيلة والدبابات ومئات العناصر،حاصرت القوات الجيش الحر في ثلاثة أبنية، لا يفصل بينها إلا شارعان الواحد منهما عرضه خمسة أمتار فقط.

كان عدد الثوار قرابة 75 عنصراً، وفي المقابل أعداد قوّات الأسد حوالى 500 عنصر، مُجهّزين ومدعومين بكافة أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة والمتوسطة، ولا سيّما المدفعية الثقيلة المتمركزة على جبل ديرالزور المطل على مقرات الثوار بشكل كامل وقريب جداً، وهذا الجبل يُعدّ أحد أكبر الثكنات العسكرية للنظام في ديرالزور.

تفاجأ الثوار آنذاك بالهجوم المباغت، لأنَّ مقرَّاتهم لم يكن يعرفها أحد، لكن وجودها في وسط حي سكني مُنشئ حديثاً وتسيطر عليه قوات الأسد، فرض واقع الحال، ونام الثوار بعد منتصف الليل، بعد أن استقبلوا عناصر منشقين حديثاً وأحد ثوار ريف حلب “محمد السخني”، ثم استفاقوا على صوت قذيفة من عربة BMP، أسقطت أحد جدران شقتهم وتسببت بإصابة أحد عناصر الجيش الحر، يروي أحمد “رقيب أول منشق” الحادثة، ويقول تخلل دوي القذيفة صوتٌ مبحوحٌ: “قوموا قوموا تحاصرنا والدبابات معبية الحارة”.

للوهلة الأولى يظنُّ الثائر نفسه في حلم، حيث بدأ الهجوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً، ليستيقظوا هائمين على وجوههم، ويمسك كلّ واحد منهم سلاحه “بندقية كلاشنكوف RPG، PKC”، وعدد منهم لا يملك سلاحاً، فقطع السلاح كانت قليلة جداً حينئذ، ووزّعوا أنفسهم على عدة نوافذ في المنزل، وقسم منهم اعتلى أسطح الأبنية التي تتألف من أربعة طوابق، خوفاً من أيّ عملية إنزال، ولمحاولة إحكام السيطرة على الشوارع المجاورة، لتبدأ المواجهات الفعلية، ويسقط قتيل من طرف الحر وقتيلان من الطرف الآخر، وبقي الثوار يقاومون حتى استشهد من على سطح البناء المحاصر كلهم، الذين كان عددهم 12 مقاتلاً، ما بين منشق عن الجيش النظامي، ومدني التحق بالجيش الحر حديثاً.

وبسبب كثافة النيران أصيبت بندقية أحمد، وهو (رقيب أول منشق عن الأمن العسكري، وأحد الناجين من الملحمة)، ثلاث مرَّات بطلق ناري، حتى تعطلت نهائياً في المرة الثالثة، ولا وسيلة تواصل بين الأبنية الثلاثة إلا الهاتف المحمول “موبايل”، وهو وسيلة غير آمنة للتواصل، فقد تستطيع أجهزة الأمن سماع مكالماتهم بشكل كامل.

وهنا نفذت ذخيرة الثوار وكثر عدد شهدائهم، وأصيب قائدهم إصابة قاتلة، وبدأ تقدم المشاة من قوَّات الأسد، مع وصول عدد قليل من العناصر من مجموعات الجيش الحر “مقر حي الصناعة”، ليُخرجوا المصابين، واستطاعوا إخراج الحاج محمود.

ولاذ المحاصرون في مكان شبه آمن في داخل المبنى، ودخل عليهم ضابط برتبة رائد ومعه عدد من العناصر، وأطلق عليه أحد الثوار النار ليرديه قتيلاً على مدخل شقتهم، وزحف باتجاهه وسحب سلاحه “بندقية” من تحت جثته، لنعرف لاحقاً، أن من قتل “محمد” هو الرائد “أيهم الحمد” ابن شقيقة آصف شوكت أحد أعمدة النظام آنذاك؛ حسبما حدثني به الرقيب أحمد.

وفي الشقة الثانية قام الثوار بشق جدران الشقة التي يحتمون فيها بأسطوانات الغاز، عبر ضرب الأسطوانة بعرض الحائط، ليخرجوا من المكان الذي أصبحت تطل عليه قوات الأسد بشكل كامل، إلى مكان آخر أقل خطورة، وهنا سرد الحدث لي “سعد” وهو منشق عن الجيش، أنّه وبعد لحظات قليلة من دخولهم إلى “حمّام” الشقة التي يحتمون فيها، توقفت الاشتباكات مع شبه نفاذ ذخيرتهم.

ولم يعلموا ما الذي حصل مع رفاقهم في الشقتين المجاورتين، بعد أربع ساعات من الاشتباكات المتواصلة، حتى بدأ الثوار يسمعون صوت خطوات عناصر يمشون في داخل شقتهم، وعرفوا أنَّ موتهم أصبح قاب قوسين أو أدنى، وهم يلهجون بالدعاء ليخرجهم الله مما هم فيه، حتى دخل عليهم أحد عناصر الجيش، وأومأ برأسه أن اصمتوا، وصرخ لرفاقه قائلاً: “الشقة فاضية يا شباب، الكلاب انهزموا”، وراح يُخرِج من معه من الشقة إلى سطح البناية، وعاد لهم بقوله: “أني من درعا ومجند مغلوب على أمري .. وأنتوا إخوتي، لا تطلعوا من الحمّام إلا تسمعوا صوت الدبابات والعربات مشت من هون”.

وبقي الثوار في مكانهم حتى سمعوا أصوات هتافات “الله.. سوريا.. بشار وبس” مكررين ذات الهتاف عدة مرات، وبدأ ينخفض صوتهم مع إقلاع العربات من المكان؛ وراحوا يتجولون على جثث الشهداء في أحياء مدينة ديرالزور.

وبعد انسحاب قوات الأسد خرج عناصر الجيش الحر إلى حي الصناعة، ومن ثم في اليوم نفسه غادروا إلى مدينة موحسن “شرقي ديرالزور 20 كم”، مسقط رأس العناصر معظمهم، التي كانت الحاضنة الأكبر للثوار.

ملحمة الرصافة خارج الأبنية المحاصرة:

قبل نصف ساعة من الهجوم كنت في الحي ذاته الذي يتواجد على أطرافه الفرن الآلي الأول في المدينة، كنت أجلب الخبز لعائلتي، ورحت أتجول في أحياء المدينة بدراجتي الهوائية، وكان من ضمن الأحياء التي مشيت فيها حي الرصافة الذي دارت فيه الاشتباكات وهو مشروع سكني حديث البناء، لم أكن أعلم أن بعد قليل ستجري في هذا المكان إحدى أعظم معارك الثورة السورية، ولم أكن أعلم أن هذا الحي يتواجد فيه عناصر الجيش الحر، الذين كُنّا حينها نسمع عنهم فحسب،  ونادراً ما نراهم في المظاهرات لحمايتها من قوات الأمن.

بدأت الاشتباكات بعد وصولي إلى منزلي في الساعة التاسعة صباحاً، وانتهت في الثانية ظهراً، ومرّت من أمام أعيننا سيارات الأمن والعربات تحمل جثثاً لا نعرف من الذين يحتفل النظام بقتلهم، حتى بدأت مجموعات برنامج السكايب تزف الشهيد تلو الآخر، معظمهم من أبناء عمومتي، من مدينة موحسن، حتى بلغ عددهم 21 شهيداً، 18 منهم من موحسن، واثنان من حلب، وواحد من اللاذقية.

شهيد من الحر يكتب الحرية بدمه:

كتب ماهر الأعكف أحد عناصر الجيش الحر “حريّة” بدمه، وهو يُنازع سكرات الموت على جدار سطح البناية التي كان يتمترس فوقها، كتب الكلمة بدمه، وسار في طريقها بقدميه، حتى صعدت روحه في سبيلها.

ونشرت صفحات تنسيقيات الثورة مقطعاً مصوراً من أحد الأبنية القريبة من الاشتباكات، يظهر إلقاء عناصر النظام جثث عناصر الجيش الحر من على أسطحة الأبنية على الأرض.

كما سُرِّبَ تسجيل آخر من أجهزة أحد عناصر الجيش الذين كانوا مشاركين في الحملة، يظهر تمثيلهم بجثث عناصر الجيش الحر، وسبهم وشتمهم، وشتم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد معرفتهم باسم الكتيبة التي ينتمي إليها عناصر الحر.

تشييع شهداء معركة الرصافة في ديرالزور

شهداء ملحمة الرصافة:

الحاج محمود يوسف المحيسن قائد كتيبة عمر بن الخطاب -محمود الخلف البرجس -عبدالمنعم الخلف البرجس – عبدالله الخلف البرجس – يوسف خميس الستيفان – زياد محمود المتعب – عقبة يونس العبيد -أحمد يونس العبيد – إبراهيم حميد حميدي الصالح – إبراهيم أحمد المعيوف – محمد جاسم العبادة الصالح – إبراهيم أحمد الحمود – عز الدين الفناد – غازي فاضل العليوي – منذر محمود العبد العساف – ماهر أعكف المناور – رافد علي الجابر -محمود بديع الجاجان – محمود غياث السندة “حلب” – محمد حسين السخني “حلب”- علاء الدين ابليلو “اللاذقية”.

فيديو تشييع لعدد من شهداء معركة الرصافة في ديرالزور

ما أحدثته معركة الرصافة من نقلة في تاريخ ثورة ديرالزور:

قبل معركة الرصافة لم يكن عدد المنشقين في دير الزور يتجاوز مئة عنصر ما بين عنصر وضابط، وكانت نسبة المدنيين الذين التحقوا بالحراك المسلح أكبر بعدة مرات من العساكر المنشقين.

كانت الحياة مدينة ديرالزور نهاراً تسير كما يجب، الطلاب في المدارس، والموظفين في دوائرهم والفلاحين في بساتينهم وأراضيهم، وكانت عمليات الجيش الحر تقتصر على ساعات الليل المتأخرة، وضرب الحواجز التي تسبب أذى للمدنيين فحسب، وبعض الأفرع الأمنية التي كانت تنطلق منها دوريات لقمع المظاهرات السلمية.

لكن النظام أراد زعزعة أمن المدينة واقتحامها بأي شكلٍ من الأشكال، وهاجم مقرات الرصافة، وتعامل مع ذوي الشهداء بعنجهية، ولم يسلم جثثهم إلى ذويهم إلا على دفعتين، الدفعة الأولى بعد ثلاثة أيام والثانية بعد خمسة أيام؛ وهذا ما تسبب بقلب الطاولة على رأس النظام في ديرالزور.

فأعداد المنشقين تفاقمت وتزايدت بكثرة تحديداً في مدينة شهداء الرصافة “موحسن”، والمعروفة بارتفاع أعداد نسبة الضباط والمتطوعين فيها ضمن قوام الجيش السوري، وقد وصل عدد المنشقين في موحسن وحدها إلى 450 منشقاً ما بين عنصر وضابط في شهر واحد فقط من بعد معركة الرصافة.

ليتابع الناجون من معركة الرصافة عملهم الثوري، ويُشكّلون أول لواء في المنطقة الشرقية باسم “أحفاد محمد”، كان يضم اللواء 600 عنصر لحظة إعلانه، لتبدأ مسيرة تحرير المحافظة، فقد تحررت مدينة موحسن في التاسع من يونيو/حزيران من العام 2012 ذاته، ثم تحررت مدينة العشارة بعد يومين فقط، وبعدها مدينة الميادين، وقرى خط الجزيرة واللواء 113 صواريخ، وأحياء المدينة معظمها، حتى وصلت نسبة المحرر إلى 90٪ من مساحة المحافظة “مدينة وأرياف”.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل